«دائماً كان يحلو لي أن أتحكّم بالمسالك والنوافذ التي تُطلق عالمي الصغير هذا في العالم اللامتناهي»: في شعر جودت فخر الدين تطالعك الدهشة في تفاصيل اليومي وفي العبور السلس للشعر من النسبي إلى المطلق في إعادة لنسج التقاطعات بين الأشياء التي تتمغنط وتتركز حول ذات الشاعر الذي يكون بمثابة المهندس الأعظم. تتكامل الهندسة الداخلية للقصيدة بما يقع خارجها، يشكل بينهما الشاعر العالَم على مزاجه، وما يحمله الشعر في عصبه المتوتر من قلق وجدلية رافقت صاحب «فصول من سيرتي مع الغيم» منذ أعماله الأولى في «أقصّر عن حبك» (1979) و«أوهام ريفية» (1980) وصولاً إلى المجموعة الأخيرة «هندسة تليها تقاطعات» (2021): لا تزال لغة جودت فخر الدين تحافظ على نضارتها واحتفائها بحضور الطبيعة والكائنات التي تشكل مع الشاعر مجموعة من الكلمات المتقاطعة: حين يدور كلام بين حبيبَين/ يدور فقط.../ لا يأخذ معناه، ولا يعطيهِ/ يكون المعنى فيه كعطرٍ مهدورٍ/ لا يتجلّى في أشكالٍ/ تتقاطع فيه الأشكالُ كما يتداخل غيمٌ في غيم»: إنه التماس الدروب المجهولة والمصائر الغامضة في شعر الداخل إلى الشعر من بوابة الفيزياء، أو كما تقول الناقدة خالدة سعيد يدخلنا شعره في آفاق سحرية، مهما غرق هذا الحلم في الأسى. عن الشعر في هندسته للعالم وتقاطعات الوجود، كان هذا الحوار مع الشاعر في مناسبة صدور الجزء الثاني من أعماله الكاملة في مجلد كامل عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»

نبدأ من الديوان الأخير في الجزء الثاني من أعمالك الشعرية الكاملة «هندسة تليها تقاطعات». لماذا هذا العنوان؟ هل الشعر هندسة أخرى للكون؟ وهل الشعر تقاطع أم عزلة؟
ـــــ في أوائل العام الحالي، صدر الجزء الثاني من أعمالي الشعرية، عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» ويحتوي على خمسة دواوين آخرُها «هندسة تليها تقاطعات». وكان قد صدر منفرداً في العام الماضي (2021) عن «دار العائدون للنشر» في الأردن. في هذا الديوان قصيدتان طويلتان: الأولى «هندسة»، والثانية «تقاطعات». تتألف كل واحدة منهما من أربعة وعشرين مقطعاً. وفي عنوان كل واحدة منهما، إيحاءاتٌ تتعلق بمضمونها وبنائها.

جودت فخر الدين: الفيزياء الحديثة باتت تحتضن الفلسفة والشعر وتقدّمُ لهما مادّةً جديدة

في القصيدة الأولى، عملتُ على إعادة تشكيل المحيط الذي يخصّني في ضيعتي الجنوبية. وأقصد بهذا المحيط عالماً صغيراً يشكّل بيتي مركزاً أو محوراً له. دائماً كان يحلو لي أن أشكّل
هذا العالم الصغير وأن أعيد تشكيله على مزاجي، وتبعاً لِما يطرأ عليه من تغيّرات. ودائماً كان يحلو لي أن أتحكّم بالمسالك والنوافذ التي تُطلق عالمي الصغير هذا في العالم اللامتناهي. وما كنتُ أهجسُ به دائماً جسّدتُهُ أخيراً في قصيدتي «هندسة»، التي جعلتُها مقاطعَ تتكامل في ما بينها، ويمكن ــ في الوقت نفسه ــ للمقطع الواحد أن يكون قائماً بذاته. إذاً، تجمع هذه القصيدة بين هندستيْن، واحدة في خارج القصيدة، وواحدة في داخلها. أما القصيدة الثانية، فهي «تقاطعات». وفي كل مقطع من مقاطعها تقاطع أو أكثر بين خطوطٍ أو ظلالٍ أو حالاتٍ أو تصوراتٍ ... أو غير ذلك. وفي ردّي على جزءٍ من سؤالك، هل الشعر تقاطعٌ أم عزلة؟ أقول إن الشعر هو أكثر وأبعد وأغنى من كل تحديدٍ له، بل هو يعْصى على كل محاولة ترغب في تحديده أو تقنينه أو حتى تعريفه.

