لا تكفهرُّ سماء عمّان إلّا إذا هُزَّت أركانُها. قَبْلَ الظهيرة بقليل سَطَت الطائرات على سماء عمّان، ألقت على الأرض قنابل دكَّت المطار، ومبنى الإذاعة، ثم عادت واختَفَت في الأفق الغربيّ مخلّفة وراءها دخاناً أسود وخوفاً عميقاً. انقشع الدخان مع نسائم الصيف الخفيفة، أمّا الخوف فقد حطَّ رحاله واستوطن، وجعل سماء عمّان مكفهرَّة إلى اليوم.
في ذلك الوقت، كانت وجدان الممرضة ذات القوام الجميل، والوجه المشرق، والعينين الخضراوين تقف قريباً من الطبيب الذي كان يسحب بيدين مرتجفتين أوَّل مواليد المستشفى في يوم الخامس من حزيران 67. تلقَّفت بحذر قطعة اللحم الغرقى بالسوائل والدم من الطبيب المتعجِّل بالرَّحيل، قلبتها رأساً على عقب، طَرَقَت برفق على إلية أصغر من كفِّها، فانفجر صاحبها بالبكاء.

جيانان وو ـــــ «انفجار» (أكريليك على الراتينج والخشب والمعدن ـــ 2022)

