لست من المقتنعين بمحاولات دحض التوراة، ودحض روايتها. فليس من حاجة أصلاً لهذا الدحض. التوراة جزء أصيل من إرثنا الثقافي. أي أنها ملك لنا، وملك لتاريخنا. ويجب التأكيد على هذا، لأن نهوض الحركة الاستعمارية الصهيونية، ووليدتها إسرائيل، أدى إلى قدر من التشوّه في علاقتنا بتاريخنا. فلأن هذه الحركة الاستعمارية العنصرية تربط نفسها بجزء من تاريخنا، الذي هو الديانة اليهودية، فقد بدا كأن هذا الجزء صار خصماً لنا. وانتهى بنا ذلك إلى أن سلّمنا ــ وبشكل ما ـــ للعدوّ بأنه هو من يملك هذا الجزء من تاريخنا بالفعل. وهذا يعني أنّ جزءاً من تاريخنا صار غريباً عنا، ولا يخصّنا. وانطلاقاً من ذلك، أصبح ليبرمان ونتنياهو وريثين لجزء من تاريخنا على الأقل. وهذا أمر خطر جداً في الحقيقة. فتسليم التاريخ للعدو، يحمل في طياته تسليماً ما للحاضر والمستقبل بشكل ما.
أنانكي أسّاف ـــ «تحوّلات: السرّ يجب أن يُكشف» (2011)

وهو ما يفرض علينا وضع الأمور في نصابها الصحيح. فالديانة اليهودية، مثلها مثل الديانة المسيحية، بعض من تاريخنا وتراثنا الفلسطيني والعربي. والتوراة مثلها مثل الأناجيل نتاج أرضنا، وعلامة من علامات تاريخنا. أي أنه يجب التغلب على التشوه الذي حصل في علاقتنا مع قسمٍ من تاريخنا وثقافتنا، واستعادة هذا التاريخ من خلال معالجته وفهمه. وهذا يعني الذهاب من قبلنا إلى الديانة اليهودية من أجل فهمها، وفهم كيف تشكلتْ، ولا شيء غير ذلك. لكن على أرضية أنّ التوراة، برواية دينية عقائدية لمسار هذه الديانة، ومسار تشكلها، أي أنها كتاب دين أساساً، لا كتاب تاريخ، رغم وجود بعض العناصر التاريخية فيها.
والذهاب إلى التوراة سيوصل إلى أنها كتاب تحكّمت بصياغته ونسجه صراعات سياسية ودينية ضارية، الأمر الذي جعل من تأليفه وصياغته أمراً معقداً جداً، ومختلفاً بشدة عن صياغة الإنجيل والقرآن مثلاً.
وثمة عقبتان تعترضان فهمنا لكيفية تأليف التوراة:
الأولى: تتمثل بأن قاعدتها الأساسية وُضعت في العصر الفارسي، الذي لا نملك عنه إلا معلومات ضئيلة ومشتتة، بل إنه عصر يكاد يغرق في العتمة.
الثانية: وهي الأهم، فتتمثل في أن هناك حبكة ما، قصة ما، وراء التوراة، ووراء الصيغة التي وصلت بها إلينا. وما لم يجر الكشف عن هذه الحبكة المقصودة، فلن نتمكن من فهم هذا الكتاب، ولا فهم أي عنصر تاريخي يكمن في روايته. لقد صنع محرّرون محترفون هذه الحبكة، هذه التوليفة، وانطلاقاً من مصالح سياسية ودينية محددة، في لحظة تاريخية محددة. بالتالي، لا يمكن كشف هذه الحبكة إلا عبر الكشف عن هذه المصالح. وهذا يعني أنّ الأمر يجب أن يبدأ بالمصالح، بالسياسات التي فرضت وضع الحبكة، وتأليف التوراة على أساسها.
