يكتب مازن معروف (1978) القصة كأنّه يبحث عن قصيدة غريبة، فالغرابة جزء من عالمه المتكوّن من ذاكرة طفولية. هكذا يرى الأشياء كأنها تخرج من الحرب بريئةً وعفوية، فلا تغيب الحرب عن أجواء مجموعته الجديدة «كيوم مشمس على دكّة الاحتياط» (دار هاشيت أنطوان/ نوفل)، فتحضر كأنّها شخصية أيضاً غريبة ولها ملامحها التي يتأمل فيها طويلاً. يجد وجوهاً وشخصيات وحيوانات لا تفارق مخيلته. مازن معروف شاعر وكاتب ومترجم فلسطيني ولد في بيروت عام 1978، يقيم اليوم في ايسلندا. أصدر ثلاث مجموعات شعرية («كأن حزننا خبز» ــ 2001، «الكاميرا لا تلتقط العصافير» ـ 2011، و«ملاك على حبل غسيل ـ 2012). بعد مجموعتيه القصصيتين «الجرذان التي لحست أذنَي بطل الكاراتيه» و«نكات للمسلحين» التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة «مان بوكر» الدولية عام 2019، ها هو يصدر مجموعته الثالثة وفي داخلها يعيش معروف مرة أخرى داخل أحداث فانتازية وواقعية في الوقت نفسه. في هذا الخط الفاصل بين واقعيتها وفانتازيتها، يطرح أسئلة مخفية عن وجودها كأنّه يريدها أن تقول ما تفكر به. في القصص، رغبة في رؤية الأشياء بنظرة مختلفة، كأننا ندخل الى حلم غريب، فنرى معنى ما مختلفاً: من البقرة العمياء التي ينزل من ثدييها شوكولا إلى «سعدى» التي تصنع الكروشيه من خيوط الغيم والنبات، إلى الجثث والطلقات والرصاص. هنا مكانان يندمجان، الواقع والخيال، لكن أكثر من ذلك هو المعنى الذي يجعلنا نلاحق خيوط تداخلهما. الكتابة كما تقترح المجموعة، أكثر من محاولة سرد ما حدث، بل هي ذهاب واثق للاستماع الى همسات «حياة لا يحدث فيها شيء» كما هي عنوان القصة الأولى
ما سرّ ذهابك الى القصة، وخصوصاً بعد إصدار مجموعتين شعريتين، هل هو رحيل ما أم عودة إلى الشعر بطريقة أخرى؟
ــــ قبل الشروع في كتابة «نكات للمسلحين»، لم أتوقع أن أخوض غمار القصة القصيرة يوماً ما. كنت أعتبر أن هذا الفن الكتابي استُحدث للفشلة، العاجزين عن كتابة الشعر أو الرواية، لذوي الخيال اللغوي القصير. غير أن ما حدث هو أنّ حقيبتي سُرِقت في استوكهولم عام 2012، وكان فيها آخر مجموعاتي الشعرية، مكتوبةً بخط اليد على دفتر صغير. كنت في صدد إرسالها إلى الناشر في غضون أيام. غير أنّ شخصاً لا أعرفه كان له رأي آخر. كنت جالساً برفقة اثنين من الشعراء العرب، في مقهى مواجه لمبنى الأكاديمية السويدية، حيث تجرى مداولات جائزة نوبل للأدب. كنّا نتحدث بحماسة في السياسة والأدب والمنفى، كون ثلاثتنا (فلسطيني، عراقية وسوري)، بعيدين قسراً عن أوطاننا. تقدم من طاولتنا رجل ثلاثيني، أذكر أنه كان سميناً بعض الشيء، متوسط الطول، ذا شعر خفيف ووجه مدوّر، وقد بدا عليه الحذر. أخذ يذرع التراس خارج المقهى، وفي يده كيس بلاستيك كبير تقريباً فارغ. أذكر أنّ حسّي الأمني (أحد مكتسبات العيش في مدن مأزومة ومفتوحة على احتمال تفجُّر ما) نبّهني إلى أنّ شيئاً لا يبدو مريحاً في تصرف هذا الرجل. كان الوحيد الذي عبرَ بطاولتنا في ذلك اليوم، لأكتشف أنه تمكن بخفة مذهلة، ومثيرة للإعجاب والاستفزاز كذلك، من أن يختطف شنطتي المعلقة على ظهر الكرسي من دون أن يثير انتباه أيّ منا. لم أكتشف الأمر إلا حين بدأنا بتلك العصبية المعهودة، على المشاجرة من سيدفع الحساب. مشهد كوميدي، مُربِك وغير مفهوم في آن، للسويديين والسياح. أتذكر أنني أمضيت المساء أبحث في علب القمامة المحيطة بالمقهى. كان الدفتر هو ما يعنيني من كل ما سُرِق. وبعدما استسلمت لفكرة أنّ الدفتر قد يكون رمي في مكان بعيد، توجَّهتُ إلى قسم الشرطة. استجوبني شرطي وشرطية، وأتذكر أنّ شيئاً ما في الحكاية لم يرق لهما. «دفتر شعر؟»، سألاني. «نعم»، قلت. فصرَفاني على الفور قائلين إنهما سيتصلان بي إذا ما وجداه. لم أستطع كتابة الشعر من يومها. ومن باب الالتزام بما أعتقده في القصة القصيرة، فإنني اقتدتُ نفسي إلى ذلك الفن الكتابي مسلّماً بفشلي.