من دون أن تلقي نظرتها الاحتفاليّة المعتادة على المولود الجديد، قامت وجدان بقطع حبله السريّ، عقدته ولقمته البطن الصغير، مسحته بقطع قماش نظيفة، وبحركة متدرِّبة، رفعت كتلة اللحم اللزجة الطريّة التي كانت تحاول التملُّص والهرب من الدثار الذي يحيط بها، ناولته للممرضة الموكل إليها مهمّة استكمال مراسم دخول الضيف الجديد إلى الدنيا. غادرت وجدان غرفة العمليات دون أن تنبعث من بين شفتيها ابتسامتها المعتادة التي كانت تبارك فيها الحضور الأوَّل للزائرين الجُدُد إلى الحياة.
اغتسلت، بدَّلَت ملابسها، وغادرت مكان عملها. فاجأتها الشوارع المُقفرة. الطريق إلى «جبل القصور» طويلة، يثقل على أنفاسها إجهادٌ غريب. استنكَرَت فكرة أنها تعجَّلت في مغادرة المستشفى من دون أن تسأل عمّا يجري لـِ«عمّان»، أو أن تفهم شيئاً ممّا يتناقله العاملون معها عن الحرب التي اندلعت هذا الصباح. «أيُّ حرب هذه؟ ومَن هُم أولئك الذين يحتربون في عمّان؟» صوت هتافات الرجال الفرحين التي كانت تنطلق من غرف الممرضين، تصفيقهم وتهليلهم، هو الذي دفعها للهرب، لو أنها تريَّثت قليلاً لعدلت عن فكرة الإسراع في ختْم بطاقة الدَّوام ولباتت للَيلة ثانية في المستشفى:
• عشرون طائرة.
• ثمان وعشرون طائرة.
• .....
• خمسون طائرة.
• الله أكبر.
لقد سمعَت أصوات الانفجارات، ورأت الخوف في عينَيّ الطبيب المتعجِّل في إخراج الجنين من رحم أمِّه، وفي وجوه الممرِّضات، وعاملات النظافة؛ ورغم كل ذلك تعجَّلَت بالرَّحيل.
خطوات قليلة تلك التي قطَعَتْها لتضعها على الدوّار الثالث الفارغ، الهادئ على غير طبيعته؛ مشوارها اليومي العادي الذي تقطعه ذهاباً وإياباً في كل مرَّة قادمة من وسط البلد، أو عائدة إليه. لا يزال الوقت مبكِّراً على قدوم العتمة، إلّا أنَّ الدخان الذي عبَّأ الفضاء كان وكأنَّهُ يحاول التَّعجيل في حضورها. أحسَّت بوجود حياةٍ في واحد من المحالّ التي تحيط بالدوّار، شدَّت خطاها إلى هناك.
«الريفيرا سناك». لم يدُر في خاطرها وهي تغادر المستشفى فكرة أنْ تتوقَّف في أيّ مكان لا للشرب ولا للأكل؛ كل ما كانت تريد عمله أنْ تصل إلى البيت، وتطمئنَّ عن أمِّها، وعندما لم يلفتها سوى الحركة التي تخرج من «الريفيرا»، أجَّلت مشروعها إلى أن تعود الحركة للشوارع، وتجد وسيلة تنقلها إلى وسط البلد.
دفعت الباب، لترى عامل البار ذيب منهمكاً بغسْل وفرْك يديه بشدَّة وكأنَّهُ يحاول إخفاء آثار جريمة انتهى من ارتكابها للتوّ. لم ينتبه لحضورها، نادَت باسمِه بصوتٍ طغى على صوت الراديو الضاجّ بأغنياتٍ غاضبة. انتفض متفاجئاً عندما تنبَّه لوجودها:
- ماذا تفعلين هنا؟ صَرَخَ يسألها.
أجابَتْهُ بدرجة الصوت العالية ذاتها:
- أنتَ ماذا تفعل هنا؟ رفع كفَّيْه، كان لونهما قد تحوَّل إلى الأزرق الغامق:
- أغسلُ يديّ من أثر «النيلة».
- بابكَ الوحيد المشرّع، لماذا لستَ في البيت؟
«أنا في البيت»، ردّ عليها وهو ما زال منهمكاً بفرك يديه بالصابون، قال: «أنفِّذ تعليمات الدفاع المدني؛ أدهنُ النوافذ بالأزرق فلربما صارت جداراً مضاداً للطائرات». انتهى من غسْل يديه، نشَّفهما بكومة من الورق القريبة من المغسلة، خفَّض صوت الراديو قليلاً، نظر فيها مستغرباً:
- لماذا تركتِ المستشفى؟
- عطشتُ لكأس بيرة. ردَّت بسخرية.
صارت ملامحه أكثر جديّة، عاد وسألها وكأنَّهُ معنيٌّ بأمرها كثيراً:
- مَن يجرؤ على الخروج؟ الشرطة تدعو الناس للاختباء في الملاجئ.
- أنهيتُ مناوبتي للتوّ، ويجب أن أعود إلى البيت.
فاجأه ردّها وبدا كأنَّهُ لم يفهمه.
- بيتكِ قريب؟
- بعيد. ما بكَ تكثر من الأسئلة؟ اسكب لي كأساً.
- كيف تفكِّرين بالعودة إلى البيت، قريباً كان أو بعيداً؟ الأسلم أن تعودي إلى المستشفى.
- مللت، أشعر برغبة في التغيير.
أشار عليها أنْ تجلس، قدَّم لها طلبها، وسكب لنفسه نصف كأس. جلس إلى طاولة قريبة منها، رفع لها الكأس بيده: «بصحتك». ردَّت له التحيّة. كرعت جرعة طويلة برَّدَت الحرارة التي تحسُّ بها، أخذ هو يعبُّ من كأسه بطرف لسانه من دون أن يفكِّر بقول شيء.
هذه هي المرَّة الأولى التي تراه فيها زبونته العتيقة وهو يبلِّل شفتيه برغاء مشروبها المفضَّل؛ البيرة، أخفت دهشتها الرَّقيقة وقرَّرَت أنْ لا تبدأ حواراً حول مسألة طارئة، لا يُفترض أن تكون غريبة، مثل هذه اللحظة الموجزة، والمتألِّقة لا يليق الحديث بها لمجرَّد الرَّغبة في إشباع فضولٍ ساذجٍ.
شَعَرَت بأنَّ في جعبة نديمها أشياء جديدة أكثر تشويقاً، سوف تكشف عن نفسها طواعيةً ومن دون أنْ تسأل هي عنها، فهذا المُنهمك، القلق، المُنشغل في متابعة الأخبار بصمت الوحيد، لا بدَّ أنَّه صار ظمِئاً للكلام؛ الساقي قليل الكلام، لا بدَّ أنَّهُ سوف يتكلّم اليوم، لا بدَّ أنه يفتِّش عن خَلاصٍ للسانِه الذي يبس مثل لسانها من الصَّمت العميق.
فوجئ بتجنُّبها الكلام عن حدث كبير يُشغل الناس كلّهم، فكلّما حاول أنْ يعلِّق على خبر ينقله المذيع كانت تصدّه وتطلب منه أن يتكلّم بأمر آخر. أخبرته مباشرة بأنّها ليست معنيّة بأنْ تعرف شيئاً عن الحرب، لأنَّ ذلك لن يضيف جديداً، أفضَت له بما كانت تفكِّر فيه، قالت:
- إنَّ الكلام لن يغيِّر شيئاً من حقيقة ما يجري،
ثم وكأنَّها تستجمع أنفاسها، أكملت بصوتٍ خافتٍ: «التفاصيل الصغيرة لا تصنع فوارق في الأحداث الكبيرة».

