في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي حكت لنا مُدرّسة اللغة العربية، وكانت هي نفسها مدرّسة الدين، قصة لم أسمع بها من قبل أو بعد، قالت إن ملاكين فكّرا في الذهاب إلى الله في سالف الأزمان للتعبير عن امتعاضهما مما يفعله الإنسان على الأرض دون أن ينفيه الله أو يبيده من على سطحها. عقدا جلسة بجوار باب الجنة، وقرّرا أن يتوجّها معاً إلى العرش الإلهي ليسألا الله عن سبب صبره على الإنسان، هذا الكائن المقزّز، الطيني، الذي يتغوّط ويطلق ريحاً ويسب ويكذب ويخون ويسرق، لماذا اختاره ليكون خليفته في الأرض وتجاهلهم وهم المخلوقات النورانية المطيعة، وطبقاً لقصة مدرسة العربي والدين، أنهما نفّذا مخططهما فعلاً، ذهبا إلى الله وأبلغاه – مرتبكين بطبيعة الحال – بما يجيش به صدراهما. إلا أن الله أعلمهما أنهما لا يقولان ذلك إلا جهلاً، لأنهما لم يختبرا إغراءات الحياة وشهوات الدنيا، وأنهما لو كانا مكان الإنسان لما احتملا تلك الضغوط ولارتكبا الخطايا والمعاصي نفسها. ولكن أحدهما لم يستسلم، وتجرّأ أن يجادل الله ويعاهده أنه إذا بُعث إلى الأرض، لن يرتكب أي جرم أو محرم، سيلتزم بالتعاليم والأوامر كحاله دائماً. أضاف أن الأمر بسيط وسهل ولكن البشر ضعاف وبلا أخلاق، نظر الأول إلى زميله، فهزّ الآخر رأسه وأكد على كلام رفيقه طالبين من الله أن يختبرهما ويمتحن ولاءهما. تُكمل مدرستي القصة وتقول إن الله استجاب لطلبهما الفريد، على شرط أن يقضيا أسبوعين دون أية خطيئة أو ذنب، فإذا نجحا سيبقيهما على الأرض كما يتمنيان، أما إذا خالفا أياً من التعاليم، فسيكون عقابهما قاسياً، أشد قسوة مما توعّد به البشر الخطّائين والضالين، فوافق الاثنان دون تردد واثقين بنفسيهما، ووعدا بألا يقترفا أياً من المعاصي أو الذنوب.
ملاك في منمنمة مغولية بأسلوب بُخَارَى (القرن 16)

تحكي المدرّسة، وكانت عجوزاً ضئيلة الحجم، بشعيرات بيضاء خشنة تتسرب من مقدمة حجابها القاتم اللون، وبعروق زرقاء تنفر فوق جسدها الشاحب، فتضيف إلى هيئتها ملمحاً مخيفاً، جعلني أتصور أن هذه هي الهيئة التي يكون عليها الموتى في سباتهم الطويل، تحكي أنهما عندما نزلا إلى الأرض، كانا في منتهى الالتزام، لم تبهرهما الدنيا، فقد زارا الأرض من قبل في مهام رسمية، وظلا مخلصين لتعاليم الله بحذافيرها، لم يختلطا بالبشر إلا قليلاً في اليومين الأوّلين، ربما لما لمساه من فجورنا، إلا أنهما في اليوم الثالث قررا أن يكسرا عزلتهما، خرجا إلى الشوارع، غضّا البصر عن النساء، ربما استرقا بعض النظرات العابرة ثم ذهبا إلى أحد المقاهي، لا بد أنهما طلبا شاياً باللبن، (مشروب يليق بالملائكة)، وفي الليلة نفسها أو التالية عليها، تجاذبا أطراف الحديث مع رواد المكان ولعبا الطاولة وشاهدا مباراة الأهلي وقرآ الصحف واندمجا في حديث سياسي، وسبّا الحكومة – إلا أن المُدرّسة لم تخبرنا بذلك -، وبعد أسبوع عرّفهما أحد رواد المقهى إلى فتاتين سمراوين على قدر محدود جداً من الجمال، إلا أنهما كانتا قادرتين على إغوائهما. جرّبا الشهوة للمرة الأولى في حياتهما، الآن وفجأة شعرا بتلك الرغبة المحمومة، وهذا العضو المنتصب بين أرجلهما، وقبل انتهاء الأسبوعين كانا قد شربا الخمر وكذبا وسبّا ومارسا الجنس مع الفتاتين، ودفعا إلى كل منهما مئتي جنيه، فانفعلت الفتاتان وأثارتا الضجيج، فدفعا مئة أخرى إلى كل منهما.