الفانتازيا جزء من عوالمك القصصية والشعرية، أو ربما نسمّيها الغرابة، ما دورها في تجربتك الكتابية؟ هل هي أساس للنظر الى الواقع أم هي لجوء الى الخيال للهرب منه؟
ــــ أميل إلى الاعتقاد بأننا لا نستطيع فهم الواقع من دون المخيّلة. كما لا نستطيع فهم ذواتنا. المخيلة والموقف من العالم متلازمان لديّ. وأعني العالم بمقياس دائرتي الشخصية الذي بالكاد أجيد التعامل معه. أظن أنني ألجأ إلى المخيلة كما لو أنني أحمل جهازاً حساساً يتيح لي الإشارة إلى الواقع من دون تسميته. تتبُّعُه. محاولة تحريكه بفكرة. الكتابة بهذا المعنى هي نوع من السُّبات، لدخول العالم نفسه، العالم الذي تمَّتْ صناعة طباعك الأولى فيه. مشاعرك. وتجاربك، فتدخله الآن مستعيناً بأشياء لم تحدث. تلقيها فيه. كأنك تبدّل إحداثيته، فيما يصبح مرور الزمن فجائياً أكثر فأكثر مع العمر. المدهش أنّ علاقتنا بالزمن لا تختلف كثيراً عن علاقة أسلافنا به. يبدو أنّ ثمة خللاً كامناً في آلية تفكيرنا. توقّعنا. خلل إنساني جذاب بشكل ما. جميعنا نتوقع أن لا يمر الزمن، وإن بمنسوب من الوعي يختلف من شخص إلى آخر.


نعيش بانتظار تلك اللحظة، حيث نستيقظ ذات صباح لنجد أن الزمن توقف. إنها إحدى فانتازيات الكتابة. اعتراض الواقع. استجوابه. هناك شيء غامض إنما مشوّق، كالسحر. ما الذي يتبقى من ذلك الماضي؟ هل هي الأوقات الكبيرة؟ الصغيرة؟ أم مِزق من نسخة كربونية عن ذاتك أنت نفسك؟ الفانتازيا تسمح لي بوضع أسس حياة موازية. أسس غير مكتملة. سرعان ما أتخلى عنها مكتفياً بعالم قَلِق، غير مكتمل. غير منجَز. إنها طريقتي في مواجهة الماضي. فما يمضي يمضي. يترك شيئاً فينا للاستهلاك ويدير ظهره لنا. كيف يمكنكِ أن توظّفي شيئاً لم يعد له وجود، وخصوصاً حينما تتعلق الكتابة بمدينة تأفل ملامحها بسرعة قياسية، وبشكل صادم، كبيروت. لا مفر إذاً من استعمال الخيال. عندما أعود بالذاكرة إلى الوراء، أجد أنّ فلسطين كانت أول تمرين على الخيال. كنا كأطفال ملزمين بتكوين صورتها عبر المرويات العائلية. قصص اللجوء، والهجرة، وقصص الفدائيين المُفلترة والمبالغ فيها أحياناً. بهذه الطريقة، تشكلت هذه العلاقة بين الخيال والماضي. لم يكن هناك من وسائل تواصل اجتماعي أو خرائط غوغل. كانت فلسطين تستلزم أن يكون لديك مخيّلة خصبة بالحد الأدنى، كشرط للانتماء.