يصف الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح لغتك بأنها «لغة صافية بسيطة تساعد على التدفق الهائل للصور الشعرية»، هل البساطة شرطٌ مُضِرٌّ أو مفيدٌ للشعر؟
ـــ البساطة في رأيي أهمُّ ما يرغبُ فيه الشاعر ويسعى إليه. وذلك إذا اتفقْنا على أن البساطة هي خلاف التهويل من جهة، وهي خلاف التعقيد من جهةٍ ثانية. فالتهويل يتمثّل أحياناً بنوع ٍمن الفخامة اللغوية الفارغة، والتعقيد من شأنه أن يذهبَ بشفافية التعبير ونفاذه. أما البساطة المنشودة في الشعر، فهي المقترنة بالعمق وبالصُّوَر البعيدة التي من شأنها أن تفتح للرؤى آفاقاً لا تُحَدّ. بهذا المعنى تكون البساطة من مقومات الإبداع الشعري. ففي رأيي شعر المتنبي بسيط، وشعر أبي تمام بسيط، وكذلك المعلّقات... وغير ذلك الكثير من شعرنا العربي، الذي يُخطئ الذين يجدون صعوبةً في قراءته فيظنون. إنه ليس بسيطاً. بساطة الشعر شيء، وصعوبة القراءة شيءٌ آخَر. المسؤول في الأولى هو الشاعر، والمسؤول في الثانية هو القارئ.

أنت القادم إلى الشعر من الفيزياء، هل تظن أن ميداناً مثل فيزياء الكم، يحتوي على مقدار من الشعرية أكثر من الشعر نفسه؟ وهل بدأ الشعر يُقْصى من العالم لمصلحة جمهور صغير متخصّص كما أقْصِيت الفلسفة؟
ــــ لا أقول إنني جئتُ إلى الشعر من الفيزياء. في طفولتي، نشأتُ على حبّ اللغة والشعر بسبب الجوّ الأدبي في عائلتنا. وفي مرحلةٍ من دراستي، ذهبتُ إلى الفيزياء، ودرّستُها لأكثر من عشر سنوات. ولكنني ما لبثتُ أن عدتُ إلى الأدب، بل ظللتُ على علاقتي الوثيقة به حتى أثناء دراستي وتدريسي للفيزياء. وعندما حصلتُ على شهادة الدكتوراه في الأدب، انتقلتُ إلى تدريسه في الجامعة. وفي كل ذلك ظل الشعر في رأس اهتماماتي. أما بالنسبة إلى القسم الثاني من سؤالك، فيمكنني القول إنّ الفيزياء الحديثة غيّرت الكثير من تصورات البشر وأسئلتهم حيال الكون والوجود والحياة وكل شيء. هذه الفيزياء راحت تحتضن الرؤى الأكثر بُعْداً، والأسئلة الأكثر عمقاً. وربما صار من الممكن القول إن الفيزياء الحديثة باتت تحتضن الفلسفة والشعر، أو ربما أخذت تحلُّ محلّهما. ولكنني أميلُ إلى القول إنها لن تُقْصيَ الفلسفة والشعر، بل الأرجح أنها تقدّمُ لهما مادّةً جديدة. فما على الشعر والفلسفة إلا أن يجدا في الكشوفات العلمية فُرَصاً للتجدّد والانطلاق نحو فضاءاتٍ أرحب.