تكمل المدرّسة بأن الملاكين أيقنا في آخر الأسبوعين أن لا مفر لهما من العقاب المنتظر، وعندما عادا إلى الله اشتكيا له من صعوبة الاختبار، وأقرّا أن الإنسان يقاسي ويتعذب بين تلك المُغريات، سجدا بين يديه طالبين منه المغفرة، راجين عفوه والعودة إلى مكانهما في خدمته في السماء.
إلا أن الله عاقبهما بنفيهما إلى الصحراء، في عزلة تامة، معلقين إلى ما يشبه الصلبان، أو هكذا تخيلت، أبقى عليهما في الأرض كما طلبا ولكن وحدهما تحت لهيب الشمس أو في قسوة البرد، دون أي مخلوق آخر يقربهما.. هكذا قالت لنا المدرّسة.
عندما عدت إلى المنزل، وأثناء خلع ملابسي وإلقائها على السرير، سألت أبي عن مكان الملاكين المُعاقبين، فهزّ رأسه مستفهماً، حكيت له القصة كاملة، كما حكيتها لك الآن ولكن بشغف أكبر، شغف طفولي ممزوج ببعض التوتر وكثير من الخوف. ضحك والدي وقال لي وهو ينادي أمي بأنه لا يعرف مكانهما، ثم طلب مني أن أعيد القصة على أمي التي لم تدلني على مكانهما أيضاً.
فكّرت أننا لا بد أن نبحث عنهما، فعندما فصلتني المدرّسة ذاتها بعيداً عن صديقي أحمد نيّر وأمرتني أن أجلس في المنضدة الخالية في آخر الفصل، كنت أتمزق مللاً، حتى إنني أرسلت إليه رسالة عبر زملائنا، ولكن يوسف قرأها في منتصف الطريق ورفض أن يسلِّمه إياها... ما بالك بهذين الملكين المعزولين منذ سنين كثيرة، لا أعلم منذ متى تحديداً، ولكن يبدو أن القصة قديمة، وأنهما هناك منذ زمن طويل.
بحثت في الكتب المتراصّة في مكتبة المدرسة عن أي أثر لهما فلم أجد، إلا أنني قرأت عن أشياء عجيبة أخرى، ربما أكثر غرابة من قصة الملاكين، قرأت أنّ رجلاً اكتشف قارة كاملة كانت خافية عن العالم، وقرأت أنهم كادوا يعدمون رجلاً لأنه قال إن الأرض تشبه الكرة، وإن شخصاً صُلب أمام مدينة كاملة ولكنه لم يكن الشخص المقصود بل كان آخر شبيهاً له، ورأيت صورة لرجل بملامح غريبة وشارب نحيل اسمه هتلر، وقرأت عن سيدين لعبا الشطرنج متنافسين على ملكية إحدى الدول، وعن مجموعة من البشر اجتمعوا في مكان ما وأبادوا كل أهله الأصليين، اندمجت في البحث يومياً في المكتبة، تتقاذفني القصص في ما بينها حتى نسيت أمر الملاكين.
