ضمن سلسلة «أطروحات/ حضارة»، صدر كتاب للباحثة فوزية الغالي بعنوان «الفضاء المقدّس في الإسلام إلى نهاية القرن 8 هجري/ 14ميلادي» (دار زينب ـ تونس) تناقش فيه مجموعة من المسائل الإشكالية في الثقافة العربية الإسلامية، خصوصاً ما يتعلّق بالإسلام المبكّر مثل مفهوم المقدّس، والمسجد كفضاء، والكعبة ودورهما في تثبيت السلطة السياسية. يندرج الكتاب ضمن سياق دراسات الإسلام المبكّر التي تفوّقت فيها مجموعة من الباحثات التونسيات من تلميذات الراحل هشام جعيط وعبد المجيد الشرفي. تنوّعت هذه الدراسات، لكن الخيط الرابط بينها واحد يتمثّل في تفكيك مدوّنة الإسلام المبكّر ومؤسساته. وتمثّل التيارات الدينية اليوم بجناحيها الشيعي والسّني، تلك المرحلة من تاريخ العرب المسلمين التي ما زالت تمدّ بظلالها على المخيال العربي الإسلامي، وما زالت خلافات سقيفة بني ساعدة حاضرة في حياة المسلمين اليوم وتمثّلهم للسّلطة السياسية وإعادة إنتاجها.

توضح الباحثة فوزية الغالي سرّ اهتمامها بـ «الفضاء المقدّس» بالقول: «يتّصل الدافع الأوّل بما نلاحظه من انتشار واسع لفضاءات التعبّد؛ والتزام النّاس بالإقبال عليها على اختلاف مستوياتهم العلمية وشرائحهم العمرية. وتضيف: «وقد أثار فضولنا استمرار أداء طقوس وليدة بيئة بدوية بنفس الكيفية رغم انخراط المجتمعات المسلمة في مظاهر الحداثة».
أما دافعها الثاني فهو الدور الذي لعبه المسجد النبوي في المدينة من وظائف متنوّعة منها «تأليف الأتباع حول الدعوة وتسيير الدولة». أما دافعها الثالث، فهو قناعتها بـ «إعادة تقليب تمثّل المسلمين للفضاء المقدّس ووضع ما يعتبره الضمير الجمعي من قبيل المسلمات والثوابت على محكّ الدراسة المتأنية».
تحاول الباحثة في كتابها الإجابة على سؤال مركزي: «بم نعلّل انشداد المسلم إلى رقعة جغرافية محدّدة يتكبّد عناء ومشقّة للوصول إليها رغم اعتقاده أن اللّه في كل مكان؟». تطرح أسئلة أخرى عن استمرار قداسة المسجد والكعبة في التمثّل الإسلامي جيلاً بعد آخر.
اعتمدت المؤلفة في مدونتها على مجموعة من الكتب أوّلها القرآن، وكتب السيرة، وكتب الأخبار، والتاريخ، وكتب الرحلات. تقول في هذا السياق: «لا يستقيم تتبّع أخبار الفضاء المقدّس على امتداد ثمانية قرون إلاّ بتحرّي ترتيب الأحداث عبر السنين، فاقتضى ذلك الاستناد إلى كتب التاريخ».
وتنطلق فوزية الغالي في مقاربتها من «تمثّل المقدّس» في فترة الإسلام المبكّر، وهو ما يقتضي العودة إلى القرآن لأنّه «يؤسس العقيدة الإسلامية، ويحدّد تصوّر المسلم للعالم». وتحدد الآيات الثلاث التي ورد فيها لفظ المقدّس. وبحسب النص القرآني، يكون الحرم «هو الفضاء المقدّس الذي تأسّست به العقيدة الإسلامية في القرآن». وتضيف «ولا يعود توفير الحرم للأمن إلى عملية التبني أو الأسلمة، ولكن يخصّ مكانة هذا الفضاء في الضمير العربي الحافّ به، ممثّلاً في الحاجة إليه والمتعوّذ به لحاجة ماسّة إلى فضاء يأمن فيه على نفسه وماله وتجارته».
يتضمّن الكتاب ثلاثة أبواب، يحمل الأول عنوان «في تمثّل الفضاء المقدّس في الإسلام» وينقسم إلى ثلاثة فصول عن تمثّل مفهوم الفضاء المقدّس؛ وتشكّل مركز الفضاء المقدّس ومرجعيته. ترى الباحثة من خلال هذه الفصول أنّ «الفضاء المقدّس في الإسلام نتاج استقرار الجماعة في مجال جغرافي، من خصائصه أنه محاط بالغموض»، وتعني به الصحراء. كما أن تشكّل الفضاء المقدّس ليس مرتبطاً بفترة زمنية محدّدة، بل هو آلية تعتمدها الجماعة في تعاملها مع المحيط الطبيعي وتتخذ مثالاً «القبر» الذي يمثّل مرجعية قداسة متشظية.
