أعادت «الدار المصرية اللبنانية» إصدار كتاب عزت القمحاوي «الأيك في المباهج والأحزان» الذي صدرت نسخته الأولى عام 2002 عن «دار الهلال». سبقت هذا الكتاب ثلاثة أعمال منها مجموعتان قصصيّتان هما «حدث في بلاد التراب والطين» و«مواقيت البهجة» ورواية «مدينة اللذة». ثم أتى كتاب «الأيك في المباهج والأحزان». في معجم اللغة العربية، تعني كلمة الأيك الشجرة المتداخلة أو الملتفّة. وبالعودة إلى فعل «أيك»، فهو دلالة على الإثمار. تبدأ الطبعة الجديدة بعنوان «مصافحة جديدة» وهي مقدمة الكتاب في ثوبه الجديد، حيث يورد الكاتب المصري: «الكتاب الذي يتمتع بنعمة النقص، يجد فيه القارئ مساحته الخاصة ويتمتع معه بحريته في فهم الفكرة وإكمالها، وهذا يجعل من الكتاب كتاباً مختلفاً مع كل قارئ، بل إنّ القارئ الواحد يختلف عن نفسه عندما يعود إلى الكتاب ذاته في قراءة جديدة». وفي تلك الدعوة إلى المصافحة ربما، تفهّم بأنها محاولة لتجنّب عشم القارئ في كتاب كامل أو تفهّم بأنها دعوة فعلاً إلى مصافحة الدخول إلى عالم مفتوح أو إلى كتاب لا يتبع التصنيف المتعارف عليه عالمياً وعربياً في نوعية الجنس الأدبي.

تلك المصافحة هي بداية دخول عزت القمحاوي نفسه إلى كتابة النص الأدبي الحرّ الخارج عن الأجناس الأدبية، ودعوة إلى الكتابة التي هي قراءة مستمرة كما يعرفها الروائي الإسباني الشهير خابيير مارياس. يبدأ الكتاب بتأمل الحواس ثم يأخذك في رحلة إلى علاقة الكتابة بالمكان ثم علاقة الإنسان بجسده، وبينهما تقديم نقد للحداثة وتأثر المجتمعات العربية بالحداثة والنيوليبرالية. ثم يتأمل كل شيء عبر منظور كتب التراث، لذا هو دعوة إلى قراءة مستمرة بداية من التراث حتى أعمال مختلفة من الروايات المترجمة. مصافحة تدعو المتلقّي إلى قراءة أيك الحياة نفسها.
في عمله «الكاتب وكوابيسه»، يورد إرنستو ساباتو (1911 ــــ 2011): «لا شيء حقيقياً في الفن غير الذاتية المتطرفة البعيدة عن أي تزييف. وكل ما عداها يبقى شيئاً مشكوكاً فيه وموضوعاً للنقاش». هناك مشكلة في العالم العربي في التعامل مع النصوص الذاتية، بداية مما كتبه طه حسين في كتابه «الأيام» حتى يومنا هذا. يتساءل بعضهم ماذا يستفاد من كاتب يكتب عن نفسه وعن تأملاته كأنّ العالم التخييلي الذي يشيّده الكاتب ويكتبه في رواية أو قصة، لا ينبع من نفسه، بل من تجربة شخص آخر مثلاً. وفي هذا الكتاب الذي يصنّف ككتاب ذاتي، تجد أن ما طرحه ساباتو جزء صحيح وآخر خطأ. الجزء الصحيح أن الكتابة سواء ذاتية أو تخييلية تحفّز دوماً بشكل ما على سبر أغوار النفس واكتشافها، بل وأنت تكتب، تجد نفسك في عداد الموتى، الكتابة هي محاولة للخلود، أو محاولة لمواجهة الموت. والجزء الخاطئ أنّ كل كتابة، أياً كان نوعها، هي شيء مشكوك به، لأنّ لا كاتب يكتب الحقيقة كما هي أو كما أورد القمحاوي في كتابه: «فالاتهامات بالمبالغة واقفة دائماً بالباب لخيال الكاتب الذي لا يملك إلا أن يبتسم في مواجهتها، لأنه وحده يعرف أن الحقيقة كانت أكبر وأنه اضطر إلى تخفيفها لتصير أدباً». وإذا أراد العالم تصنيف الكتابة الأدبية تبعاً للتصنيفات الرائجة، فمن الأفضل أن يكون هناك أدب ولا أدب، والأدب الحقيقي وحده هو الذي يدعو القارئ إلى الشك في أفكاره وما يظنه صحيحاً، ويدفعه إلى التأمل عبر منظور آخر، واللاأدب هو الذي لا يثير أي شيء بداخل القارئ. وما كتبه القمحاوي في هذا العمل أدب حقيقي لأنه دعوة إلى تأمل كل شيء بعين الفن لا بعينه، أو بعين خاضعة لوجهة نظر مسبقة لا تقبل غيرها. مصافحة عبرها قد يغربل عالم القارئ الذي لا يعرفه. يكتشف القارئ علاقته بحواسه عبر حواس الكاتب، ويتأمل المكان عبر عين الكاتب ويراه مكاناً آخر. لذا ما يحققه الكتاب هو دعوة لتأمل الشيء نفسه لكن بإحساس مختلف.
استدعاء كتب التراث كمحاولة لفهم الماضي أو نقده


في منتصف الكتاب، يظهر بوضوح استدعاء القمحاوي للمكان وعلاقته بالكتابة، واستدعاء لكتب التراث كمحاولة ربما لفهم الماضي أو التعلّم منه أو حتى لنقده. يشتبك الكتاب مع كتب التراث بقوة، مستدعياً إياها أحياناً للدلالة على حرية قد لا يملكها إنسان اليوم أو قد يستدعيها لنقدها، أو نقد أفكار مضت وما زالت المجتمعات العربية متأثرةً بها. كما أن الكتاب يحاول دعوة الحواس لتأملها، هو أيضاً يدعو إلى تحرير النفس من القيود الدينية والسياسية والاجتماعية الخاطئة. يكتب عزت في فصل «الوجود نصف المخفي»: «والشرفات عيون البيوت، ليست مجرد تفصيل في البناء، لكنها التعبير الجمالي عن الرغبة في التواصل مع الآخرين». من خلال شرفة الأيك، قد تتكون رغبة في التواصل مع كتب التراث ومع المكان وحتى مع النفس، بشكل مختلف عما سبق. يشيّد القمحاوي عبر شجرة الأيك عالماً كاملاً. ينتهي الكتاب بنص بعنوان «القصة الأخيرة» تبدأ بأن هناك شروراً لمهنة الكتابة توقع عدداً كبيراً من الضحايا. ثم تسرد قصة كاتب ظل يكتب حتى السبعين، ثم مات تاركاً ما كتبه إلى كاتب آخر، ثم يسرد جزءاً من رواية قصيرة له تنتهي برمزية عودة حبيب من هجرة إلى كنف حبيبته بسبب ورقة بيضاء. وربما هذا ما قد يفعله أيك القمحاوي أو ما يقصده بالعودة إلى تأمل كل ما ذكره في الكتاب، لكنّ الفارق أنها دعوة عبر ورق مليء بالحبر.