كانت أمينة المكتبة لا تطيقني وتبدي انزعاجها الدائم من حضوري، فتقول بصوتها الممتعض «إنت شرفت؟؟»، أدركت أنني أكسر عليها روتين حياتها اليومية الذي يبدأ بقراءة الصحف والمجلات وصفحات الموضة والأزياء، رغم أنها دائماً ما ترتدي عباءة طويلة بلون واحد، دون رسوم أو زركشات، ثم تأتيها الاختصاصية الاجتماعية فتثرثران معاً، وقد تنضم إليهما إحدى المدرسات، متحدثات بالساعات عن الأولاد والأزواج والزملاء وزواج فلان وطلاق علانة وأفضل طريقة لصناعة البيشاميل، حتى إنني طرطقت أذني ذات يوم وسمعت حواراً لم أفهم جلّ كلامه ولكني أدركت أن إحداهن كانت تشتكي من ممارسة زوجها الجنسية معها بينما تواسيها الأخريات. ولذا كانت تكرهني، رغم هدوئي، حيث إنني زبونها الوحيد من الطلبة الذي يكسر عليها جلسات النميمة والثرثرة، بالإضافة إلى قلة من المدرّسين الذين يأتون على فترات متباعدة بحثاً عن معلومة أو لتحضير درس جديد. كانت تسألني لماذا لا أذهب لألعب مع زملائي، لماذا لا ألعب الكرة أو أشاهد فريق المدرسة وهو يلاعب فريق مدرسة سانت كاترين. كانت تلقي بأسئلتها في لهجة مستنكرة ومتقزّزة، لم أهتم وداومت على الحضور بشكل يومي على مدار العام، وانتهى بحثي عن الملاكين دون جدوى، إلا أنني قبيل نهاية العام قرأت في كتاب أصفر صغير عن مكان غريب يختفي كل من يذهب إليه، اسمه مثلث برمودا، وتصوّرت لوهلة أنهما قد يكونان أُلقيا هناك.
■ ■ ■

في يوم لاحق جداً، في المرحلة الإعدادية، اصطحبنا مستر محمود، مدرّس اللغة الإنكليزية، إلى المكتبة لمشاهدة فيلم «هاملت»، نسخة لورانس أوليفيه، كانت المسرحية مقرّرة علينا في ذلك العام، عرض علينا مستر محمود النسخة التي أهداها له والدي بعد أن سجّلها من برنامج أوسكار، القناة الثانية، في سهرة ليلة الخميس السابق، على شريط فيديو «باناسونيك» ذي جودة عالية. كنت قد توقفت عن ارتياد المكتبة منذ سنين، ولكن عند دخولي ضمن طلاب فصلنا، رمقتني أمينة المكتبة بنظرة لا تُنسى، شديدة الغلاظة، إلا أنني تجاهلتها وزاحمت أصدقائي ساعياً إلى مكان مميز أمام الشاشة المعلقة أعلى الجدار. كانت المكتبة أصغر من أن تضم طلاب فصلنا جميعاً، وبدت الأمينة في شدة الغضب من مستر محمود الذي عطّل خططها للنميمة مع صديقاتها، وملأ لها المكان بالمراهقين والأطفال.
جلس البعض على الأرض ووقف آخرون خلف الكراسي، وحملت أغلب المقاعد شخصين متلاصقين، جلست بجوار منة، لا تظن أن الأمر كان صدفة، لقد تعمّدت الجلوس بجوارها في ذلك الزحام، حتى التصق فخذانا، وسرحت في تخيله، لا بد أنه أبيض مرمري ناعم، تماديت في الاقتراب منها، فمي قد يلامس شفتيها إن استدرنا في لحظة واحدة، اقتربت أكثر وشعرت بسخونة جسدها وكدت أضع يدي على تنورتها الرمادية متحسّساً جسدها اللين البضّ، ولكنها ضحكت ضحكة خفيفة وعلّقت بدلال على مدى التصاقنا. التقطت أمينة المكتبة تلك الضحكة وصرخت فيّ «ماذا تفعل بفخذ زميلتك؟؟» لم أكن فعلت شيئاً بعد! ضحك الجميع وأكثرهم منة، التي لم يبدُ عليها الخجل بقدر ما لمعت عينها بالنشوة، فاغتاظت المرأة ذات العباءة السوداء وثارت آمرة إياي بتغيير مكاني والجلوس في كرسي آخر، ابتعدت عن منة وتابعت هاملت وهو يمثل مسرحيته أمام عمّه مترقباً ردود فعله على مشهد قتل الأب، نظرت إلى منة التي بادلتني الابتسامات وظننت أنها بالتأكيد أجمل من أوفيليا.