عنوان إحدى قصائدك «داء هو المعنى»، وفيها تقول إن المعنى شعاع في العدم، هلا شرحت لنا أكثر حول هذه النقطة؟
ــــ عنوان هذه القصيدة مستوحى من كلمةٍ للخليل بن أحمد الفراهيدي، هي الآتية «معنى كلّ شيءٍ محنتُهُ». وخلاصة ما أردتُ قوله في قصيدتي هو أننا نعيش محنةَ البحث عن المعنى. ونحن نعرف أن رحلة البحث هذه غالباً ما تتراءى لنا رحلةً عبثيةً، وإن كانت مشوّقةً وممتعة. كأننا في هذه الرحلة نلاحقُ ضوءاً يلوح لنا كالسراب، ونحن نضربُ في الظلام أو العدم.

لكل شاعر معجم خاص، وتكثر في معجمك مفرداتُ مثل الحور والغيم والحديقة، وأشياء هي أقرب للمناخ الريفي، وهي سمة مشتركة مع كثيرين من الشعراء اليوم. هل فشل الشعر اللبناني في اجتراح شعر مديني؟ لماذا لا نجد فيه شعراً عن البحر كتجارب ريتسوس في اليونان مثلاً؟
ـــ ذكرتُ لك في إجابتي الأولى أنني نشأتُ على حبّ اللغة والشعر. أضيفُ إلى ذلك أنني نشأتُ أيضاً على حبّ الطبيعة الريفية. ومنذ بداياتي في كتابة الشعر، رحتُ أحتفي بكائنات الطبيعة التي ظلّتْ تحضرني أينما حللْتُ أو ارتحلت. أكثر من ذلك، دخلت هذه الكائنات في لغتي الشعرية، دخلتْ في نسيجها. صارت كالمفردات، مفردات اللغة. ولكن هذا كله لا يدفعني إلى القول إنني في تناقض مع المدينة. فأنا عشتُ في بيروت أكثر ما عشتُ في أي مكان آخَر. أحببتُ هذه المدينة وتعلقتُ بها، أحببتُ الشوارع فيها والمقاهي والجامعات والبحر. وهنا أقول على سبيل التوضيح إن البحر له حضورٌ كبيرٌ في قصائدي. وفوق هذا، كان للتحولات الدراماتيكية التي عرفتها بيروت في العقود الأخيرة المنصرمة تأثيرات عميقة في حياتي وفي شعري.
أصلُ إلى القول إن التعارض أو التقابل بين المدينة والريف لم يعدْ كما كان من قبل، بالنظر إلى المستجدات الكبيرة في حياتنا، وخصوصاً في مجال الاتصالات التي قصّرت المسافات. لقد حصل التداخل أو التمازج بين الريف والمدينة، وبات من العسير التمييز بين شعرٍ ريفيّ وشعرٍ مدينيّ.

ما هو الثابت في لغتك الشعرية منذ المجموعة الأولى «أقصّر عن حبك» حتى الأخيرة «هندسة تليها تقاطعات»، وما هو المتحول؟
ـــ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلةً عليّ. كأنك تسألني: ما الذي تغير منك في بضعة عقودٍ وما الذي لم يتغير؟ أنا أعمل دائماً على تطوير لغتي الشعرية، بل هي التي تتطور تلقائياً في تناغم مع تجاربي في الحياة. تقنياتٌ كثيرة تطورت في كتابتي الشعرية، وغدتْ أكثر تبلوراً وتعبيراً عن شخصيتي. غدتْ أكثر كشْفاً عن نكهة خاصة يقول بعضُ الدارسين إن لغتي الشعرية تتفرد بها.

