عندما كنت أعمل على كتابي الذي صدر قبل سنوات طويلة «ذات النحيين: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة» عرض لي المثل أعلاه، ولم أتمكن من فهمه، لذلك لم أدرجه في الكتاب. وقد راودني وقتها شك في قصته التي بدت لي غير معقولة، وأنها ربما من اختراع لغوي أو قصاص، ولا تعكس ما يقوله المثل. لكنني لم أستطع أن أجد تخريجة ملائمة تجعل هذا المثل مفهوماً عندي. غير أنني كنت أعود إليه بين الحين والحين لعلني أجد تخريجة تجعلني أفهمه. وقصة المثل تقول: إنَّ «رجلاً خرج يطلب حمارين كانا ضلاّ عنه، فرأى امرأة متنقبة، فأعجبته حتى نسي الحمارين فتبعها، فلم يزل يطلب إليها حتى سَفَرَتْ له [أي حتى كشفت وجهها]: فإذا هي فَوْهاء، فحين رأى أسنانها ذكر الحمارين، فقال: ذكّرني فوك حمارا أهلي» (الميداني، مجمع الأمثال).
يضيف أبو هلال العسكري: «يُضربُ مثلاً للرجلِ، يُبْصرُ الشيءَ فيذكُرُ به حاجةً كان قد نسيَها. وأَصلُه أنَّ رجلاً خرج يطلبُ حِمارَيْنِ لأَهلِهِ أَضلَّهُما، فمَرَّ على امْرأَةٍ جميلةِ المُنْتَقَب، فقعد يُحادِثُها ونسي حِماريه؛ لشغلِ قلبِه بها، ثم سَفَرت فإِذا لها أَسنانٌ منكرةٌ، فتذكَّر بها أَسنانَ الحمارِ، فانصرفَ عنها وقال: ذكَّرني فُوكِ حمارَيْ أَهلي» (أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال).

جوش براون ــــ «حمار» (زيت وأكريليك على كانفاس ـــــ 61 × 61 سنتم ـــــ 2022)

