عندما ركبت عائلتها البحر في ذلك اليوم الغائم البعيد، كان المركب الذي سوف يصل بهم إلى شاطئ النجاة يفوق قدرته الاستيعابية بمرة ونصف. كانت الرياح تذهب وتجيء بهذا المركب المتهالك؛ كما لو أنها تراقصه التاشا تاشا أو الرومبا.عمرها يتعدى العام بشهور قليلة عندما وصلوا إلى بر النجاة. ولكن، هل كان حقاً بر نجاة؟!

سفينةٌ لمنظمة «أطباء بلا حدود»، تُقِلُّ لاجئين في ساحل نابولي (وكالة «فوتوغامّا» 2017).

بمجرد وصول المركب، ألقت الشرطة البحرية القبض على الركاب، ووضعوهم قيد الاعتقال في معتقل للمتسللين عبر الحدود. تم زجّهم في زنزانة كبيرة أشبه بصالة واسعة. بعدها بساعات، دخل المحقق. اقترب منه شخص يدعى مصطفى عبد المولى. كان طويلاً، نحيفاً، أسمر البشرة، مجعد الشّعر، متسق الملامح. وقدم للمحقق خطاباً بطلب اللجوء؛ مستعرضاً فيه أسبابه المتعددة التي يرى من وجهة نظره أنها يجب أن تكون جوازاً لمروره إلى البلاد. من أهمها أنه يتعرض في بلده لمحاولات اغتيال، وذلك مع الأسف على مسمع ومرأى من الشرطة نفسها. وتعمد أن يكتب في نهاية الطلب بعض كلمات منمقة، ومرتبة، تفيد أنه اختار إيطاليا للجوء لما تتمتع به من عدل ومساواة وحرص على الكرامة الإنسانية.
بعد أن أنهى الضابط التحقيق معهم تركهم وذهب دون التفوه بأي كلمة. مرت أيام كثيرة بعد خروجه من الصالة ظهر ذلك اليوم. مرت ثقيلة وكأن الزمن يتمدد إلى ما لا نهاية. وبسبب التمدد اللانهائي أصبحوا لا يدرون في أي يوم هم! في البداية، كان هذا الأمر يشغلهم، وبسبب ذلك كانوا حريصين على تسجيل التاريخ، ومع مرور الأيام لم يعد يعنيهم.
وفي صباح أحد الأيام، اصطحبهم شخص في سيارته إلى هيئة شؤون اللاجئين، بعد أن وصل إلى إدارة التحقيقات خطاب يطلب الاجتماع معهم. كان مصطفى عبد المولى وزوجته ينظران إلى العالم عبر نوافذ السيارة بتعجب، وكأنهما يشاهدان للمرة الأولى بشراً، شوارع، سيارات، يشاهدان حياة.
وجودهم في المعتقل لعدة أسابيع متتالية لا يعرفون خلالها ما إذا كان الوقت صباحاً أو مساء جعلهم كما لو أنّهم في عالم موازٍ لا يمت لعالمهم بصلة.
أمام طاولة يجلس إليها رجل وامرأة، وموضوع عليها دفتر وأوراق جلس عبد المولى وزوجته وابنته. راح الموظف ينظر إلى الأوراق ثم يرفع رأسه محدقاً فيهم كما لو أنه يتأكد مما هو مكتوب عنهم، ويقيسه بمظهرهم. تكرر الأمر عدة مرات، دون رسم أي تعبير على وجهه يستطيع به عبد المولى وزوجته التكهن بما يدور في رأسه.
دقائق مرت كما لو أنها دهر. بعدها، نطق بصوت عميق «تهانينا، سيطلق سراحكم من الحجز اليوم إن حالفكم الحظ».
كرر عبد المولى وراءه: «اليوم». قالها بنبرة غريبة، ربما كان هو أيضاً يسمعها للمرة الأولى، نبرة محملة بفرح غامر، يأس عامر، قلق، ارتباك، خوف، شك، تخوف، رهبة... نبرة نابعة من عمق الروح.
لم يفهم الموظف ما الذي يقصده هذا الرجل الجالس أمامه، مرتدياً ملابس غير متسقة الألوان، وبملامح لا تستطيع الاستدلال منها إن كانت أفريقية أو شرق أوسطية. لم يفهم ما الذي يعنيه بـ «اليوم».
لم يفهم أن مصطفى عبد المولى كان يكررها، لأنه منذ وقت طويل لم تعد هناك أيام، لم تعد هناك آمال، لم تكن هناك وعود، لم تكن هناك مواعيد..
ودون النظر إلى زوجته مد يده وأمسك يدها. شد كل منهما يده على يد الآخر.
- إطلاق سراحكم سيكون بكفالة مستر ومسز عبد المولى، وذلك بوصفكم طالبي لجوء.
نطق مستر ومسز عبد المولى بصوت واحد:
- كفالة!
- نعم. أنتم لستم مواطنين. وإذا فعلتم أي شيء ضد أعراف المجتمع، وضد ما تمليه عليكم شروط وثيقة لاجئ وأحكامها فسوف نرسلكم إلى المكان الذي جئتم منه.
وبنبرة عنيفة بعدها، تابع:
- هل فهمتما؟
هزا رأسيهما بمعنى «نعم»، ولكنهما لا، لم يفهما، لم يفهما أي شيء، لم يفهما ما الذي تعنيه شروط وأحكام أن تكون لاجئاً.