أنت ناقد أيضاً، إذ حضّرت أطروحة عن النقد العربي في العصور القديمة تحت إشراف أدونيس. هل كان النقاد العرب أجرأ في الأمس منهم اليوم؟ ألا تعتبر أن غياب النقد في أيامنا يعود في جزء منه إلى غياب الأعمال الأدبية المهمة؟
ـــ نعم، درستُ النقد العربي في مختلف مراحله، ولكنني مع ذلك لا أعدُّ نفسي ناقداً، وإنْ كنتُ في فترات معينة قد كتبتُ مراجعاتٍ لكُتُبٍ ومقالاتٍ في النقد ونظرياته. وقد أصدرتُ العديد من هذه المقالات في كتاب بعنوان «الإيقاع والزمان: كتاباتٌ في نقد الشعر»، احتوى أيضاً على ثلاث دراسات عن السيّاب وعبد الصبور وأدونيس. أما الأطروحة التي أشرْتَ إليها، فقد كان إعدادُها مناسبةً لي لمراجعة النقد العربي القديم من أوله إلى آخره (من القرن الثاني إلى القرن الثامن للهجرة). وكانت هذه فرصة للبحث في تطوّر الفكر النقدي عند العرب، لأن النقد الأدبي عندهم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الكلام والفلسفة والفقه، نظراً إلى أن محور هذا النقد هو البحث في الإعجاز القرآني.
وعن غياب النقد في أيامنا، نستطيع القول إنه مرتبط بغياب الفكر النقدي. وهذا الأخير متعلّق بتدهور الأوضاع التي نعيشها في مختلف المجالات، وبالتعصب على أنواعه الذي يضرب في مناحي حياتنا كلها. غير أن الأدب، وإن تأثر بكل ذلك، لا يستسلم، ويجد لنفسه مسالكَ تعاكس تياراتِ التعصب والتراجع.

هل تؤمن بنظرية تداول السلطة الشعرية بين الأجيال، وهل تعرف أسماء شعراء عشرينيّين في لبنان والعالم العربي؟ وهل تفاجئك مقارباتهم للعالم وخاصة في العصر الرقمي؟
ـــ لا أجدُني موافقاً على تعبير «السلطة الشعرية». فالشعر في جوهره مناقض للسلطة. أما الأجيال الشعرية المتعاقبة، فمن شأنها أن تتداول المبادرة والحضور، لأن كلّ جيل جديد إنما يسعى إلى الإمساك بزمام التجديد وتغيير القيَم الثقافية على اختلافها. من جهتي، أحاول الاطلاع على ما أمكنني من كتابات جديدة، في مواكبةٍ مني لِما تنتجه الأجيال الشابة. وكثيراً ما أجدُ في ذلك ما هو واعدٌ ومفاجئ. أما منصّات النشر في ما سميتَه بالعصر الرقمي، فلم تستطع أن تكون ملائمةً للشعر، بل ربما أضرّت به، لأنها انفتحتْ ساحاتٍ للفوضى واختلاط المواهب بالأوهام والادعاءات.

في شعر جودت فخر الدين رومانسية «ديناميكية» إن صح القول، «إعادة ابتكار للرومانسية والعلاقات بين الأشياء» كما تقول الناقدة زهيدة درويش، كيف يمكن الجمع بين الرومانسية التي يشوبها الكثير من النوستالجيا والابتكار المبني على الجدلية والتغيّر؟
ـــ الذين تكلموا عن رومانسية في شعري، ومنهم الناقدة الدكتورة زهيدة درويش، انطلقوا من ملاحظتهم حضوراً قوياً للطبيعة في قصائدي، وتناولاً جديداً لكائناتها. وجدوا في هذا التناول منحى مبتكَراً من مناحي الرومانسية. هذا في ظني ما قالتْ عنه الدكتورة زهيدة إنه إعادة ابتكارٍ للرومانسية. حواري مع كائنات الطبيعة بدأ منذ بدأت الكتابة. وتجلّى على نحوٍ خاص في ديواني الثاني «أوهام ريفية»، الذي صدر في طبعته الأولى عام 1980. في هذا الديوان، خاطبتُ النبع، والضباب، والشجرة، والصخرة، والقمر، والغيم... وكان لي في ذلك أن أستنطق هذه الكائنات التي خاطبتُها. جعلتُ الحوار من الطرفيْن. وصفتُ وشخّصتُ وتغزّلتُ وتهكّمتُ واستفززتُ في هذا الحوار. هل أقول إنني بذلك أقمتُ علاقة رومانسية بالطبيعة؟ هل أقول إن قصائدي انطوت على مفهوم خاص للرومانسية؟ وهل لهذه الأخيرة مفهومٌ معيّن، أو هي عصيّةٌ على المفاهيم؟ في كلام الدكتورة زهيدة إشارةٌ إلى الأشياء التي أغيّر العلاقات في ما بينها، وأعمل على إغناء العلاقات بيني وبينها. في هذه الإشارة ما يدلّ على حضور الأشياء في قصائدي، وعلى نوعيةٍ جديدةٍ من العلاقات بين الأشياء والأفكار والصُوَر.