إذن، فقد اكتشف المعجب أن المرأة الجميلة المنقبة فوهاء، أي أنها بأسنان منكرة مشوهة، فابتعد عنها لاحقاً بحمارَيه اللذَين ضلّا عنه أو ضلّ عنهما. فالفوه هو تشوّه الأسنان. والغالبية على أنه خروج الأسنان عن الشفتين: «الفَوَهُ أَيضاً: خُروجُ الأَسنانِ من الشَّفَتينِ وطولُها» (لسان العرب). لكن يجب الانتباه إلى أن المثل لا يذكر الفَوَه إطلاقاً في نصه. بذا ففكرة الفَوَه استنتاج من مفسري المثل لا غير. المثل يتحدث عن الفم فقط (فُوكِ). فقد تذكر الرجل حماريه اللذين نسيهما حين رأى فمها. وقد افتُرض بناء على ذلك أنه شبّه في مثله فمها بفم الحمار ذي الأسنان المنكرة. لكن المشكلة أن أسنان الحمير ليست شائهة إطلاقاً. على العكس من ذلك، فهي رمز للانتظام والتساوي في التقليد العربي. لذا يقال: «سواسية كأسنان الحمار» مثلما يقال: «سواسية كأسنان المشط». قال الشاعر: سواء كأسنان الحمار فلا ترى/ لذي شيبة منهم على ناشئ فضلاً. وقال آخر: شبابهم وشيبهم سواء/ فهم في اللؤم أسنان الحمار. أي أنهم متساوون في السوء.
عليه، فمن الصعب قبول فكرة أن المثل يشبّه أسنان المرأة الفوهاء بأسنان الحمار. فهو تشبيه بلا معنى، ومعاكس للحقيقة. فأسنان الحمار منتظمة مستوية متساوية. صوت الحمار هو المنكر لا أسنانه، كما جاء القرآن «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير». وهو ما يعني أن كل محاولات تفسير المثل التي استندت إلى فكرة الفَوَه باطلة، ولا تنفع في تفسير المثل.
حسن جداً، لكن إذا ألغينا فكرة الفوه فما هو البديل لدينا؟
البديل على الشكل التالي في ما يبدو لي: لقد حدث تصحيف في كلمة «فوك» التي قادتنا بشكل خاطئ إلى «الفوه» رغم أنّ لا علاقة بين الأمرين. والتصحيف الذي حصل بسيط. فالكلمة في الأصل بالقاف، أي «قَوّك» لا «فوك». وبهذا التصحيف البسيط، انبهم المثل وصار غير مفهوم. ومن أجل تفسير مثل مصحف مبهم، فقد اخترعت القصة عن الرجل الذي هام بامرأة من النظرة الأولى، ونسي حمارَي أهله من أجلها، لكنه هرب منها حين اكتشف أنها فوهاء.
أما القَوّ، أو التقاوي، فهو مصطلح من مصطلحات التجارة، يتعلق بالبيع والشراء. وهو عملياً المزايدة على سلعة مشتركة بين طرفين أو أكثر. ويفوز بالسلعة من يضع الثمن الأعلى: «وفي حديث ابن سِيرين لم يكن يرى بأساً بالشُّرَكاء يَتَقاوَوْن المَتاعَ بينهم [وهو] أن يَشْتَروا سِلْعَةً رَخِيصة ثم يَتزايدُوا بينهم حتى يَبْلغوا غاية ثمنها يقال: بَيني وبين فُلان ثَوْبٌ فتَقاوَيْناه أي أعطيتُه به ثمناً فأخذْتُه وأعْطاني به ثمناً... ولا يكون الاقْتِواء في السِّلْعة إلّا بين الشركاء. قيل أصلُه من القُوّة لأنه بلوغ بالسِّلْعة أقوى ثمنها» (ابن الأثير المحدث، النهاية في غريب الحديث والأثر).
يضيف جواد علي: «وقد يشتري الشركاء سلعة رخيصة، ثم يتزايدون بينهم حتى يبلغوا غاية ثمنها، فيشتريها من يرسو الثمن عليه، ويأخذها. ويقال لذلك: التقاوي. ولم ير الإسلام بأساً بذلك. وفي حديث ابن سيرين لم يكن يرى بأساً بالشركاء يتقاوون المتاع بينهم فينمى ويزيد» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام).
ويزيد الزمخشري: «قاوى شريكه المتاع، وتقاووه بينهم، وهو أن يشتروا شيئاً رخيصاً ثم يتزايدوا حتى يبلّغوه غاية ثمنه، فإذا استخلصه أحدهم لنفسه قيل: قد اقتواه. قال: وكيف على زهد العطاء تلومهم/ وهم يتقاوون الفـطـيمة فـي الـدم» (الزمخشري، الكشاف).
ويضيف أو عمرو: «المُقَاوَاة: تقول: قَاوِنِي إذ كان بَيْنَكُما شيء فأردْتَ أن يُسْلِمَه لك أو تُسْلِمَه له بثمن» (أبو عمر الشيباني، الجيم).
بناء عليه، يمكن لنا أن نفترض أنه كانت هناك عملية مقاواة، أي مزايدة على سلعة محددة، بين شريكين. لكن من نطق بالمثل أول مرة لم تعجبه طريقة مقاواة شريكه، أو قّوّه. لكن ربما كان من قاله شخص ثالث آخر عير الشريكين. وقوله كان استنكاراً لطريقة مقاواة الشريك التي ذكرته بحمارَي أهله. فحين ينهق أحدهما يزايد عليه الآخر بنهيق أقوى منه وأعلى. بذا فهو يشبه مقاواة شريكه بنهيق حماري أهله. أي أنه يقول له: هذا ليس تقاوياً، هذا تناهق حمير كما يتناهق عادة حمارا أهلي.
بذا، فضياع نقطة صغيرة هو الذي حوّل المزايدة على سلعة إلى قصة حب فاشلة، وغير منطقية.
أسنان الحمار منتظمة مستوية متساوية، وصوته هو المنكر لا أسنانه


على أي حال، فحمارا أهل صاحب المثل المتناهقان يذكران بالحمارين الشهيرين الذي ضرب فيهما المثل فقيل: كحماري العبادي. والعبادي هو الشاعر الجاهلي الشهير عدي بن زيد العبادي. وكانا له حماران كريهان. وحين سئل مرة: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا. أي أنّ لا فرق بينهما في الشر والبؤس. وقد سرى قوله مثلاً: «قال أسلم مولى عمر بن الخطاب: مر بي عمر وأنا وعاصم نغني غناء النصب [غناء يشبه الحداء، لكنه أرق]، فوقف وقال: أعيدا على، فأعدنا عليه، وقلنا: أينا أحسن صنعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: مثلكما كحماري العبادي، قيل له: أي حماريك شر؟ فقال: هذا ثم هذا. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الأول من الحمارين؟ فقال: أنت الثاني منهما» (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة).
أما نحن فلدينا ثلاثة من حمير التسوية السلمية: حمار أوسلو، وحمار وادي عربة، وحمار كامب ديفيد. وكل واحد منهما لا يقل سوءاً عن الحمار الآخر.