- أكرر عليكما مرة أخرى، حتى ذلك الحين ستخضعون لشروط محددة؛ إن فشلتم في الالتزام ولو بشرط منها فستعادون إلى السجن وسنعتبركم غير مؤهلين، ونرسلكم إلى حيث جئتم.
«سنرسلكم إلى حيث جئتم»، تهديد ووعيد كافيان ليرجف قلباهما.
- مفهوم؟
بشفتين رفيعتين بيضاوين مرتعشتين ردت: «نعم». بينما كانت تهز رأسها بقوة لا تنسجم مع الصوت المتردد الخفيض الذي أجابت به. بدت هرمة وهي لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها.
ردد مستر عبد المولى بثقة: «كل شيء مفهوم سيدي».
كان مستعداً للخضوع إلى أي شرط، حتى لا يعود مرة أخرى إلى الجحيم.
بعد بلع الموظف ريقه بجرعة ماء تابع: - حسناً، إليكما الشروط:
1 - سنراقبكم طوال الوقت، وعليكما تقديم تقرير أسبوعياً ويجب ألا تفوتا أي تقرير.
- قولا نعم إن كنتما تفهمان رجاء.
- نعم.. نعم.
قالاها بصوت واحد؛ صوت مبحوح، وضعيف، ومنهك.
2 – ستحصلان على دعم مادي أسبوعي يساوي 80 بيزة بالمجمل، ولن يسمح لكما بالعمل أو الحصول على أي أجر إضافي من أي مكان أو كائن كان.
- قولا نعم إن كنتما تفهمان رجاء.
نظرت مسز عبد المولى إلى زوجها نظرة يملأها الشك والريبة؛ هل يمكن أن يعيشوا بمبلغ 80 بيزة فقط. فأجاب مستر عبد المولى الرجل، وفي حقيقة الأمر كان يجيب عن نظرة الشك في عين زوجته مؤكداً لها:
- سنفعل كل ما تقولونه لنا؛ فنحن مواطنان صالحان.
وكأن الرجل لم يسمع منه شيئاً:
- قولا نعم إن كنتما تفهمان رجاء.
لم يكن هناك متسع لأي كلمات. لم يكن مسموحاً بأي كلمات. لم تكن سوى: «نعم، سمعاً وطاعة».
- نعم.. نعم.
3 – الشرط الأخير. سترسلان إلى محل إقامة نختاره لكما، ويجب أن تقيما في ذلك العنوان، يجب ألا تنتقلا منه أبداً. قولا نعم إن فهمتما.
- نعم.. نعم.. نعم.
أخذ عبد المولى يتمتم بها وهو يهز رأسه بقوة كدرويش مخبول.
وهو يغلق دفتره رمقه الرجل بنظرة ظلت تجوب ذاكرته طيلة سنوات عمره.
- ليس أنت من عليه إقناعنا بما إن كنتما صالحين أم لا مستر عبد المولى. سوف نتأكد من ذلك بأنفسنا.
في السيارة، جلس موظف مختص بحالتهم بجوار السائق. وعلى المقعد الخلفي، جلس الزوج تفصله عن زوجته حقيبة صغيرة وضعا فيها متاع عمرهما. بينما كانت الزوجة تضم ابنتها إليها. كانت رحلة طويلة إلى إحدى قرى الشرق الإيطالي، قرية نائية على الحدود. ربّما لم يسمع بها أحد مسبقاً. ومن المؤكد أنه ليس لها مكان على الخريطة.
توقفت السيارة أمام أحد البيوت. كان ذا حديقة خربة يحدها سور من الخشب الأبيض تقشر طلاؤه. فتح الموظف باب الحديقة، فسُمع صرير قوي، صرير الاحتفاء بهم، صرير مفزع ينبئ عمّا ينتظرهم هناك.
أربع درجات قادتهم إلى الباب الذي فتح على رائحة غريبة لا يمكن تمييزها. ولكنها رائحة غير مستحبّة، ربما هي العفونة من أثر الرطوبة.
غرفتان وصالة صغيرة ومطبخ وحمام. مشيا وراء الرجل من غرفة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان وهو يتحدث بلهجة آمرة.
- إليكما بعض القواعد الأساسية: لا شموع، لا تدخين، لا حيوانات، لا دعوات، لا أصدقاء، لا حفلات. كما تمنع ألعاب الكرة، ولا تستخدم الحديقة لأي أغراض أخرى.

(*) الفصل الأول من رواية بالعنوان نفسه، صدرت أخيراً عن «الدار العربيَّة للعلوم ناشرون/ بيروت»
(**) روائية مصرية من مواليد القاهرة، حاصلة على الدبلوم العالي في تاريخ الفن التشكيلي، باحثة ومحاضرة حرة في تاريخ الفن. صدرت لها تسع روايات: «صخب الصمت» (2010)، «الحياة ليست دائماً وردية» (2013)، «الوشم» (2014)، «نساء حائرات» (2014)، «شواطئ الرحيل» (2016)، «شغف» (2017)، «آخر أيام الباشا» (2019)، «على مشارف الليل» (2020)، و«قطار الليل إلى تل أبيب» (2021).