وفي الباب الثاني، اهتمت بقداسة الكعبة والمسجد تفرّداً وتعدّداً، حيث ترى أنّ «الكعبة والمسجد يحوّلان قداسة الفضاءين من البعد الرمزي إلى عظمة التجسيد الإنساني الماثل في البناء». وتضيف «فالكعبة والمسجد كانا بدءاً هيكلاً بدائياً متكوّناً من أربعة جدران ترسم حدود الفضاء أفقياً بحسب الجهات الأربع ولكنّها منفتحة عمودياً على السّماء، لا تنغلق دونها بسقف. ويبدو الفضاء المقدّس بهذه الهندسة وعاءً كبيراً يحتضن المطر النازل أو الوحي النازل أو الرحمة النازلة من الإله على عباده المخلصين، وهو أيضاً مجمع أدعية وابتهالات وقرابين وعبادات يقدّمها المؤمن المتعبّد براهين ولاء وتجديد للعهد مع إلهه».
وتخصّص الباب الثالث في المسجد. تحت عنوان «في توظيف المسجد بين تسويد المقدّس وتقديس السيادة»، ضمّ ثلاثة فصول هي: في توظيف المسجد لتثبيت السيادة السياسية، وفي توظيف المسجد طعناً في السيادة السياسية، وفي سيادة المسجد بين المركزية والتشظي.
تبحث فوزية الغالي في هذا الباب دور المسجد السياسي بين صاحب السلطة ومعارضيه، مع دراسة سيرة المسجد الذي شهد «تحوّلاً في هندسته ووظائفه مردّه خضوعه لسلطة وليّ الأمر يستمدّ منه شرعية حكمه». لذلك اعتنى الخلفاء والملوك بمعمار المساجد كفضاء رمزي لتثبيت السّلطة. وقد ارتبط الاهتمام بمعمار المساجد وزخرفها مع توسّع النفوذ الإسلامي الذي حقّق التفاعل الثقافي مع أمم أخرى من روم وفرس، ممّا انعكس على طبيعة المعمار المسجدي، «فقد تشكّلت على التدريج نتيجة التفاعل الثقافي مع الأمم والحضارات العريقة، فاستفادت من ثرائها الفني لتطوير البناء» نتيجة شغف الخلفاء والملوك بالنسج على منوال ملوك الأمم الأخرى، وحرصاً على تخليد ذكراهم عبر البناءات الفخمة. وهو ما يؤكد «اعتبار السيادة السياسية ذات تأثير هام في تاريخ الفضاء المقدّس في الإسلام ضماناً لاستمراره، وتحديداً لملامحه».
وترى الباحثة أن دراستها لـ «الفضاء المقدّس» دفعتها إلى مراجعة مجموعة من المسلّمات من بينها «اعتبار مرجعية إضفاء القداسة على الفضاء، لا تصدر إلا عن نص توقيفي يوحي به اللّه أو ينطق به النبي». وتؤكد المؤلفة أنّ الفضاء الذي تتوافر فيه شروط القداسة بحسب المدلول القرآني، هو الحرم المكي فقط لأنّ ذلك «يكرّس وحدة المدلول ووحدة الإله في انسجام مع العقيدة التأسيسية للإسلام في محضن وثني ألا وهي عقيدة التوحيد».
وتعتبر فوزية الغالي أن الصراع السياسي عبر التاريخ بين الحاكم ومعارضيه، جعل الفضاء المقدّس، خصوصاً المسجد، عرضةً للانتهاك، مما أسقط صورته القدسية في الضمير الجمعي، «فتهاوت قداسته من الضمير المعاصر». لكن الرواة حرصوا على استعادة لحظة التأسيس «التي كان فيها الإنسان خالياً من اقتراف الذنوب، والعالم خالياً من الشرور».
اعتنى الخلفاء والملوك بمعمار المساجد كفضاء رمزي لتثبيت السّلطة


هذا الكتاب الذي يضاف إلى المكتبة العربية، يدلّ على جهد كبير في استحضار محطّات تاريخية بدءاً من لحظة التأسيس التي يمثّل فيها النبي محمد «نموذجاً فريداً لفهم أثر المتخيل في نمذجة قصة تأسيس المركز المقدّس من خلال ما ارتبط به من معالم عمرانية مغلّفة بلباس ميثي» في حين يرتبط العامل الثاني بطقوس التعبّد الموروثة. إذ تواصلت الطقوس في الفضاء المقدّس بصبغتها الاحتفالية، ويرتبط العامل الثالث بدور الفضاء المقدّس في تثبيت السلطة السياسية.
يطرح العمل إشكالية أساسية في المخيال العربي الإسلامي، وهي تَمثّل قدسية الفضاء، ليس في الممارسة الدينية فقط بل في الممارسة السياسية أيضاً، إذ ما زال المسجد فضاءً للتوظيف السياسي بين السلطة والمعارضة.