تتنوَّع إصدارات «دار - المجمّع الإبداعي» هذا العام بين روايات مشتركة («بيروت إكس أو» و«بريتيوم»)، ومجموعات قصصيَّة مشتركة: «قلوبٌ من ورق» و«خماسيّات» و«اختلاج». والأخيرة بحسب ما جاء على غلافها هي «مجموعة قصصيَّة» لخرّيجي الجيل الثالث في ورشة الكتابة الإبداعيَّة.وقد درجت العادة في إصدارات «دار» القصصيَّة ألا يكون عنوان الكتاب واحداً من عناوين القصص التي يتضمَّنها، بل عبارة تَشي بالجو العام للمجموعة من دون أن تكون واردةً بحرفيتها في أحد النصوص. ويتولى مدرّب الكتابة الإبداعيَّة في «دار» الصحافي والكاتب عبد الرحمن جاسم في مقدّمة الكتاب شرح أسباب اختيار العنوان وخلفيَّته وعلاقته بالمضمون. ولعل أحد أسباب اعتماد هذا الخيار مراعاة كون المجموعة لعدّة مؤلفين وتجنّب كل ما يمكن أن يوحي بتفضيل أحدهم على الباقين.
وفي شرحه لعنوان هذه المجموعة، يذكّر جاسم بالمعنى المعجمي لكلمة «اختلاج» وهو «متطلبات القلب وضوابطه وشجونه»، ليخبرنا أنَّ «ما بين أيدينا هو ما في نياط قلوب كاتباته وعُصارة خلجاتٍ واختلاجاتٍ يمكن الشعور بها على وجهٍ مباشر بمجرَّد الإمساك بهذه المجموعة القصصيَّة المختلفة عن مثيلاتها». ويأتي الغلاف الجميل الذي صمَّمه الفنّان عصام خازم في خدمة هذه الفكرة مؤيّداً ومؤكّداً لها.


أمَّا وجه اختلاف هذه المجموعة عن مثيلاتها، فهو جمعها القصة القصيرة والرواية القصيرة في كتابٍ واحد. تشارك كل من هلا ضاهر وغدير تقي بستّ قصص ودانيا النجار بسبع، بينما تحتل القسم الأخير من الكتاب سارة حمزة بروايتها القصيرة «نوفيلا» التي تقع في حوالى ستين صفحة وتحمل عنوان «لاءاتُ حبيبة».
ويستبق جاسم أي سؤال أو انتقاد محتمل لهذه «الخلطة» بالقول إنَّ إحسان عبد القدوس كان السبَّاق إليها في مجموعته «دمي ودموعي وابتسامتي» التي تضمَّنت رواية قصيرة هي «أبي فوق الشجرة»، وكذلك الياباني ياسوناري كواباتا في روايته «الجميلات النائمات» التي طُبِعَت ضمن إحدى مجموعاته القصصيَّة.
وبصرف النظر عن الموقف من هذا التعليل، فإنَّ «لاءات حبيبة» ظُلِمَت بإقحامها ضمن كتاب مشترك، لا لاختلاف جنسها عن بقيَّة ما في الكتاب فقط، بل لأنَّ هذه الرواية رفيعة المستوى كانت تستحق أن تصل إلى القارئ منفردةً في كتاب يحمل اسمها ويضمّها وحدها ويضمن إمكان مشاركتها في الجوائز المخصَّصة لجنسها الأدبي.