نسيت الملاكين وغرقت في حب أوفيليا، أقصد منة، ورأيت فخذها ولكني لم أمسسه، وظننت أن قصة المدرّسة الضئيلة وهمية، سألت زملائي عن المُدرّسة والقصة إياهما، فلم يتذكر أي منهم شيئاً، تشكّكت في ذاكرتي، إلا أنني ما زلت أذكر شكل المدرّسة التي تبدو في هيئة الموتى وهي تحكي لنا القصة، توقفت عن البحث عن الملاكين حتى حلمت بهما في ليلة في الأسبوع الماضي، رأيتهما معلقين على ما يشبه المشانق، ولكن دون أن يشنقا، وحدهما في صحراء لا آخر لها، بلحيتين طويلتين وشعرين متربين ومنكوشيْن وأيادٍ مغلولة خلف ظهريهما المحنيين، استيقظت مفزوعاً، انتفضت من فوق فراشي، أخذ الأمر دقيقتين حتى هدأت واتجهت إلى الحمام وأفرغت مثانتي.
في صباح اليوم التالي، لمحت شاباً يمشي في وسط البلد بخطوات بطيئة ثقيلة، بدا لي أنني أعرفه، تعقّبته للحظات ثم أدركت أنه يحمل الملامح نفسها التي رأيتها في الحلم، ربما هو، ربما هرب، عفا الله عنه، ولكن أين ذهب زميله؟؟ ظللت أتتبّعه وهو يسير هائماً في شارع طلعت حرب، سرت خلفه بخطوات، أحاذيه أحياناً، أدقق في وجهه وأتأمله دون اهتمام منه، لم أرَ ملاكاً من قبل ولا أجد في وجه ذلك الشاب أي ملامح توصف بالملائكية ولكنّ شعوراً غامضاً ألحّ على ذهني أنه هو دون شك، رغم أنه لا يبدو كشخص يخفي جناحين تحت قميصه. كدت أنقر على كتفه وأسأله، أستفسر منه عن صديقه، هل تركه هناك؟ هل قتله في صراعهما على امرأة؟ هل هرب إلى مكان آخر؟ ولكنني خفت وتجمّدت يدي قبل أن تُصيب كتفه. أخيراً دخل إحدى الكافتيريات، فتبعته، ولكنني عندما دلفت إلى الداخل لم ألمحه، سألت النادل، فقال إنه لا يعرف عمن أتحدث وانصرف عني وكأنني مجنون.
قرّرت العودة إلى المنزل، تساءلت ماذا يعجبهما في الأرض؟؟ هل أرادا ترك الجنة وأنهارها وبساتينها من أجل هذه الدنيا القاتمة؟ طوال الطريق لم أفكر إلا في أمر الملاكين، منذ بدايته، منذ حصة الصف الثالث الابتدائي، وصولاً إلى الحلم والكافتيريا، إلا أنني لم أجد ما يربط بين الأحداث المتناثرة، لم أمسك بتفسير منطقي لأفكاري المشتّتة، ولم أستطع التفرقة بين الحقيقة والخيال. مررت على محل السندوتشات في طريقي وانتظرت طويلاً أمامه حتى أعدَّ شاب سوري طلبي ثم رجعت إلى البيت وبحثت على اليوتيوب عن نسخة «هاملت» للورانس أوليفيه، جهّزت المنضدة لمشاهدة الفيلم أثناء التهامي للسندوتشات الساخنة، ولكنني أثناء خلع ملابسي، لمحت وجهي في المرآة، ولاحظت أنّ شبهاً ما يجمعني بالشاب الذي رأيته في الحلم، ليس ذلك الذي رأيته في طلعت حرب، ولكن صديقه الذي جاوره على المشنقة، التقطتُ الهاتف وبحثت عن نمرة أحمد نير، صديق الصف الابتدائي، لأسأله إن كان يذكر قصة الملاكين، ولكنه لم يرد، ربما كان مشغولاً مع زوجته والأولاد. شاهدت الفيلم، وتوقفت أمام مشهد هاملت وهو يمثل المسرحية أمام عمه، وأخذت أعيده مرة، ومرتين وثلاثاً وأربعاً، حتى نمت وحلمت أنّه أنا وأحمد، وحدنا في الصحراء، بلحيتين طويلتين وشعرين متربين ومنكوشين، معلّقين على مشنقتين عاليتين، ولكن دون أن نُشنق.

* القاهرة