يرصد عماد فؤاد في كتابه «على عينك يا تاجر» (دار «ميتافورا للنّشر والترجمة» في القاهرة) ظواهر جديدة اجتاحت سوق الأدب العربي في أوروبا، بسطوة السوشال ميديا التي أفرزت سلعة قابلة للتداول تحت ذرائع مختلفة، بصرف النظر عن تاريخ الصلاحية وقيمة المنتج. وإذا بكتب «البست سيللر» تغزو سوق النشر بوصفها سلعة مطلوبة ورائجة، كما لعبت بعض الجوائز العربية دوراً صريحاً في تصدير طراز من الأدب يتوافق مع موضوعات محددة، ما أدى إلى لفظ عشرات الكتب الثقيلة معرفياً خارجاً، كاستجابة نوعية لنظام التفاهة، حيث تنتصر الوظيفة على الحرفة، ويغيب مفهوم الصنعة عن حقل الأدب، وفقاً لتصورات آلان دونو. هكذا اقتحم «الميديوكر» الأدبي واجهة المشهد واحتلها علناً، رغم ضحالة موهبته وبسببها، ذلك أن «العادي» اليوم هو من يقتنص الفرص غير عابئ بالإهانة، أو هدر الكرامة الشخصية، مستخدماً أجنحة مزيّفة للطيران عالياً، محمولاً على قضايا الهجرة والاضطهاد والمنفى، مبحراً بسفينة «الربيع العربي» المحمّلة بعشرات الأسماء التي لم تكن يوماً على قيد نفوس الأدب. ذلك أن «كتيبة الحمقى» التي هجاها إمبرتو إيكو بضراوة، باتت رموزاً للمرحلة الراهنة. «ميديوكر الأمس» الذي كان يوصف بـ «عديم الموهبة»، و«المتسلق»، و«الوصولي»، و«المزيّف»، خلع هذه الصفات عنه، نظراً إلى سهولة تشكّله ومواءمته لأمزجة من يتربعون على مراكز القوى والسلطة، وجرى تعليبه وتسليعه على عجل ليكون في قلب المشهد. لكنّ هؤلاء «المثقفين المزيّفين» وفقاً لكتاب الباحث الفرنسي باسكال بونيفاس، لا يتورعون عن صنع الأكاذيب وتلفيق الحقائق.


وبهذا المعنى، فإن الميديوكر يدرك أنّه «ليس موهوباً، لكنّه يستعيض عن قلّة الموهبة هذه بالاجتهاد المستمرّ، فيما تتكوّن في ذهنه يوماً بعد يوم هالة كبيرة عن ذاته وعمّا يقدّمه من «ضحالة»، ومن ثمّ يكون من الصّعب على أيٍّ كان أن يقنعه بغير ما يظنّه عن نفسه، ستجده يعادي كلّ من يخالفه الرّأي أو ينتقد عمله بشكل مباشر». وفي أحسن الأحوال، فنحن نحتفل اليوم بأنصاف المواهب، وربما بأرباع المواهب، حسب قانون «الوفرة». يتكئ صاحب «عشر طرق للتنكيل بجثة» على أبحاث ميدانية وتحليل نصوص، ومقابلات صحافية لرسم خرائط الأدب العربي في أوروبا وكيفية التسلل (العاطفي) إلى المؤسسات الثقافية بأدواتها، كما فعلت «ميليشيا الثقافة» التي أسسها شعراء عراقيون واقتحموا بنصوصهم المصوّرة «جنّة البرفورمانس» أو فن الأداء الشعري، قبل أن تتراكم البيانات والبيانات المضادة بين مؤسسيها في سجالات ردح إقصائية، وادعاء الأهمية والريادة.