في هذه الرواية القصيرة، يبدو أسلوب سارة حمزة أكثر نضجاً مما كان عليه في المجموعة القصصيَّة المشتركة «دافنشي لا يُجيد الكتابة». بلغةٍ جميلة وأسلوبٍ مشوّق، تنقل إلينا من قريةٍ متخيَّلة في البقاع أسمَتها «مجدل صَفَر» حكاية ثأر بين عائلتَي الشريف والوافي تدفع ثمنه «حبيبة» الممرّضة في مستشفى في تعنايل، قبل أن تقرّر أن تشهر لاءاتها في وجوه الجميع، وترسم سارة خطوط حكاياتها ببراعة وشخصيَّاتها بدقة فائقة، حتى تلك الثانويَّة منها، مراعيةً أصغر التفاصيل التي يهملها الآخرون عادةً. تخرج «لاءاتُ حبيبة» من تحت يديها روايةً فاتنةً كاملةَ الأوصاف من تلك الروايات التي يغبط القارئ كاتبها عليها لو كان كاتباً مثله، ويتمنّى لو أنَّها حملت توقيعه.
أمَّا هلا ضاهر، فهي في قصصها «مذياع الجامع»، و«أربعة أشياء»، و«أخت الوزير»، و«شتلة بندورة»، و«الله يرحمه» و«يوم طويل في الملجأ»، فتبقى وفيةً لأسلوبها الذي عُرِفَت به في إصداراتها ضمن «دار» وخارجها، وهي صاحبة تجربة مميّزة في مجال الأدب المقاوم وكتابة سير الشهداء. وفي رصيدها مؤلفات عديدة، وهي تكتب القصة بشكلها «الأصلي» الذي يحبّ بعضهم وصفه بـ «التقليدي»، وهي ليست تهمةً في ظل بعض أشكال التجريب التي جعلت القصة الحديثة في غربة عن اسمها.
قصص دانيا النجار «موجة صدق»، و«سيامي أو بريطاني؟»، و«عسل بِشهده»، و«صحن شمندر»، و«صراحة زائدة»، و«الله على جماله» و«10 دقائق وبرجعلك» متفاوتة المستوى من حيث قدرتها على جذب القارئ وتشويقه وإقناعه بمواصلة القراءة، والتفاوت في المستوى بين نصّين لكاتبٍ واحد هو أمر طبيعي وبديهي، ولكن بعض نصوص دانيا تبدو أقرب إلى اليوميَّات منها إلى القصة القصيرة، وينقصها شيء ما كي تنجو من فخ الرتابة، فليس بالتقنيات واللغة الجميلة وحدها يحيا السرد. وما ينطبق على شأنٍ يحتمل اختلاف الأمزجة والأساليب (كاعتماد النهايات المفتوحة بدلاً من تلك المغلقة باعتبارها مذهباً له أهله من الكتّاب والقرّاء) لا ينطبق على «ثوابت» يفترض ألا تكون قابلة للمسّ حين نتحدّث عن قصّة قصيرة (غياب الحدث أو مراوحته مكانه وتحول القصّة إلى «يوميّات» تنتهي حيث بدأت في «صراحة زائدة» على سبيل المثال، بينما تقف على النقيض من هذا النصّ قصَّة «عسل بِشهده» التي تقوم على مفارقة لطيفة لا تظهر تماماً للقارئ إلا في النهاية).
يبدو أسلوب سارة حمزة أكثر نضجاً من ذي قبل


في قصص غدير تقي «لمن الجثة؟»، و«بين تركيا واليونان»، و«لا توقظ جدّي»، و«طلب صداقة غريب»، و«فضول»، يطغى الالتزام الحديدي ببعض تقنيات الكتابة الإبداعية (التسليع مثلاً) فيكاد يُفقد السرد إنسيابيّته في مواقع محدَّدة لولا أنَّ موهبة الكاتبة وحسّها السردي يحسمان الأمر لصالحها، فضلاً عن عوامل أخرى منها كتابتها عن بيئتها ومحيطها واستخدامها اللهجة المحكيّة في الحوارات.
ويبدو واضحاً جهد الكاتبة والأكاديمية تهاني نصار مديرة «دار» في مراجعة النصوص وتنقيحها وتحريرها، وهو جهدٌ يُضاف إلى جهود الكاتبات الأربع ومدرّبهن ليجعل من «اختلاج» كتاباً جديراً بالقراءة والاقتناء بحقّ.