الحرب أيضاً لا تغيب عن مجموعاتك القصصية. ربما هي جزء من ذاكرتك أيضاً، لكنها تحضر هنا في القصص كجزء من مخيّلة أيضاً. هل ستبقى الحرب حاضرة في كتابتك؟
ــــ ربما لأنّ الكوارث الكبرى كالحروب، لا تلبث أن تعيد إنتاج نفسها على مستوى نفسي، وبصيغ متعددة مع مرور الزمن. قد تعاود الظهور كمشهد لم يكن ذا أهمية وقتها، أي قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاماً. ولا تعرفين لماذا استدعت ذاكرتك هذا المشهد بالتحديد دون سواه. وما الذي يريد قوله لكِ. قوله عنكِ. تلاحقنا الحرب لتدلّنا على مواطن الخراب فينا. أشعر بأنها محاولة للاعتذار. لمساعدتنا على ترميم ذواتنا، بمادة الحاضر، التي تختلف عن مادة الحرب. نحن على الأقل نحمل نوعين من المعجون الإنساني. تخيّلي أنكِ تسمعين صوتاً خافتاً، أشبه بأنين مزعج، تشعرين أول الأمر بأنك على وشك أن تفقدي عقلك، لكنك كلما ابتعدتِ عن مصدر الصوت، صار أقوى، أكثرَ حدة وقدرة على الإرباك. فلا يكون لديكِ من خيار سوى أن تبقي المسافة أقرب قدر المستطاع. هكذا هي علاقتي بالحرب. لقد آثرتُ كتابة الخيال انطلاقاً من الحرب اللبنانية، بخليطها المحلي والأجنبي، كونها أول الأحداث – أكثرها هولاً ومرحاً كذلك – التي عايشتُها كطفل. ولإدراكي أنني لفترة من الزمن، سأعيش لصيقاً بهذا الالتباس الذي تركتْه الحرب فيّ كطفل. لكني أدرك أيضاً أنه سيكون عليّ في وقت من الأوقات، أن أغلّف هذا الالتباس بمشمّع، وألتفتُ أكثر إلى أزماتنا الراهنة التي تهدد العالم، والشديدة الميوعة.

