تأسطر لوركا (1898 ــــ 1936)، بسيرته المنشقّة حيّاً، وزاده موته المأساويّ أسطرةً، حتّى صار مرجعيّة شعريّة ومسرحيّة عالميّة معروفة، حتّى من دون قراءته، حتّى من دون معرفة الخطوط العريضة لهذه السيرة. ولكنّ «ديوان الثّماريت» (الصادر حديثاً بترجمة عربية عن «دار خطوط وظِلال» عمان/الأردن ـــ ترجمة رشيد وحتي) بالذّات يحتاج إلى تقديم وجيز يبسط حوافز تأليفه ويشرح عنوانه باقتضاب. ورد كثيراً في حكايات لوركا إلى أصدقائه، شفاهاً وكتابةً، أنّه حدّثهم مراراً، بين عامَي 1931 و1935، فترة تأليف الديوان، عن عمل شعريّ، تحيّة إلى قدامى الشعراء العرب في إمارة غرناطة، أسماه «ديوان الثماريت»، تيمّناً باسم بيت قرويّ وسط بستان في ملكيّة أسرته، حيث كتب أغلب غزليّات الكتاب وقصائده. احتفظ الشّاعر، عبر عنوان الكتاب وأبوابه، بكلمات تعود كلّها إلى أصول عربيّة من ديوان (تجميع مبوّب للقصائد؛ مكان لإدارة الدّولة، في البلاط الملكيّ أو في جواراته)؛ وثماريت (صيغة مبالغة للبستان المعطاء بالثّمار) إلى «قصيدة» و«غزليّة» (شكلان شعريّان عربيّان وفارسيّان)


1. غزليّة الحبّ المباغت
لم يكن أحد يدرك العطر
المانيوليا المعتمة لبطنك.
لم يكن أحد يعلم أنّك كنت تعذّبين
عصفور حبّ بين الأسنان.

كانت ألف خيل فارسيّة تنام
في الباحة مع قمر جبينك
بينما كنت لأربع ليال أشدّ
خاصرتك، عدوّة الثّلج.

بين الجبس والياسمين، كانت نظرتك
غصناً شاحباً من البذور.
كنت أفتّش، كي أمنحك إيّاها، في صدري
عن رسائل العاج التي تقول دوماً،

دوماً، دوماً: حديقة احتضاري،
جسدك الهارب دوماً،
دم شرايينك في فمي،
وها فمك بلا ألق لموتي.

2. غزليّة الحضور الرّهيب
أريد للماء أن يبقى بلا مهد،
أريد للرّيح أن تبقى بلا أودية.

أريد للّيل أن يبقى بلا عينين
وقلبي بلا زهرة الذّهب؛

للثّيران أن تحادث الأوراق الكبيرة
ولديدان الأرض أن تموت من الظّلّ؛

لأسنان الجمجمة أن تلمع
وللاصفرارات أن تغمر الحرير.

باستطاعتي أن أرى مبارزة اللّيل الجريح
يصارع ملتصقاً بالظّهيرة.

أقاوم غروب السّمّ الأخضر
والقسيّ المتكسّرة حيث يقاسي الزّمان.

لكن لا تضيئي عريك الصّافي
كصبّار أسود مفتوح في الأسل.

دعيني في قلق من الكواكب الغامضة
لكن لا تلقّنيني خاصرتك الطّريّة.

3. غزليّة الحبّ الخائب
اللّيل لا يريد القدوم
كي لا تأتي،
ولا كي أذهب.

لكنّي، أنا، سأذهب،
ولو أنّ شمس عقارب تأكل صدغي.

لكنّك، أنت، ستأتين
بلسان أحرقه مطر الملح.

النّهار لا يريد القدوم
كي لا تأتي،
ولا كي أذهب.

لكنّي، أنا، سأذهب،
مسلماً العلاجيم قرنفلتي المعضعضة.

لكنّك، أنت، ستأتين
من خلال المجارير العكرة للعتمة.

لا اللّيل يريد القدوم ولا النّهار
كي أموت من أجلك
وكي تموتي من أجلي.

4. غزليّة الجذر المرّ
ثمّة جذر مرّ
وعالم بألف بلاط.

وحتّى اليد الأكثر صغراً لا
تستطيع تحطيم باب الماء.

إلى أين أنت ذاهبة، إلى أين، إلى أين؟
ثمّة سماء بألف نافذة
— معركة نحلات داكنات —
فثمّة جدر مرّ.

مرّ.
يؤذي بباطن القدم
داخل الرّأس،
كما يؤذي جذع اللّيل
الطّريّ الذي قطع تواً.

أيّها الحبّ، أي عدوّي،
إنّه يعضعض جذرك المرّ!

5. قصيدة طفل جرّحه الماء
أريد النّزول حتّى البئر،
أريد تسلّق أسوار غرناطة
كي أرى القلب وقد اخترقته
مسلّة المياه المعتمة.

كان الطّفل الجريح يئنّ
بإكليله الجليد.
كانت البرك، الخزّانات والفسقيّات
تشهر في الرّيح سيوفها.

