تشبه سيرة إدوارد سعيد (1935 - 2003) طائر الفينيق في الأساطير الإغريقية؛ الذي يعود إلى ذروة قوته بشكل دوري ولا ينتهي أبداً. أسطورة وصفها الروائي السوداني الطيب صالح بأنها «تزداد جمالاً مع الأيام». أخيراً، صدرت الترجمة العربية لسيرة سعيد التي كتبها تلميذه تمثي برنن (Timothy Brennan) تحت عنوان: «إدوارد سعيد... أماكن الفكر»، وقد ترجمها الباحث محمد عصفور ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، بعدما كانت قد صدرت باللغة الإنكليزية في عام 2021. هكذا، يتجدّد اللقاء مع اسم يعتبر الأب المؤسِّس لدراسات ما بعد الكولونيالية، هو الذي استطاع أن يرى العالم من زوايا مختلفة وتفاعل معه بطريقته الخاصة.رغم شهرة سعيد بأنه لم يحبّذ المريدين والتلامذة، فإن تلميذه تمثي برنن، أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية واللغة الإنكليزية في «جامعة مينيسوتا»، كانت لديه الرغبة في قراءة سعيد في مواجهة سعيد نفسه، ورأى في القلق الفكري لدى أستاذه، دافعاً للمضي إلى الأمام.
حاول برنن تأريخ وتسجيل ما لم يؤرخه إدوارد عن نفسه في سيرته الذاتية «خارج المكان» (1999) التي صدرت في ترجمة عربية عام 2000 (ترجمة فواز طرابلسي ــ دار الآداب). بدأت علاقة برنن بأستاذه إدوارد سعيد منذ عام 1980، وكتب كثيراً عنه قبل السيرة الحالية. كأن السيرة الحالية كانت أشبه بوعد قطعه على نفسه منذ أن وطئت قدماه «جامعة کولومبيا» وقابل أستاذه.


الفصول الأولى من الكتاب تستكشف وجوهاً عدة من حياة المفكّر الفلسطيني، منها زيجاته الاثنتان، والضغوط العائلية، والصداقات والمشرفون، بصفتها كعناصر مجتمعة تؤسّس لشخصيته الموسوعية والمثيرة.
ومن خلال الزيارات الميدانية، اقتفى تمثي برنن آثار أقدام أستاذه في بيروت والقاهرة ونيويورك والقدس، بالإضافة إلى ملفات مكتب التحريات الفيدرالي حوله، ومقابلات مع أسرته وأصدقائه وزملائه؛ والبحث في مراسلاته، ومقالاته التي لم تنشر. من خلال تجميع التفاصيل والحكايات جوار بعضها، نتعرّف إلى ما سماه الناقد والمفكّر الهندي إعجاز أحمد «الروح الكفاحية التي ميّزت أعمال سعيد ومواقفه». كأن سيرة سعيد لوحة موازييك تتشكل في مجملها من القطع الصغيرة.
إلى جانب معارك إدوارد سعيد في السياسة والأدب، يتوقف تلميذه عند معركته الحقيقية داخل روحه: «إدوارد صاحب روح معذبة. قضى ردحاً طويلاً من حياته يعالج عند محلل نفسي، ويتردد على العيادة بشكل مكثف، لمرتين في الأسبوع». أمر ألمح إليه إدوارد في كتابه «خارج المكان» من دون الخوض في تفاصيله.
ظلّ سعيد في «جامعة كولومبيا» طوال حياته العملية. وهنا يتوقف برنن أيضاً عند ملاحظة هامة: «إذا كان مع تشومسكي وحنة أرنت وسوزان سونتاغ، هو المثقف العام الأكثر شهرة في فترة ما بعد الحرب، فإنه الوحيد بينهم الذي اعتاش من تدريس الأدب. وكان سعيد مبتهجاً بهذه الحقيقة».
يقدم لنا برنن معلمه في هذه السيرة كشخصية تحمل الواقع على كتفها، تُحدث فيه ما يتطلبه من تغيير من دون أن تدع الواقع المعيش المصاب بالجمود، يحمل الواقع الجديد، فيصاب الجديد بعدوى الجمود. بإيجاز، يقدم تمني إدوارد سعيد لنا باعتباره أكبر من الواقع بكثير. على سبيل المثال، هو لم يحضر إلى أميركا، بل أميركا هي التي حضرت إليه، ويعني ذلك أنه استطاع بوجوده في أميركا أن يحرك المياه الراكدة في المجتمع الأميركي بدلاً من أن يذوب فيه.
