ترجمة: لينا بدر«صبراً، مُنيال يا سَفيرة! تذكّري: يجب ألا يرتاب أحد بإحساسك. يجب ألا يتكهّن أحد بحزنك وسخطك وغضبك. لا تنسي. تمالكي نفسك! بدم بارد! الصبر!».
أبتلع دموعي، أرفع عينيّ نحو السماء كي أمنعها من الجريان. تستأنف عمتي الكلام: «كل هؤلاء النسوة سوف يعاينّك ويرمقنك بازدراء كي يباغتن يأسك أو كرهك له. دون استثناء أي واحدة منهن، إنهن ينتظرن اللحظة التي ستنهزمين فيها فقط. سيكون كل شيء رهن هذه اللحظة. يكفي أن تظهري غمّك كي يسخرن منك. يكفي أن تضعفي لحظة واحدة، ولسوف تتغلّب عليكِ للأبد. ليس هناك عدو للمرأة أسوأ من المرأة نفسها! لا تمنحيهن الفرصة أبداً كي يتحدثن عنك بالسوء. تمالكي نفسك، ابقي قوية ولا تضعفي».
أردفت إحدى صديقات أمي:
- صبراً! عند المحن، نوصيك بالصبر. ابقي قوية العزيمة بمواجهة المصيبة. لا أحد، لا أحد يا سَفيرة يجب أن يعرف أنك حزينة. الغيرة شعور مخزٍ. أنت امرأة نبيلة جداً، بحيث لا يمكن أن تشعري بها، أليس كذلك؟
اتّخذ زوجي امرأة جديدة.

كاسي نامودا ـــ «المرأة الغارقة» (زيت على كتّان ــ 214 × 153 سنتم ــــ 2022)

«اغويه بسلوكك الكريم، بحضورك المحبب، بطبخك اللذيذ، أثبتي له أن ما من امرأة يمكن أن تتفوق عليك البتّة. فائدة تعدد الزوجات، هي أنها تسمح لك باختبار حبه وسلطتك عليه. أنت زوجته الأولى. كل الزوجات اللواتي سيأتين بعدك لن يصبحن بقيمتك أبداً. لن تستطيع أي واحدة منهن أن تعيش ما عشتِه. لن تستطيع أي واحدة منهن أن تمنحه أولاداً كما منحته أنت. أنت المفضلة وستظلين دائماً. أنت زوجته الأولى! دادا ساري! سوف تتقاسمينه مع الأخريات بالتأكيد. ولكن، هل سبق لرجل أن كان ملكاً لامرأة واحدة؟».
منذ دقائق قليلة، دخلت السيارات بزماميرها الصاخبة إلى حرم الدار الكبيرة تدوّي بضوضاء يصمّ الآذان، حيث كنا نسمع طبول ومزامير الشعراء المدّاحين، الذين كانوا ينشدون بحماسة محمومة مدائح للحاج عيسى وزوجته الجديدة. كانت تتردّد زغاريد النساء. نبّهني أقارب العروس لوصولها الميمون في هرج ومرج.
أبتلع دموعي، وأنهض متأهبة.
«إلى أين أنت ذاهبة يا سَفيرة؟ همست حليمة صديقتي الحميمة التي غلبها الغمّ مثلي
- إلى الحمّام.
- تمالكي نفسك. أعرف أن هذا ليس سهلاً، ولكن تحمّلي، اطمئني.
عكست المرآة وجهي الشاحب تحت التبرّج الباذخ. يحيط بعينيّ الكحل الغامق وخطوط التحديد وطلاء الرموش الأسود، شفاهي مرسومة بالأحمر الصارخ. مطرقة الرأس، استندت إلى المغسلة وحاولت للمرة الأخيرة أن أتمالك نفسي. يجب ألا أبكي، لأن العيون تفضح دائماً خيبات القلب، حتى المستور منها.
كنت قد ارتديت ثوباً جديداً أحضرته لي حليمة حديثاً من عند الخيّاط، ثوباً قرمزيّاً لامعاً من الحرير الناعم. ذكرى من رحلتي الأخيرة إلى دبي. مجوهراتي الذهبية تبرق تحت ضوء المصباح الاصطناعي المشعّ. وعلى غرار العروس دون شك، كانت زخارف وشوم الحنّاء السوداء تغطي يديّ وساقيّ. يجب أن أظهر بأبهى حلّة كي أجابه برباطة جأش احتفالاً لا يجدر به أن يثقل عليّ أبداً. لا، لن أستسلم ككبش الفداء.
