تنتمي رواية «الظافرات» (2019) للكاتبة الفرنسية ليتيسيا كولمباني (صدرت حديثاً ترجمتها العربية عن «صفحة سبعة» ـــ ترجمة فائزة بودبوس) إلى ما بات يعرف عالمياً بأدب الرعاية. أدب يسعى لتوفير أشكال معينة من الرعاية الخطابية والسردية ومنح مساحة واسعة للمهمشين والمنبوذين والمعذبين في الأرض من خلال منعهم أدوار البطولة. تحكي الرواية قصة سولين وهي محامية لامعة من الطبقة البورجوازية تجاوزت الأربعين، تشعر بأنّ عالمها ينهار حين ينتحر مُوَكلها أمام ناظريها رامياً نفسه من الطبقة السادسة من قصر العدل. بعد هذه الحادثة، تُصاب سولين باكتئاب وترفض العودة إلى مكتبها. في محاولة لمساعدتها على تجاوز أزمتها، يعرض عليها معالجها النفسي القيام بأعمال تطوعية خيرية تُنسيها أحزانها، فتقبل بوظيفة كاتب عمومي في مكان يدعى «قصر النساء». هناك تلتقي بالعديد من النساء المنسيات والمُهمشات البعيدات جداً عن عالمها المُرفه والمدلّل: لاجئات هاربات من الظلم أو معنفات من قبل أزواجهن أو حتى مغتصبات. لكل امرأة قصة حزينة تُخفيها عن الآخرين. تسعى سولين لمساعدة هؤلاء النساء البائسات اللواتي يرفضن مشاركتها مآسيهن ويعاملنها بحذر في البداية، لكن ينتهي الأمر بأن يُصبحن صديقاتها المقربات، وتُصبح هي وسيلة لنقل معاناتهن من خلال كتابة رسائلهن. في الخلفية، تدور قصة أخرى هي قصة بلانش بيرون (1867-1933) وهي امرأة حقيقية عاشت في أواخر القرن التاسع عاشر وبدايات القرن العشرين، وكانت قائدة هي وزوجها في «جيش الخلاص» الذي يهدف لمساعدة الفقراء والمحتاجين. تمنحنا ليتيسيا كولمباني فرصة التعرف إلى شخصية بلانش الإنسانية والتحديات التي واجهتها في مجتمع محافظ، ونضالها الطويل من اجل تغيير العالم وجعله مكاناً أكثر رحمة وأمناً للفقراء والمستضعفين. لقد بذلت هذه السيدة جهوداً خارقة وخاطرت بصحتها المتدهورة لجمع الأموال لشراء فندق يحتوي على 743 غرفة وإعادة تأهيله بغرض تحويله إلى قصر للنساء في باريس وإيواء كل المُعدمات المعنفات اللواتي لم يجدن مسكناً يحميهن من قسوة العالم الخارجي. يدور السرد بين زمنين مختلفين، يتجول الراوي العليم في أروقة الماضي، مستخدماً تقنية الاسترجاع الفني، لتسليط الضوء على قصة بلانش بيرون وتضحياتها من أجل تأمين ملجأ للنساء. ثم يعود الراوي إلى الحاضر ليخبرنا عن سولين التي تحاول مواجهة أزماتها من خلال العمل التطوعي في القصر الذي أسسته بلانش منذ مئة عام. لكن لماذا تُصنَّف هذه الرواية ضمن فئة أدب الرعاية الذي يلاقي أصداء واسعة أخيراً؟ «الرعاية» وفقاً لإحدى أهم منظراتها الفيلسوفة الأميركية والناشطة النسوية جوان ترونتو «هي نشاط عام يتضمن كل ما نقوم به للحفاظ على عالمنا وإدامته وإصلاحه، حتى نتمكن من العيش فيه قدر الإمكان. يشمل هذا العالم أجسادنا وأنفسنا وبيئتنا». هذا التعريف ينطبق على هذه الرواية التي تضيء على البؤس الذي تعيشه الكثير من النساء وتحاول إعطاءهن صوتاً من خلال لفت الأنظار لعذاباتهن. تعتبر ترونتو أنّ الرعاية تقوم على أربع أسس هي: الاهتمام، تحمّل المسؤولية، تقديم الرعاية، وتلقّي الرعاية. الاهتمام هو ما فعلته ليتيسيا كولمباني من خلال بطلتيها سولين وبلانش عندما لاحظتا وجود هؤلاء النساء