وبسبب الحبكة القصدية التي نتحدث عنها، فإن التوراة - أي الكتب الخمسة الأساسية في الكتاب المقدس - كتاب عنيد، لا يعطي ما عنده بسهولة. بل إنه في أحيان كثيرة جداً صيغ بالضبط لكي يخفي، لا لكي يضيءَ ويكشف. وهذا ما يجعل الحصول على الحقيقة منه عملية مرهقة جداً. فلا يجري الوصول إلى المعلومات الدينية، أو غير الدينية، فيه إلا عبر سلسلة طويلة من المناورات التي على الباحث أن يقوم بها. عليه، فالشك يجب أن يكون أداة مركزية من أدوات فهمنا للتوراة. يجب الشك في أنّ كل واقعة مركزية في هذا الكتاب قد حُرّرت، وعُدّلت، بل ربما قُلبت رأساً على عقب في أحيان كثيرة. أي أنّ الحقيقة قد تكون في الواقع عكس ما يقال لك. في كل خطوة، عليك أن تتوقع أن هناك من يريد أن يخدعك، من يريد أن يضلّلك. والأمر لا يتعلق هنا بالأخلاق، بل يتعلق بالمصالح. فالتوراة كما وصلتنا تعكس مصالح محددة. وهذه المصالح هي التي فرضت صياغتها بالشكل الذي نراه، أي فرضت الخدع والكمائن المتتابعة التي تصادفك وأنت تحاول فهمها.
والحقيقة أنّ الباحثين كانوا منذ القرن التاسع عشر يحسّون بوجود حبكة ما وراء التوراة، لكنهم لا يدركون عمقها وعمق قصديّتها. لذلك، فقد بدا لهم أن الأمر يتعلق بالمصادر واختلافها. فلدينا مصدر يهويّ، ومصدر إيلوهيمي، ومصدر كهانيّ. وقد جرى نسج التوراة من هذه المصادر المختلفة، وهذا هو جذر تضارب الأخبار والروايات والصيغ، أي أن الاضطرابات والتناقضات نتجت- بناءً على هذا الرأي- عن تنوع المصادر، وحصلت رغم جهود المحرّرين لتنسيق المواد المختلفة، وتوحيدها. وهو ما يفترض أن تدخل المحرّرين في المضامين كان في حدوده الدنيا، وأنه كان موجهاً نحو مصالحة التقاليد المختلفة والمتناقضة. والحقيقة أنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير، وأعقد. صحيح أنّ التوراة صيغت من مواد مختلفة، أتت من مصادر متنوعة. غير أنه كانت هناك دوماً فكرة حاكمة، فكرة مشرفة، تتحكم بصياغة المصادر، ونسجها، وترتيبها. وهي فكرة مدركة، تحذف وتقصي، تضيف وترمي، تظهر وتخفي، وانطلاقاً من حسابات محددة، ومصالح محددة. هذه الحسابات وهذه المصالح ظلت غائبة عن الغالبية الساحقة من الباحثين الغربيين، وغائبة عن وعيهم. والسبب هو الإيمان العميق، ذو الجذور الدينية بلا شك، بأن التوراة انبثقت من وحدة ما أصلية، وأنها تعكس هذه الوحدة، لا أنها فرضتها فرضاً.
غير أنّ الحقيقة هي أن التوراة نُسجت من تقليدين اثنين، تقليدين متعارضين متعاكسين. وكان هدف محرّريها الانتصار لتقليد على تقليد، إخضاع تقليد لتقليد، وقمع تقليد لصالح تقليد. أما التقليدان فهما: تقليد يهودا، وتقليد إسرائيل، أو تقليد بني يهودا، وتقليد بني إسرائيل. والاحتمال الأغلب أن التقليد المركزي المكتوب الذي كان بين أيدي محرّري سلطة يهودا في منطقة القدس، كان في الأساس تقليد إسرائيل، لا تقليد يهودا. فلم تكن يهودا، في ما يبدو، تملك تقاليد دينية مكتوبة راسخة. وقد اشتغل محررو التوراة على التقليد الإسرائيلي الذي وقع بين أيديهم. حرروه بشدة، وأرغموه على أن يتوافق بشكل ما مع تقليد يهودا وسلطتها. بذا، فكتب التوراة الخمسة خرجت من ورشة محرري سلطة يهودا على غير الشكل الذي دخلت فيه إلى الورشة. وما لم ندرك هذا، فلن يكون ممكناً لنا فهم التوراة، ولا فهم الديانة اليهودية.