كنت أسمع من النافذة الشاعر المدّاح يتباهى بجمال ضرّتي. صدعت كلماته فؤادي: «سوف أصف لكم العروس رملة، رملة الحسناء، السمراء، اللطيفة، رملة التي لا تُضاهى. لها من السواد ثلاث، ومن البياض ثلاث، من الربل ثلاث، ومن الرقة مثلها. نيرة قاتمة وشعر كالقار وعينان سوداوان. أسنانها بيضاء، عيناها بلقاوان، وباطن يديها أبيض. رقيقة القدّ بخصرها كالدبّور! دقيقة العنق كالزرافة. صغيرة القدمين كذلك. ممتلئة الخدين والذراعين والردفين. رملة الجميلة، رملة التي لا تُضاهى...»
دقّت عمتي ديدي على الباب، وأخرجتني من أفكاري الكئيبة: «سَفيرة، ماذا تفعلين؟»
- أنا قادمة!
- عائلة زوجك تنتظر كي ترافقك لاستقبال العروس.
ردّدت بصوت خافت:
- أنا قادمة.
- ماذا تفعلين يا سَفيرة؟
تسارعت أنفاسي ووجّهت إلى الله صلاة صامتة، دون قناعة مني بأنها ستستجاب: يا إلهي، ماذا أفعل أمام هذه الفتاة التي هي بالكاد أكبر من ابنتي، وتدّعي الحق بأخذ زوجي مني؟ كيف بوسعي تحمّل ذلك؟ كيف لي أن أظهر الترحاب كما تفرض اللياقة؟ ما العمل كي لا أفقد ماء وجهي؟
ابتلعت دموعي، وانحنيت تحت ماء الصنبور، شربت جرعة من المياه وتنفست بعمق عدة مرات كي أهدّئ الإيقاع الجهنمي لضربات قلبي. ثم خرجت من الحمّام بخطوات ثابتة.
غرفتي التي كانت بالنسبة إلي على الدوام فسيحة وباذخة، بدت لي فجأة ضيّقة جداً، لا يسعني التنفس فيها. أعطي كل ما أملك كي أكون في مكان آخر، في أيّ مكان.
كلهن كنّ هنا، القريبات والصديقات. كان الحزن بادياً على وجوههن، ومعظمهن كنّ صادقات. لم أستطع أن أصدّق أن ذلك تحقق، أنّ ما كنت أخشاه منذ سنوات حدث أخيراً، أنني أعيش الآن أسوأ كوابيسي. أريد أن أفتح فمي وأصرخ غضبي. أودّ أن أستيقظ وأتأكد أن هذا ليس سوى حلم كريه. ولكن وجدت نفسي مطوّقة بهنّ، فمشيت باتجاه الباب متألقة ومتعالية. لا، لن أستسلم للإذلال. رفعت رأسي بشكل ملحوظ، ووجّهت ابتسامة مشرقة لأخت زوجي، التي كانت تنتظرني أيضاً على الشرفة. ثم وبصوت واثق قلت لها: «مارك يا أخت زوجي. أصبح عندنا أخيراً زوجة جديدة! برَكة! خذيني لأرى عروسنا الجديدة وأستقبل هودجها»
اجتاحت النسوة منزل الحاج عيسى الكبير. تربعت قريباتي على الحصير، وشكّلن نصف دائرة حولي. حذت عائلة ضرّتي حذونا. وضعن قبالتي العروس التي خرجت للتوّ من غرفة الزوجية. كانت مغطّاة كلياً بعباءة الكِبّار اللامعة، لكن ثوباً برّاقاً مثل ثوبي كان يُلمح تحته. كان لديّ الوقت الكافي كي أتأمل جمال وشوم الحنّاء ونقاء بشرتها ونعومة يديها. بقيت خافضة الرأس، تغطي قلنسوة معطفها وجهها كلياً.
استهلّت شقيقة زوجي الكبرى: «سفيرة، هذه عروسك الجديدة».
- هذا عظيم حقاً.
- إنها شقيقتك! أختك الصغرى، زوجتك. عليك يقع واجب تعليمها وإعطائها النصح، وتلقينها سير العمل في المنزل الكبير. أنت دادا ساري. وستبقين إلى الأبد، حتى لو تزوّج زوجك عشراً أخريات، وهذه مسؤولية ثقيلة. سَفيرة، إن دادا ساري هي سيدة البيت. إذا عاش أهل البيت في وفاق، فذلك بفضل جدارتها. وإذا، على العكس، كان هناك شقاق، فسوف يكون الذنب ذنبها حينها. وأنت يا سَفيرة الـ دادا ساري. وعلى هذا، استعدي لتحمّل كل شيء. دادا ساري كبش المحرقة في البيت. هي عمود البيت لكل العائلة. عليها يقع واجب القيام بالأعمال، عليها واجب الصبر والجلد. عليها أن تُدمج للأبد فكرة ضبط النفس، مُنيال. سَفيرة، الصبر! أنت دادا ساري، جيديريه ساري. مُنيال، مُنيال...