****


مناوَبَتُها ليلة أمس كانت طويلة. بقيت مشغولة كل الوقت برعاية الوالدات، والحوامل اللواتي ينتظرن الولادة. لم تُتِح لها أوجاعهنّ، ولا البكاء الذي كُنّ يتناوبن عليه، أنْ تستعملَ ساعة الرّاحة التي تستعيد فيها التقاطَ أنفاسِها بعددٍ من السجائر وكأسين من القهوة.
ظلَّت طوال ليلة الخامس من حزيران منهمكة بعملها الذي كان آخره المولود الذي لم تَرَه أمُّه بعد، والذي قرَّر أنْ يجيء إلى عمّان بعد أن أطمأنَّ إلى أنَّ طائرات العدو قد أنجزت مهمّتها وانسَحَبَت من السماء بأمان.
قالت محاولةً أنْ يعيرها بعض الانتباه:
- الناس في المستشفى فزعون، الشوارع مقفرة، وأنتَ تطلي زجاجكَ بمبيِّض الغسيل، ما الذي قلب الدنيا على رأسها فجأة؟ هل فعلاً هي الحرب؟
- من غير المعقول أنكِ لم تسمعي عن عدد الطائرات التي أسقطناها للعدو؟
ردّ بحماسة وأكمل:
- أجل إنَّها الحرب؛ حرب فعليّة ستكون فيها نهاية الاحتلال.
قفز واقفاً مهتمّاً وكأنَّهُ نسي شيئاً ما، مضى صوْب الراديو الذي كان يبث أصواتاً مُبهمة، أدار مفتاح الصوت، انفجرت الأغنيات الحماسيّة من جديد، لم تكن تشبه تلك التي اعتادت وجدان على سماعها، فلم يصدح صوت شادية الناعم المغناج، ولا صوت فايزة أحمد، أو عبد الحليم حافظ، بأغنياتهم الرومانسيّة الناعمة. قُطعت الأغنية التي كانت تتغنّى بأمجاد العرب، لتنطلق بعدها نبرة صوت أجشّ، خشن ثقيل يغنّي مرحِّباً بالمعارك، ليتبعه دون انقطاع صوت مغنٍّ يشيد بالمدرَّعات، وعبد الحليم يهلِّل بالمعارك. إلى أنْ سكتت فجأة الأغنيات التي كانت تتلاحق مثل الرَّصاص، وانطلق صوت مذيع يعلن بلاغاً عسكريّاً جديداً، وذيب متسمِّر يتابع بكل جوارحه يترقَّب البلاغ العسكري الجديد، من دون أن يكفّ عن الكلام بأمور لم تفهم الزائرة معناها، أو أنها لم تكن ترغب في فهمها.
ما إن انتهى المذيع المحارب مِن عدِّ الطائرات التي سقطت للعدو، حتى جاء محمد عبد الوهاب يشدو ببرود «دعاء الشرق»، تذكَّرَت تلك القصيدة وشاعرها محمود إسماعيل، فقد أُجبِرَت في المدرسة على حفظها غيباً لتجني علامة درس الأناشيد. قالت:
- الأدعية لا تجدي نفعاً في المعركة. أغنية مثل هذه لن يطيقها جندي يُطلَق عليه الرصاص، أو يختبئ في ملجأ هرباً من القصف. أيّ محارب هذا الذي يجد الوقت لفتح الراديو وتشنيف أذنيه لسماع أغنية حتى لو كانت مغنّاة من أجلِه هو شخصيّاً؟ كيف له أنْ يفهم معنى أيّ كلام يسمعه وهو متكوِّم في خندق لا يحسُّ بشيء سوى الخوف، ويبعد خطوات عن رفيق مقتول، أو جريح يئنّ؟
- هذا النشيد ليس للجنود، بل لشحذ همّة الجماهير. هذا لأمثالنا البعيدين عن الميدان. ردَّ مستنكراً، وأعطى كله للراديو.
كيف يمشي في ثراها غاصب يملأ الأفق جراحاً وأنيناً.

(*) فصل من رواية بالعنوان نفسه، صدرت حديثاً عن «الآن ناشرون وموزّعون» في عمّان.