أحياناً تفتح القصص الباب أمام تأويلات كثيرة بنهايات مفتوحة، وهنا نشعر بعوالم الشعر داخل القصة، قد يكون هذا ما أهداك إياه الشعر؟
ــــ يحق للقارئ استطلاع القصة بالشكل الذي يتناسب مع ميوله الأدبية. بالنسبة إليّ، فقد بدأتُ قارئاً للشعر. أحببتُ فتاةً في المدرسة ووجدتُهُ ضرورةً لفهم ذلك الشعور بالانزعاج الذي تملّكني فجأة بدون أن أفهم أسبابه. كان شعوراً مربكاً. ووجدت متنفّسي في مجلّد ذي غلاف قديم لقصائد نزار قباني منذ أول دواوينه حتى أواخر السبعينيات. أكسبتني تلك القراءة تحيّزاً لن يفارقني للغة البسيطة والمجاز الخادع والابتعاد عن البلاغة المصطنعة، مع توقفي عند دواوين محمود درويش وغيره من الشعراء المصريين والعراقيين، انتهاءً بالشعراء اللبنانيين وبعض من فلسطينيي لبنان (سامر أبو هواش على سبيل المثال) ممن اقترحوا حساسية مؤثرة وموضوعات يومية، مدينية، وذاتية بدلالات شعرية حادة وبالغة العمق، كبسام حجار ويحيى جابر، ويوسف بزي، وفادي أبو خليل، وفادي طفيلي، وعناية جابر، إضافة إلى عباس بيضون، وبول شاوول، وعبده وازن، ووديع سعادة، ومحمد علي شمس الدين وغيرهم. لا نغفل كوكبة من الأسماء الجديدة آنذاك التي أطلقتها «دار الجديد». هؤلاء استوقفتني رؤياهم الشعرية، على اختلاف عمقها بين شاعر وآخر. لكني أجزم بأنهم ساعدوا في تكوين حساسية ما في الكتابة لديّ. غير أن تجربتي القصيرة مع الشعر كانت تدلّني على أنّ ثمة سياقاً قصصياً من خلال الصيرورة المستمرة وتغيّر الصورة وعلاقتها بالصورة التي تكونت كسابقتها في القصيدة. لم أكن أعرف لما أنا محكوم بهذا التحول؟ لكني كنت أدرك أنني أكتب بمنطق قصصي، الأمر الذي لم يكن يريحني. فهذا يعني أنني سأكتب يوماً ما القصة القصيرة (من باب فشلي كشاعر). أظن أن هذه الحساسية الشعرية هي ما نقلتُه معي إلى القصة وإن بمعالجات لغوية مختلفة الآن.

تأتي شخصياتك من بيروت، هل أضاف المكان الجديد آيسلندا شخصيات جديدة لك؟
ــــ أجد أن الشخصيات التي عرفتُها في بيروت، بتكوينها الانفعالي والمأزوم، أقرب إلى الحقيقة الإنسانية. الحقيقة غير المُعالَجَة، الحيوانية، الفجة. ما يجذبني فيها بعد كل تلك السنوات هو مَحَلّيتُها المستعرة، وإحساسها المتأهب، الممسوس بالأمل والمستعد للانقضاض على عمق الأشياء وتمزيقه. عندما أنظر إليها بعد كل تلك السنوات، فإني أتعرف فيها أيضاً إلى ملامح من نفسي. إننا نتحدث عملياً عن شارع، ذلك الذي عشتُ فيه. شارع واحد رئيسي تطوّقه شوارع أصغر أو أقل خطورة إذا جاز القول. وكان عليّ في الكثير من الأحيان التخفي أو ركن هويتي كفلسطيني أو لكنتي جانباً، مدفوعاً بخوف أجهله. خوف ظَلَّ لسنوات يغذي شعوراً بالغضب. خوف وغضب متلازمان الآن ومزعجان، ولا أعرف من أين يأتيان بالتحديد في كل مرة. قد يبدو مبتذلاً القول إنني بالكتابة، أحاول فهمهما. لكن ذلك جزء – وإن سطحيّ – من الحقيقة. في آيسلندا، ينصرف المأزومون إلى إدمان المخدرات أو الكحول أو الانتحار. أولئك الذين يفشلون في تطبيق آلية العالم السعيد بحسب غاليانو الذي يقول «نحن ملزمون بفجوات في الذاكرة كطريقة عيش طبيعية». ففي مجتمع ينعم بأمن اجتماعي وتكنولوجي لافت، وحقوق كاملة للمرأة والطفل والمثليين والكويرز، ويتمتع أفراده بحرية السفر والعيش في أي مكان في العالم، ولا يملك جيشاً، فإن معدلات الانتحار العالية مثيرة للاهتمام. لكن لا أحد يتكلم عن الأمر حين يتم التطرق إلى «أسعد شعوب الأرض» أو «النظام المصرفي المثالي». كل هذه مجرد دعايات لا مكان لها على الواقع. فالنظام المصرفي الآيسلندي واحد من أكثر الأنظمة البنكية جشعاً في العالم، تمنح القروض للأفراد بفوائد رهيبة، فيما تحمّل الشركات الخاصة ديونها بعد إعلان إفلاسها وبموجب محاصصات، إلى الدولة لتتسرب هذه الديون في نهاية المطاف إلى المواطن. كما أن هناك قضايا البيئة واللاجئين الأوكرانيين الآن. مع ذلك، لا أجد نفسي منخرطاً في نقاشات الآيسلنديين حول أي من تلك الأزمات رغم اهتمامي بها. لقد نشأت في بيروت كفلسطيني، وأشعر بأنني اضطررت إلى مغادرة تلك المدينة من دون أن أفهم كيف يمكن أن يُعَدّ وجودي كفرد فيها امتداداً لسلوكيات فلسطينية على المستوى السياسي والعسكري سابقاً، أو كيف يمكن أن أصبح جزءاً من نزاع سياسي محلي لبناني – لبناني في أي لحظة. كيف يمكنني أن أفهم أياً من ذلك من دون الركون إلى شخصيات عرفتها، وعبر توريطها بالفانتازيا والكوابيس والفوضى؟