ثم التفتت ناحية العروس:
- رملة، أنت الآن أخت سَفيرة الصغرى. ابنتها، كما أصبحت هي أمك. تدينين لها بالطاعة والاحترام. تفتحين لها قلبك، تسألينها النصح، وتتبعين أوامرها. أنت الأخت الصغرى. لا تقومي بأي مبادرات تتعلق بإدارة المنزل الكبير دون رأي دادا ساري. هي سيدة المنزل. لست سوى أختها الصغرى. تقع على عاتقك مهمات صعبة. طاعة عمياء. اصبري أمام غضبها، واحترميها! مُنيال، مُنيال...
وافقتُ مومئة برأسي وابتسامة باهتة على شفتيّ. في تلك اللحظة، كنت أودّ أن أنتزع أحشاء شقيقة زوجي التي أعرف تمام المعرفة أنها كانت سعيدة جداً بخيبتي. خلال سنوات، كم مرّة ألقت باللائمة عليّ لاستئثاري بأخيها؟ كم مرّة تبرّمت من الوفاق السعيد بيننا؟ السخط الذي كنت أشعر به تجاهها كان يزيد من غلوائي ويبعث في داخلي طاقة جديدة.
ثم بادرت إحدى قريبات الزوجة الجديدة بالكلام بدورها: «أيتها الحاجّة سَفيرة، أنت دادا ساري. وإليك نعهد اليوم بابنتنا. خذيها تحت جناحك، وعلّميها كيف تكون زوجة. عليك حمايتها ومساعدتها. إنها أختك الصغرى، ابنتك. نعهد إليك بها أكثر مما نعهد بها لزوجك، لأنك يجب أن تدافعي عنها، حتى ولو كان ذلك ضده».
- نعم، بالتأكيد!
امرأة أخرى يغطيها الحجاب كلياً هذه المرة، أضافت: «في أحد الأيام، جاء رجل يقابل النبيّ (ص)، فقال له: يا عبد الله، كم أن أحب أقيم معك، إذا وافقت، فلن نتشاجر أبداً. ولكن إذا ما تشاجرنا يوماً، فلن نتصالح، لأنني حقود!» فردّ عليه النبيّ بحكمته المعهودة: «ارحل عني، لن أسكن معك أبداً». جاءه آخر يقول له: «يا عبد الله، أريد أن أقيم معك! سوف نتشاجر في غالب الأوقات، ولكن سنتصالح على الفور». وافق النبي وردّ عليه قائلاً: «نعم أستطيع العيش معك، لأن الله لا يحبّ الخصومات المديدة». كل هذا كي أشرح لكما، سَفيرة ورملة، أن حياة الضرائر لا تخلو من الخلافات وسوء التفاهم. حتى الأسنان المحكومة بالعيش مع اللسان، لا يمكن لها إلا أن تعضّه أحياناً».
نصائح كثيرة أخرى قُدمت للعروس. أخيراً، صار بإمكاني الانسحاب. خرجت من جناح زوجي، تاركة المكان لامرأة أخرى. سوف تستأثر به أسبوعاً كاملاً. فيما بعد، سنبدأ دورة نتقاسم فيها الزوج.
انتهى كل شيء. لم يعد بإمكاني الدخول إلى جناح زوجي. ينبغي عليَّ من الآن فصاعداً انتظار دوري، الـ «والاندا» قبل أن أدخل إليه، كما يجدر بي انتظار دوري لأتمكن من رؤيته والحديث معه. انقبض قلبي. لم أعد بمفردي في بيتي. لم أعد زوجة محبوبة. لست سوى زوجة فحسب الآن، امرأة زيادةً. الحاج عيسى حبيبي لم يعد عاشقاً لي. منذ هذا المساء، سيكون بين ذراعي امرأة أخرى، ويكفي أن أتخيّل هذا حتى تتلاشى قواي. مهما قيل عن ذلك، لن تكون الأمور كما كانت عليه من قبل البتّة. هل يمكن لقلب الرجل أن تتقاسمه امرأتان حقاً؟

(*) من رواية بالعنوان نفسه صدرت أخيراً عن «دار الفارابي» في بيروت. دجايلي حمَدو أمل روائية كاميرونيّة تبنت القضيّة النسويّة كمناضلة تقود منظمة «نساء الساحل». فازت بجائزة أفضل كاتبة أفريقيّة عام 2019 و«جائزة أورانج للكتاب» في أفريقيا في العام نفسه.