أيّ، أيّ هياج للحبّ، أيّ حافّة جارحة،
أيّ وشوشة ليليّة، أيّ موت أبيض!
أيّ صحارى ألق كانت تحفر
كثبان رمل الفجر!
كان الطّفل وحيداً
مع المدينة الرّاقدة في حنجرته.
انبثاق كان نابعاً من الحلم
كان يحميه من جوع الطّحالب.
الطّفل واحتضاره، وجهاً لوجه،
كانا مطرين أخضرين متشابكين.
كان الطّفل يتمدّد على الأرض
وكان احتضاره يتموّج.

أريد النّزول حتّى البئر،
أريد الموت موتتي نفحة نفحة،
أريد ملء قلبي زبداً،
كي أرى الطّفل الّذي جرّحه الماء.

6. قصيدة الدّمع
أوصدت شرفتي
لأنّي لا أريد سماع الدّمع
لكن خلف الأسوار الرّماديّة
لا نسمع شيئاً آخر عدا الدّمع.

ثمّة ملائكة قليلون ينشدون،
ثمّة كلاب قليلون ينبحون،
ألف كمان طوع راحة يدي.

لكنّ الدّمع كلب عملاق،
الدّمع ملاك عملاق،
ألدّمع كمان عملاق،
العبرات تشكم الرّيح،
ولا نسمع شيئاً آخر عدا الدّمع.

7. قصيدة الأفنان
تحت أشجار ثماريت
أتت كلاب رصاص
ترتجي سقوط الأفنان،
ترتجي أن تتكسّر لوحدها.

لثماريت شجرة تفّاح
بتفّاحة من نحيب.
بلبل يخمد زفرات
يبعدها تدرج بالغبار.

لكنّ للأفنان بهجتها،
الأفنان شبيهتنا.
لا تفكّر في المطر فتنام،
كما تفعل الأشجار، سريعاً.

جالسان والماء حتّى ركبهما
واديان ينتظران الخريف.
ظلّ باهت بخطوات فيل
كان يدفع الأفنان والجذوع.

تحت أشجار ثماريت
ثمّة أطفال كثر مقنّعو الوجه
ترتجي سقوط أفناني،
ترتجي أن تتكسّر لوحدها.

8. قصيدة المرأة المضطجعة
أن أراك عارية، يعني: أن أتذكّر الأرض.
الأرض النّاعمة، المنظّفة من الخيول،
الأرض دون أسل، شكلاً نقيّاً
مقفلاً في المستقبل: تخوم فضّة.

أن أراك عارية، يعني: أن أستوعب قلق
المطر بحثاً عن ساق هشّة،
حمّى البحر ذي الوجه الهائل
دون ملاقاة ألق وجنته.

سيرنّ الدّم عبر المضاجع
وسيأتي ممتشقاً سيفه الملتمع،
ولكنّك لن تعرفي أين يختبئ
قلب العلجوم ولا البنفسجة

بطنك صراع جذور،
شفتاك فجر بلا استدارة،
تحت الورود الدّافئة للفراش
يئنّ الموتى منتظرين دورهم.

9. قصيدة الحلم في الهواء الطّلق
زهرة ياسمين وثور ذبيح.
بلاط لا متناه. خريطة. قيثار. فجر.
البنيّة تتخيّل ثوراً من الياسمين
والثّور غسق دام يتضرّع.

لو كانت السّماء طفلاً صغيراً،
لكان للياسمين منتصف ليل معتم،
وللثّور سيرك أزرق بلا مصارعين
مع قلب عند قاعدة عمود.

لكنّ السّماء فيل
والياسمين ماء بلا دماء
والبنيّة باقة ليليّة
فوق البلاط المعتم الفسيح.

بين الياسمين والثّور
أنياب عاج أو أناس مضطجعون.
في الياسمين فيل وغيمات
وفي الثّور هيكل البنيّة العظميّ.

10. قصيدة اليد المستحيلة
أنا لا أريد شيئاً عدا يد،
يداً جريحة، إن أمكن.
أنا لا أريد شيئاً عدا يد،
ولو أنّي أمضيت ألف ليلة دون سرير.

لربّما كانت زنبقة شاحبة من جير،
لربّما كانت حمامة رست فوق قلبي
لربّما كانت الخفير الّذي، ليلة عبوري،
قد يمنع، قطعاً، القمر من الدّخول.

أنا لا أريد شيئاً عدا هذه اليد،
من أجل الزّيوت اليوميّة والإزار الأبيض لاحتضاري
أنا لا أريد شيئاً عدا هذه اليد،
كي أسند أحد جناحي موتي.

الباقي كلّه يمضي.
هي حمرة لا اسم لها، نجم دائم.
الباقي آخر؛ ريح حزينة،
بينما تهرب الأوراق أسراباً.

11. قصيدة الوردة
الوردة
لم تكن تبحث عن الفجر:
تكاد تكون أبديّة على فننها،
كانت تبحث عن شيء آخر.

الوردة
لم تكن تبحث عن معرفة ولا ظلّ:
تخوم شهوة وحلم،
كانت تبحث عن شيء آخر.

الوردة
لم تكن تبحث عن الوردة.
مستقرّة في السّماء
كانت تبحث عن شيء آخر