هنا ينصح عماد فؤاد من يتطلّع إلى العالمية بقوله «اذهب إلى الجزّار واملأ كيساً كبيراً بالعظام المتبقّية من الذّبائح وارفعها أمام الجمهور وأنت تصرخ فيهم: هل تعرفون ما هذا؟ هذا هو كلّ ما تبقّى من الشّرق، هذا هو ما تبقّى من الشّرق». على المقلب الآخر، يعتني الأوربيون بالقضايا الساخنة التي تتعلّق بحرية التعبير بصرف النظر عن أهمية تجارب أصحابها إبداعياً. عدا ظاهرة يحيى حسن الذي ألهب مشاعر الدنماركيين بنصوصه التي تهتك أسوار الغيتو العربي، وترجمتها إلى أكثر من لغة بما يتوافق مع تطلعات الأحزاب اليمينية المتشددة تجاه عالم اللاجئين، تذهب معظم الترجمات نحو «الكيتش السياسي والثقافي والنسوي» حسب ما تقول إيمان مرسال في محاضرة لها، منوهة إلى العناية بالضحية لا أهمية النص إبداعياً أو جمالياً، وهو ما يؤكده ياسر عبد اللطيف بقوله «لم يقم اختيار المؤسّسات الأوروبية لأيّ نصوص عربية للتّرجمة، سواء أكانت شعراً أم نثراً، على معايير أدبيّة أو جماليّة قطّ. هو دائماً اختيار مُسيّس، والأسماء التي نجحت في فرض نفسها خارج هذه المعايير (نجيب محفوظ ومحمود درويش مثلاً) لم يخل حضورها في السّياق الأوروبي من ذلك التّسييس». ذلك أن معظم من عبروا المتوسط نحو الآخر يفكّرون بالحصول على منحة إبداعية فيفصّلون نصوصاً تتوافق مع مزاج الأوروبيين في المقام الأول، فيما ترى وداد نبي المقيمة في ألمانيا «أنّ قسماً كبيراً من هذه التّرجمات ذاهب إلى مكان خطأ ومصيره النّسيان. لا يمكنها أن تكون صالحة لأكثر من بضعة أعوام، ستنتهي فيها هذه الموجة من الاهتمام الأوروبي باللجوء والحروب والثّورات». وتضيف: «هناك مواصفات مطلوبة للأسف آخرها قيمة المنتج الأدبي».
اختيار الأعمال العربية للترجمة يذهب إلى «الكيتش السياسي والثقافي والنسوي»

في هذه السلسلة من الاستطلاعات، يقتحم عماد فؤاد عش الدبابير، خصوصاً أولئك الذين انتقلوا من الهامش أو ما قبل الكتابة إلى لغات فولتير وغوته وشكسبير كمبدعين أولاً، وفرسان بسيوف مشحوذة في مواجهة الطغيان ثانياً. يستشهد هنا بما كتبته جمانة مصطفى بعنوان «أوروبا وصناعة الشعراء: لا أعمال خيرية في الأدب» بخصوص أولئك الذين «انتقلوا من الأميّة إلى كتابة الشعر في غمضة عين»، وعملوا بدأب على استرضاء رغبة المثقف الأبيض بإثارة الشفقة عن طريق قصص يفتقدها ويرفضها عن الاغتصاب والتعذيب الجنسي. «قصص تثير فيه الغريزة والغثيان»، وإذا بسوق الرداءة الأدبية تكتسح ساحة الترجمة وفقاً لقانون العرض والطلب. تتسع مساحة الفضيحة، حين تعلن مؤسسة ثقافية أوروبية داعمة عن قائمة اهتماماتها الأدبية الموجهة إلى الفئات التالية: «ناشطون مستقلون ذوو خلفية يسارية، أو نسوية، أو أناركية، أصحاب البشرة الملوّنة، المهاجرون، المرضى النفسيون، السجناء السابقون، ذوو الميول الجنسية المثلية، «مجتمع الميم»». سوف يستجيب عشرات الحمقى بكتابة ركاكتهم واختراع سير مزيّفة عن مكابداتهم قبل العبور من جحيم بلادهم إلى جنّة أوروبا، بوصفهم كتّاباً تحت الطلب، فالمسألة لا تحتاج إلى طهاة مهرة: ضع قليلاً من اللجوء والحرب والموت، والاستبداد في وعاء واخلطها معاً، وستكون فرصتك محقّقة في الترجمة. من ضفةٍ ثانية، سننتبه إلى «اتحاد مقاولي الثقافة العربية في الخارج»، أولئك الذين يتعهدون المهرجانات والمؤتمرات الثقافية وتوزيع المنح والإقامات الأدبية، ولجان التحكيم، مثلهم مثل أي مافيا مسلّحة بالمصالح، ونبذ كل ما هو أصيل، في حال كان خارج خريطة الصداقة. أجل كل ما يحدث اليوم في ظل هذه الفوضى العمومية، يتواءم مع المثل الشعبي المعروف: «على عينك يا تاجر».