ويشير برنن في السيرة إلى اهتمام سعيد بتلاقي الأصوات المختلفة وتقاطعها لتنتج في النهاية صوتاً مشتركاً من دون أن تلغي فردية تلك الأصوات، كما هي الحالة في الأوركسترا.
في هذا السياق، يتأكّد المسعى النقدي الذي يصل بخطّ إدوارد سعيد في رؤيته للناقد، من حيث هو فاعل اجتماعي، يسهم من موقعه، على نحو مباشر أو غير مباشر، في الانتقال بالمجتمع من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية. ووفق ذلك، يرى أن تأسيس إدوارد سعيد لرؤيته النقدية لم يجعل له مكانة استثنائية، بوصفه ناقداً محسوباً على اليسار الأميركي فحسب، وإنما جعل له مكانة بارزة في خطاب ما بعد الاستعمار.
بعد عام على اكتشاف سعيد إصابته بمرض اللوكيميا، قرر اصطحاب زوجته مريم وولديه للمرة الأولى إلى فلسطين ليريهما بيت العائلة الذي تركه عام 1947، ولم يعد إليه أبداً. تجول في حي الطالبية في القدس الغربية باحثاً عن البيت، لكن الملامح كانت قد تغيّرت كلياً وأصبحت الأسماء عبرية. وفي النهاية، عثر على البيت الذي وجده كما هو من الخارج فيما كانت المفاجأة تحوّله إلى مركز إنجيلي أسّسه متطرف صهيوني من جنوب أفريقيا.
هنا يتوقف برنن كثيراً عند ذلك الموقف. تردد سعيد في دخول بيت عائلته وصار يمشي جيئة وذهاباً، حتى قرر في النهاية عدم دخوله. وبعد ذلك، صار يذهب إلى فلسطين مرةً في السنة على الأقل، تلك الزيارات التي أقنعته أن حلّ الدولتين غير ممكن على الإطلاق، خصوصاً بعد اكتشافه عدد الفلسطينيين في الجليل والناصرة والقدس، واتخذ موقفه النهائي والحاسم، بأن لا حلّ سوى بدولة واحدة يعيش فيها الجميع.
اختار ألا يدفن في فلسطين؛ فالعواطف هناك تستمر في تهديد وجوده داخل قبره


كان سعيد يسعى إلى دعم الأدب العربي أثناء كتابة «العالم والنص والناقد». وبدلاً من تقديم التفكيك إلى الشرق الأوسط، كان همه تقديم دراسة محمد مصطفى بدوي للشعر العربي الحديث إلى الملحق الأدبي لجريدة الـ «تايمز»، وأيضاً بعدما اكتشف نجيب محفوظ في عام 1972، قضى عقد الثمانينيات وهو يسعى إلى ترجمة ونشر أعماله في الولايات المتحدة. مشروع صار أسهل بكثير عندما نال محفوظ جائزة «نوبل» (1988).
وقد كتبت جاكلين كندي التي كانت أحد كبار المحررين في دار Doubleday رسالة تقديرية لسعيد شكرته فيها، رداً على رسائله التي كان يلح عليها بها بأسلوب لطيف، على «شرف اكتشاف» الروائي العظيم نجيب محفوظ. هكذا كان منهجه في «العالم والنص والناقد» أقرب إلى ما يستخرجه عالم الآثار من حفرياته ليعرض فيه مراحل سيرته العلمية كلها. من خلال هذا الكتاب، تتكشف مراحل تطوره الفكري تحت ضوء اختياراته وأحكامه بوصفه رسولاً من رسل الطليعة النقدية.
دُفن سعيد في مقبرة صغيرة تقوم على تلة منحدرة في برمانا في لبنان، واختار تلميذه أن ينهي سيرته الموازية بجملة: «اختار سعيد ألا يدفن في فلسطين؛ فالعواطف هناك تستمر في تهديد وجوده داخل قبره».