1. أتمشّى في الشارع الرئيسيّ لهذه العاصمة الكئيبة. عيني اليسرى مريضة. وضعت نظّارة سوداء لإخفائها. كان يتوجّب عليّ أن أقطع الشارع بعد أن غادرت مركز البريد. الحرارة شديدة جداً. رائحة العرق تفوح في الهواء. تطير معها أعضاء تناسليّة تطغى على الكلمات. عيون الذكور تتابع المؤخِّرات والنّهود. عيون الإناث تتابع المحلاّت. عيون المتسوّلين لا تتابع شيئاً، الأسفلت يفتَكُّها. توجد عيون تتابع عيون الكُلّ.نصف الشّارع مغلق بأسلاك شائكة. وزارة سياديّة تخاف من شيء مجهول. ثلاث طرق فرعية تؤدّي للشّارع الرئيسي مغلقة أيضاً بأسلاك شائكة. سفارة المُحتلّ تحتلّ مساحة جيّدة. بنك أجنبي يحتلّ مساحة أخرى. مسرح بلدي مغلق للعطلة الصيفيّة. عشر حانات على ما أظنُّ، أكثر من نصفها ذكورية فقط. عدد لا بأس به من مقاهي بيع مشروط. تمثالان لا تستطيع أن تصوِّر بجانبهما، لطولهما. أسراب من العصافير تترك هداياها العفنة على رؤوس النّاس. أسراب من أعوان الشرطة تأخذ هداياها العفنة من جيوب النّاس.
في الطريق إلى بيتي، هذا ما رأيته بعين واحدة، فاليسرى كانت مريضةً.

ديفيد غريغز ــــ من دون عنوان (زيت على كانفاس ــــ 78.5 × 66.5 سنتم ــــ 2020)

2. أقف أمام سيارة النقل الجماعيّ في المحطة. يتدافعُ النساء والرّجال بمساواة تامّة. يتلاكمون في بعض الأحيان وتخرج من أفواههم شتائم متشابهة أثناء صِراعهم. غالباً يستعملون الأعضاء الذكورية ككلمات نابية. في الكلام البذيء تغيبُ عنهم فكرة المساواة. تتسعُ السيّارة الواحدة لتسعة أشخاص ويتصارعُ على تلك الأماكن العشرات. يصعدُ الأصحّاء والأقوياء قبل الآخرين. في كلّ مرّة، في هذا المكان، أتذكّر لعبة الكرسي التي كنا نلعبها أيامَ الطفولة.
أتّكِئُ على الجدار المقابل وأتناول سيجارة. أُشعلها. أشاهد حلقة جديدة كل يوم.
يتغيّرُ الأبطال لكن الأحداث تتشابه. موسيقى الراي والراب تملأ الهواء الذي لا يزالُ لحد الآن دون مقابل. كل من يتّجه نحو هذه المحطة مصابٌ بعاهةٍ نفسيّة واحدةٍ على أقلّ تقدير. من المُستحيل أن تكون إنساناً سليماً في هذا المكان. كلّ ما يُحيط بالمحطّة مُثيرٌ للشفقة: عربةٌ لبيع البيض مُتّسخة مثل يد صاحبها. مقهى من دون مرحاض ومن دون أبواب ومن دون نادل، وقهوةٌ من دون قهوة؛ أعقاب السّجائر تملأ الأرضية، تُزاحمها بقايا مأكولات وسوائلُ بشريّة خرجت من كل ثغرات الجسد. روائحُ غريبة تسبحُ في هواءٍ مُلوّث. سائقو العربات وصياحُهُم المُستمرّ والذي يجعلك تكرهُ المدينة. كل الألوان باهتةٌ شاحبة. في هذه المحطة تتأكّد أنك تُلازم القاع في هرم ماسلو (Pyramide de Maslow). لا انتماءَ ولا عاطفةَ ولا حُبّ ولا جمالَ ولا خيرَ ولا أمانَ ولا ثقةَ ولا احترامَ ولا نجاحَ ولا عائِلة. فقط أنانيةٌ تتجلّى في أبهى حللها. كلّ شخص في ذلك المكان عبارةٌ عن أنانيّة مُتجسّدة في إنسان. كمٌّ كبيرٌ هائلٌ من الأنانيين الذين يعتقدون أنهم بشر. في كلّ يوم أُحسّ أن مُستوى الأنانيّة في المدينة يزداد. نظاراتٌ شمسية تُغطي العُيون، كمائمُ تُغطي الأنفَ والفم، سمّاعاتٌ تُغطّي الأذُنين، قبّعةٌ تُغطّي الرأسَ والعقلُ تُغطيهِ الأنانيّة.
أتّكِئُ على الجِدار المُقابل وأتناولُ سِيجارة. أُشعلها. أشاهِدُ حلقةً جديدةً كُلّ يوم. يتغيّر الأبطالُ لكنّ الأحداث والأماكِنَ تتشابه. محطّةُ النقل الجماعيّ؛ سيارةُ التاكسي؛ المتاجر؛ المقاهي والحانات؛ المعاهدُ والجامعات؛ الإداراتُ العموميّة والخاصّة؛ المستشفياتُ والمِصحّات؛ مجالسُ النوّاب والوُزراء؛ قصرُ قرطاج؛ الأحزاب والجمعيّات؛ الولايات والمُدُن والقُرى والأحياءُ وكلّ البيوت؛ كُلّها محطّةُ نقلٍ جماعيّ. تتغيرُ الملابسُ والروائحُ والأبطالُ لكنّ الأحداث تتشابه. أنانيةٌ تزداد وتنتفخُ وتزدادُ وتنتفخُ ولا تنفجر. أنانيّةٌ تتحرّكُ في مساحةٍ كبيرة تُسمّى وطناً، وفي بعض الأحيان يُسمّونها «نقلاً جماعيّاً». أنانيةٌ عُظمى، مُقدّسةٌ وتنتخبُ وتُبدي رأيَها في كُل شيء.
بعد ساعاتٍ من التأمُّلِ كُلّ يوم، أُطفئ سيجارتي، أتدافع وأشتُمُ وأتَلاكمُ. أتذكّرُ أني لا زلتُ في صِحّة جيّدة. أصعدُ في سيارةِ النقل الجماعيّ. أضعتُ وقتاً كثيراً من دُون جدوى في التأمُّل. أصلُ إلى بيتي بكامل أنانيتي.
هذه المرة كتبتُ هذا النص إلا أني في العادة أتناول العشاء وأنامُ مباشرة.
غدًا يومٌ جديد.

* تونس