من أجل هذا، ربما كان علينا، في أحيان كثيرة، افتراض أنّ الحقيقة هي بالضبط عكس ما تقوله لنا أسفار التوراة وإصحاحاتها، أي أن علينا قلب الرواية إن أردنا الحصول على الحقيقة. وبما أن عملية التحرير، أي إعادة صياغة التقاليد بناء على ما يجري على الأرض - وما كان يجري كان انتصار يهودا على إسرائيل- فقد كانت هذه العملية معقدة وطويلة جداً، ومرت في ما يبدو بمراحل مختلفة. فقد كان يُمسك بتقليد، ثم يجري تحريره، لكن النتيجة تكون غير ملائمة تماماً. ذلك أنّ النص الأصلي يظلّ هناك مهما حرّرته، يظل يقول شيئاً من قصته كما أرادها مهما قمعته، أي يظل عصيّاً على التطويع. لذلك كان يجري في كثير من الأحيان إعادة كتابة نسخة جديدة من السفر، أو القصة. أي أنّ التحرير كان يبدأ من جديد من نقطة الصفر، وبما يتيح حرية أكبر للتعديل عبر الحذف والإضافة.
التوراة حرب أهلية داخلية بين نصين، تقليدين، تاريخين دينيين مختلفين، وشرعتين متعاكستين


وبسبب هذا نشأت ظاهرة الـ «تثنيات»، أي الأسفار المزدوجة، في التوراة. فسفر «التثنية» كان «تثنية» على نص آخر، أي صياغة ثانية لنصّ قديم معروف. يؤيد هذا أنّ الملك يوشيّا ادعى أنه اكتشف نسخة أصلية من الشريعة تخالف النسخة الموجودة. ويعتقد أن هذه النسخة هي «سفر التثنية» ذاته. وهو ما يعني، عملياً، أنه ألّف نسخة ثانية مختلفة من السفر نفسه قالت أشياء ليست موجودة في السفر المتداول وقتها. كما أن سفر الملوك كانت له «تثنية» ما أيضاً هي سفر «الملوك الثاني». وكذا الأمر في ما يخص «أخبار الأيام» و«صمويل». فهناك «أخبار أيام ثان»، و«صمويل ثان». التثنية، إذاً، تكمن في جوهر التوراة ككتاب. وحتى حين لا يكون هناك «سِفر ثان»، فإنه يمكن اعتبار التكرار والإعادة داخل بعض الأسفار نوعاً من «التثنية»، نوعاً من الكتاب «الثاني». وبسبب هذه التثنيات، تضخّمت نصوص الشريعة، وتضخّمت التوراة.
التوراة، إذاً، نص مزدوج. نصّ فوق نصّ. تقليد فوق تقليد. التوراة حرب أهلية داخلية بين: نصين، تقليدين، تاريخين دينيين مختلفين، وشرعتين متعاكستين. التوراة نص منشقّ على ذاته. والديانة اليهودية بنيت على انشقاق داخلي بين الثنائيات التي تتكاثر: يهودا وإسرائيل، جبل الهيكل وجبل جرزيم، يعقوب وإسرائيل، الصغير والكبير، الشمال والجنوب، الهارونيون واللاويون. ولهذا تضخم كهنوت هذه الديانة، وتضخّمت شرائعها.
فهم هذه الثنائيات المتضاربة، وفهم الأرض السياسية الواقعية التي انبثقت منها، هو السبيل لفهم التوراة، وفهم مسار تكوّن الديانة اليهودية التي نعرفها، والتي وُلدتْ عملياً في العصر الفارسي حسب اعتقادي واعتقاد كثيرين. لكن يبدو أنّ فهم التوراة انطلاقاً من هذه الأسس أمر غير ممكن بالنسبة إلى غالبية الباحثين الغربيين. فهُم، من جهة أولى، مقيدون بالإيمان الديني الذي يطوّقهم من كل ناحية، ويفرض عليهم حدوداً يصعب تجاوزها. كما أنهم، من جهة ثانية، محكومون بالتمويل الذي يأتي بغالبيته الساحقة من مؤسسات دينية. وهذا التمويل يفرض عليهم شروطاً أشد وأقسى من شروط الإيمان. فهو يمسك بلقمة خبزهم. ومن الصعب على المرء أن يتجاوز حدود من يمسكون بلقمة عيشه.
بذا يفترض بنا ألا ننتظر هؤلاء حين يتعلق الأمر بدراسة التوراة، وبدراسة تشكّل اليهودية في فلسطين. المهمة ملقاة على أكتافنا نحن. لن يقوم بها بالشكل المطلوب غيرنا.

* شاعر فلسطيني