بالمناسبة، فإن عوالم القاص إدواردو غاليانو حاضرة في قصصك، هل توافق؟ ومن غيره كان له التأثير على كتابتك؟
ــــــ تجذبني كثيراً كتابات غاليانو. اكتشفت في السنوات الأخيرة أننا أكثر تعلقاً به من القارئ الأوروبي. هذا على الأقل ما تقترحه مكتبات المدن الأوروبية التي زرتها حتى الآن. ربما لأنه يحمل مدلولاً سياسيّاً يستفزّ فينا شعوراً نفتقده بالإنصاف، واهتماماً بعذابات الإنسان، وقسوتِه وطرائفِه. لكني لا أجد أنّ لغاليانو صوتاً أدبياً فيَّ. اهتممتُ في فترة ما بلوكليزيو، فرانك أوكونور، ماريو بينيدتّي، فرانز كافكا، دينو بوزاتّي، وأيضاً غابرييل غارسيا ماركيز، كما نادين غورداماير، فلانيري أوكونور، ليديا ديفيس، وآيمي هامبل. القصة الإسبانو – أميركية، اقترحتْ منذ أوائل القرن العشرين أشكالاً جديدة للمخيلة. هناك أيضاً غوغول الساحر وموباسان وتشيخوف طبعاً. لكني لا أخفي تأثري بالسينما والكوميكس. ولأكون دقيقاً، بالغرافيك نوفل (الرواية المصورة). تجذبني علاقتها بحرية الرأي في أميركا وكيف أنها استطاعت مواكبة التحولات السياسية الكبرى منذ أوائل القرن العشرين، كما إمكانياتها السردية في التطرق إلى أي موضوع، رغم أنها اتخذت في السنوات الأخيرة خطاً صحافياً أو سيرذاتياً، أحياناً بشكل لا يتفق وأسلوب رواد في هذا المجال، كجو ساكو وغي ديليل. أحب ويل إيْزنِر، كما أعمال دانييل كلاوس، كريس وير، ألن موور، جولي دوسيت، أليسون بخيديل، وأدريان توميني.
عندما أعود بالذاكرة إلى الوراء، أجد أنّ فلسطين كانت أول تمرين على الخيال

لكن أكثر ما يلفتني في هذه الأعمال هو قدرتها على النفاذ إلى معضلات الإنسان المعاصر، عبر قصص مينيمالية، بالغة الدلالة والحساسية. أعتبره نوعاً من الأدب، حيث تتشارك الصورة واللون واللغة، وأحياناً بشكل متساوٍ، مهمة السرد. تأثرتُ بالكوميكس منذ كنت في المرحلة الابتدائية. وتعرفت إليها عبر سلسلة «العملاق» التي كانت تصدر في بيروت. كنت أذهب كل خميس، موعد وصول العدد الجديد من مجلة «سوبرمان» أو «الوطواط» وأحياناً «السهم الأخضر» أو «الفانوس الأخضر» (بطلي المفضل)، إلى الدكانة القريبة من بيتنا، لقراءتها على الواقف، في حال لم تسنح لي فرصة سرقتها. عندما أفكر في الأمر الآن، لا أفهم لماذا اعتبر شخص ما، في بيروت، أن من الضروري إيصال هذه المجلات إلى حينا والأحياء الأخرى، حتى في أعتى أيام الاشتباكات وشح البنزين والخبز. حتى إنّها كانت تحمل أسلوباً واحداً من أعظم رسامي الكوميكس ومؤسس شخصية «سبايدرمان»، هو ستيف ديتكو، الذي فضّل الانزواء بعيداً عن الأضواء والصحافة والمعجبين في شقة فقيرة في نيويورك حتى وفاته.

