«كيف تبدأ الحروب الأهلية؟». في الواقع لا إجابة واحدة، إلا أن هناك أنماطاً تظهر لاندلاع هذا النمط مِن الحروب عبر الزمن والجغرافيا. في كتابها الجديد How Civil Wars Start (كراون ــ 2022)، تُحاول باربرا والتر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، تقديم نظرية عن اندلاع الحروب الأهلية، وتوضح مدى تغير الحرب الأهلية الآن عن نظيرتها في الماضي، خصوصاً الحرب الأهلية الأميركية في القرن التاسع عشر. وفقاً لوالتر، نادراً ما تندلع الحروب الأهلية في بلد مع حكومة ديموقراطية أو استبدادية. إنها بالأحرى تندلع في دولة في حالة انتقالية بين سلطتين... تلك المرحلة الانتقالية الخطرة، حين تصبح المؤسسات هشة ومصالح الأقوياء في حالة تغير مستمر. وهذه المساحة غير المستقرة تخلق فرصاً للعنف مواتية للذين يسعون إلى الإفادة من الفوضى لمصالحهم الشخصية أو الفئوية. كما تشهد البلدان تصادماً بين سياسات الفصائلية مثل: الهوية والحرمان من الحقوق، وشلل الحياة الطبيعية، وهذا بدوره يجعل الاحتراب الأهلي أكثر احتماليةً.

تزيد الفصائلية مِن شقاق المجتمعات الهشة بالفعل. ويمكن للجماعات العرقية والدينية أن تنشأ في مجتمعات هشة بسبب الخوف أو الضرورة. هذه هي الحال، بشكل خاص، عندما يتم تحديد هيكل المجتمع، أقلّه جزئياً، على أساس خطوط عرقية أو دينية، وعندما يتم حرمان المجموعات التي كانت تتمتع بالسلطة في السابق. وأحد الأمثلة الواضحة هو حرمان السُنة من مناصب السلطة في العراق لصالح الشيعة مع عملية اجتثاث «حزب البعث» العراقي، مما وفر أسباباً كافية لاندلاع العنف الداخلي المروع.
يُعالج كتاب والتر بشكل كبير التهديدات المحدقة بالديموقراطية الأميركية من خلال تطبيق نموذج التمرّد داخل الولايات المتحدة، خصوصاً بعد أحداث 6 كانون الثاني (يناير) 2021، يوم اقتحم المتظاهرون مبنى الكابيتول ونهبوه، وبدا البلد أكثر انقساماً من أي وقت مضى حول كل قضية تقريباً، وأكثرها إثارة للقلق هو الانقسام المستمر حول شرعية الانتخابات الأخيرة.
وبتضخيم الصراعات الفصائلية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، يبدو أن الانقسام داخل المجتمع الأميركي يمزّق نسيج البلاد ذاته. لقد أصبح هذا الانقسام متطرفاً، إلى درجة أن باربرا تتوقع حرباً أهلية جديدة. والأمر الأكثر إثارة للقلق، أن هناك من يبدو أنه على استعداد لها، بل يتطلّع إلى مستقبل يتم فيه رسم خطوط المعركة المادية على طول الحدود السياسية أو الجغرافية. ترى باربرا أن سنوات رئاسة ترامب كانت مؤشراً إلى الانحلال المؤسسي في الولايات المتحدة. تصف تلك السنوات الأربع بأنها علامة على انهيار المجتمع، إذ فتح ترامب صندوق باندورا الذي يحوي كُل آثام المجتمع الأميركي، وجعل المستقبل، في أحسن الأحوال، لا يحتمل إلا قدراً ضئيلاً من الأمل لتجاوز تلك الآثام. تُجادل والتر بأن أسس الديموقراطية الأميركية آخذة في التآكل، كما يتضح من محاولة ترامب تفكيك سيادة القانون ورفضه للأعراف الرئاسية. وتشير إلى أن صعود اليمين المتطرف والمجموعات الهامشية الأخرى مؤشر إلى ظهور تمرد ناشئ. وتُجادل بأن القضايا النظامية الحقيقية في البلاد، أي تلك المتعلقة بالعرق، والعدالة، والقانون، والنظام، تقع في نطاق يُهدّد بحدوث إبادة جماعية.
تكمن المشكلة في أنه بينما تُحدد والتر القضايا المشروعة، يتم أخذ الحجة إلى أقصى الحدود، لتصبح مُبالغاً فيها، بدلاً من أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لنقاش جاد. رغم سنوات ترامب، إلا أنّ مؤسسات الديموقراطية الأميركية أثبتت أنها راسخة. وعلى الرغم من المخاوف بشأن التطرف في الجيش وقوات إنفاذ القانون، هناك خطر ضئيل من انقلاب هذه المؤسسات على الدستور. كما أنّ ادعاء والتر بأن العنصرية الهيكلية المتأصلة في هذه المؤسسات، هي مقدمة للإبادة الجماعية، تبدو مسألة تحتاج لنقاش أوسع وأكثر جدية.
كتاب والتر جزء من اتجاه حديث للكتابة التي يبدو أنها تفترض أن الديموقراطيات، ولا سيما الديموقراطية الأميركية، لا يمكنها التكيف أو الاستجابة للتحديات الجديدة. لكنّها لا تقف عند التحديات الحقيقية والأساسية داخل الولايات المتحدة، في حين تعدّد الأمور الأكثر إلحاحاً مثل: المتمردون المحليون والميليشيات اليمينية وأنشطة أنتيفا وغيرها من الجماعات اليسارية العنيفة. هل يجب التعامل معهم؟ بالتأكيد، وإلى أقصى حد يسمح به القانون. لكن المؤلفة تركّز على هذه المجموعات المعزولة، في حين تجاهل التحديات السياسية الأساسية التي تعتبر هذه الظواهر أحد أعراضها.
رئاسة ترامب كانت مؤشراً إلى الانحلال المؤسسي في الولايات المتحدة


يتضح ذلك في الكيفية التي يصف بها النقاد والمحللون الدعم الذي حصل عليه الرئيس السابق ترامب. بدلاً من محاولة فهم المظالم السياسية التي يقوم عليها دعم هذه الشخصية السياسية، يطلق المراقبون ببساطة على هؤلاء المؤيدين أوصافاً مثل عنصريين. وعلى الجانب الآخر، كان منتقدو متظاهري العدالة العرقية مهتمين أكثر بتسمية المتظاهرين بالمشاغبين والمجرمين أكثر من التعامل مع المظالم الاجتماعية والعرقية التي تحفّز هذه الاحتجاجات.
تشير والتر إلى أنّ معظم الأميركيين يعتبرون أنّ الحروب الأهلية بعيدة من الواقع، لا تندلع بين جيوش منظمة منقسمة على أسس جغرافية وسياسية محددة. فالحرب الأهلية تهديد أكثر غدراً ومدفوع بالمتغيرات والعوامل ورجال الأعمال. مع أن هذا الطرح جيد، لكنّ والتر تذهب بعيداً، إذ طبّقت نموذجها للحرب الأهلية بشكل غير فعّال على حالة الولايات المتحدة.