الضعيفات وانتبهتا لحاجاتهن العاطفية والمادية. العنصر الثاني هو تحمل المسؤولية، إذ أخذت الكاتبة على عاتقها نقل معاناة النساء ومطالبة المجتمع بالقيام بواجبه تجاههن والتضامن معهن. أما تقديم الرعاية فيتم من خلال كتابة أوجاعهن لاطلاع العالم عليها وإعادة التواصل بينهن وبين عائلاتهن، وهذا ما فعلته سولين عندما كتبت مثلاً رسالة إلى ابن إحدى السيّدات المقيمات في قصر النساء، لتخبره عن الأسباب التي دفعت والدته لتركه في غينيا والهرب من أجل إنقاذ حياة شقيقته من عادات قبيلتها الأفريقية التي تضطهد النساء وتجبرهن على ختان البنات، فيتجاوب الفتى ويبدأ بالتواصل مع والدته. أما تلقي الرعاية فتقصد بها ترونتو تقييم مدى استجابة المتلقي ومدى استعداده لقبول المساعدة وطبعاً هذا النجاح هو نسبي ويختلف من حالة إلى أخرى. فقد نجحت سولين في الاعتناء بليلي، الفتاة المُشردة التي تنام في الشارع، حين وجدت لها عملاً لائقاً ومكاناً للإقامة، ولكنها فشلت مع سينتيا ولم تستطع مساعدتها رغم محاولاتها لاحتوائها لكن دون جدوى، إذ تستسلم سينتيا لظروفها القاسية.
لم تُشِر لدور المجتمع الرأسمالي في تهميش هؤلاء النساء

تنطلق هذه الرواية من خلفية نسوية، ومن الواضح للقُراء أنّ الكاتبة تسعى لتمكين المرأة وطرح قضاياها والدفاع عن حقوقها، فهي تتناول مسائل التهميش والفقر المدقع الذي تنوء تحت ثقله النساء، بالإضافة إلى العنف الممارس ضدهن، لكن الرواية تفتقر إلى العمق الضروري لمعالجة هذه القضايا المهمة، فقد تم تناول هذه الثيمات على عجل من دون إيلائها العناية السردية اللازمة، ما جعلنا نشعر كقراء أنّنا أمام استعراض سريع لحالات اجتماعية صعبة بدون الغوص في تفاصيلها وأسبابها الحقيقية وخلفياتها. كما لو أنّ الكاتبة سكبت كل هذه القضايا النسوية في طبق واحد، ليزدردها القارئ بسرعة قياسية. أما الشخصيات النسائية التي رسمتها فمالت للتسطيح النفسي والعاطفي، ولم نستطع كقراء التعلق بها والشعور بتعاطف معها، ولم نستطع النفاذ إلى دواخلها وفهمها من الناحية السيكولوجية بسبب ضعف المعالجة الفنيّة. كان حريّاً بالكاتبة استخدام المونولوغ الداخلي والحوار وإعطاء المزيد من المعلومات عن تاريخ الشخصيات وسِماتها وتصرفاتها وانفعالاتها في المواقف الحياتية المختلفة، لتكون مقنعة من وجهة نظر القارئ. كما أنّ الرواية لم تُشِر لدور المجتمع الرأسمالي في تهميش هؤلاء النساء عبر تبخيس قيمة عمل المرأة وتمييزها من ناحية الأجور والتقديمات الاجتماعية والتقليل من قيمة عمل ربّة المنزل، فلا يمكن للنضال النسوي بشكل عام والأدب النسوي بشكل خاص إلا أن يكون مناهضاً للعنصرية والرأسمالية والإمبريالية، لأنها تمثل نماذج فكرية وتنظيمية للمجتمع قائمة أساساً على اضطهاد المرأة.
«الظافرات» رواية قد لا ترتقي لروائع الأدب الفرنسي والعالمي، لكنها تستحق القراءة كونها تضيء على معاناة المرأة وتدعو إلى التكاتف بين النساء ودعمهن اقتصادياً ومهنياً. الإيجابية المؤكدة التي تُحسب للرواية أنها أسهمت في إخراج امرأة عظيمة هي بلانش بيرون من غياهب التاريخ ونفضت الغبار عن نضالاتها التي تثبت أنه بإمكاننا جميعاً، مهما كانت قدراتنا متواضعة، فعل شيء ما لجعل هذا العالم مكاناً أفضل للعيش.