يقول بورخيس: هناك قصص لكيبلنغ أو كونراد تتمتع بكثافة الرواية. بما أنّ هناك قصصاً في مجموعتك لها روح الرواية، هل تفكر في كتابة الرواية؟
ـــــ أعمل حالياً على نص سردي طويل. ربما يكون رواية.

ربما يبرز في السرد الفلسطيني ذلك البحث عن معنى أن تكون لاجئاً وتحمل في روحك سؤال الهوية. لم يكن ذلك واضحاً في المجموعة، رغم حضور الوطن والمكان وأحياناً اللجوء، فهل تخفف السرد من ذلك السؤال وانتقل الى منطقة أخرى تمتلئ بالحكايا المنسية والهامشية؟
ــــ أكتب انطلاقاً من حقيقة تلازمني طوال الوقت، هي أنني لاجئ فلسطيني. لكن هذا لا يفرض عليّ التمسّك بالأشكال التقليدية والمباشرة في السرد للتطرق إلى اللجوء والهوية والتحولات التي طرأت على مَعْنَيْيهما بعد أوسلو. هناك خصوصية للفلسطيني تتعلق بالمكان الذي نشأ فيه الفلسطيني بعد عام 1948 و1967. والمكان يمنحه مكتسبات ثقافية مختلفة باختلاف موقعه.

جذبتني الرواية المصورة لقدرتها على النفاذ إلى معضلات الإنسان المعاصر، عبر قصص مينيمالية، بالغة الدلالة والحساسية

فالفلسطيني اللاجئ في لبنان لا بد أن يختلف عن الفلسطيني الذي ولد و/ أو عاش في ألمانيا، أميركا اللاتينية، أو الولايات المتحدة على سبيل المثال. ينطبق الأمر كذلك على فلسطينيي الضفة وغزة وفلسطينيي ما يعرف بأراضي عام 1948. جميعنا نحمل وعياً بالأسئلة الكبرى والمتعلقة بفلسطين. من يولد لاجئاً، يظل لاجئاً طوال حياته. وقد يصبح «سريع الإحساس بالإهانة» على حد قول بيتر بورك، وقد تتشوش علاقته الزمنية مع العالم. إلا أننا كفلسطينيين لا بد أن نتفاعل مع محيطنا ونكتسب بعداً ثقافياً يتعلق بمحلية المكان والبعد التاريخي والثقافي للمجتمع الذي نقيم فيه، من دون التخلي عن مبادئنا الإنسانية وحقوقنا السياسية. قصص هذه المجموعة هي من نتاج تجربتي الفردية كفلسطيني عاش في بيروت خارج المخيم، ضمن محيط محلي قلِق. وهي قصص منبثقة من الواقع، وإن اتكأت بنسبة كبيرة أحياناً على المخيلة. وأنا مهتم بتفحص إنسانية هذا الفلسطيني والملامح الحياتية التي جعلته يتماهى، سلباً أو إيجاباً مع محيطه، إنما خارج حدود الثقافة السياسية المعهودة للهوية.

المجموعة تحاول فقط تقديم أصوات هؤلاء الأطفال، وملامسة مخيّلتهم وإطلاق ما يفكرون به بشكل أوضح. هل القصة عند مازن معروف هي طريق للدخول في ذلك الطريق الشائك، خيال الطفولة؟
ـــ إنها مجرد افتراضات أدبية إذا جاز القول. فنحن لا نعرف حقاً ماذا يدور في عقل الطفل. أو كيف يتطور وعيه بالأشياء.