تحاور الغيم في قصيدة طويلة كانت عنوان إحدى مجموعاتك الشعرية، وهو حوار أجراه الرسامون أيضاً مثل فان غوغ وجون كونستابل وأوكيفي وغيرهم، ما هي رمزية الغيم في شعرك؟ هل تشبه القلق الذي توصف به تجربتك؟
ــ «فصولٌ من سيرتي مع الغيم» هو عنوان القصيدة التي أشرتَ إليها. وهي تقع في أربعةٍ وعشرين مقطعاً، أتناول في كل واحدٍ منها موضوعاً يتصل بالغيم على هذا النحو أو ذاك. الحب، السفر، القلق، الموت، الحياة، الوضوح، الغموض، الحرية... الخ، عناوين تمتزج دلالاتها بدلالات الغيم، وتجعل لرمزيته أبعاداً لا تُحَدّ.

خضت تجربة الكتابة للأطفال، ماذا تخبرنا عنها؟ هل الكتابة للأطفال أصعب من الكتابة للراشدين؟ وهل تجد في فطرتهم وبداهتهم استعداداً أولياً لشعرية من عناصرها الدهشة والمفاجأة؟
ــــ حصل ذلك بالمصادفة. فأنا لم أكنْ أفكر في الكتابة للأطفال. وإنما كُلّفتُ بذلك عندما كنتُ أعمل في مركز للأبحاث اللغوية والتربوية في بيروت، قبل ثلاثين سنة تقريباً. كنتُ ضمن فريق مهمتُه وضْعُ طريقةٍ لتعليم الشعر. وطُلِبَ منّا تأليف قصائد للصغار على أوزان الشعر القصيرة، المجزوءات والمنهوكات، وفي مواضيع مختارة. فكان لي أن كتبتُ أكثر من مئة قصيدة أو مقطوعة. بعد ذلك بعدة سنوات، طلبتْ مني «دار الحدائق» في بيروت، وهي دارٌ معنيّةٌ بنشر الكتب الموجهة إلى الصغار، وكانت تُصدر مجلّتين للأطفال «أحمد» و«توتة»، طلبتْ مني كتابة قصيدة شهرياً لإحدى المجلّتين. فكان لي أيضاً أن كتبتُ مجموعةً من القصائد استعملتُ فيها الأوزان بالطريقتيْن: العمودية مرّةً، والحديثة مرّةً ثانية. من هذه القصائد كلها، أصدرتْ «دار الحدائق» حتى الآن ثلاثة كُتب. هذه التجربة في كتابة الشعر للأطفال كانت تجربةً غنيةً وممتعة، وجعلتْني أختبر قيمة الأوزان الشعرية في تسديد المعاني والأفكار.
تركت التحولات الدراماتيكية التي عرفتها بيروت في العقود الأخيرة، تأثيرات عميقة في حياتي وشعري

كما جعلتني أشعر بالمسؤولية الكبيرة في التوجه إلى الصغار بأشعارٍ ينبغي أن تكون جميلة في المقام الأول. وهذا هو الشرط الأساسي لكي تُناسب المهمة التعليمية المرجوّة منها. من المؤسف أن كثيرين يستسهلون الكتابة للصغار، بل هنالك كثيرون من المتطفلين في هذا المجال. وفي هذا خطرٌ ينال من الصغار ويُضِرّ بالعملية التربوية. فالصغار يستجيبون لعناصر الجمال في الشعر بما يفاجئ الكبار في معظم الأحيان. عناصر الجِدّة والمفاجأة في الصوَر الشعرية تجذب الصغار، وتجعلهم يستجيبون بحماسة، ويُظهرون أحياناً من ردود الأفعال ما هو مفاجئ ومدهش.

وصفت في بداياتك بأنك من شعراء الجنوب. هل يمكن كتابة شعر للجنوب اليوم؟ وهل أخذت تجربة تحرير الجنوب عام 2000 حقها لبنانياً وعربياً في الشعر والأدب؟
ـــ كيف ندري أن تجربة تحرير الجنوب، أو غيرها من التجارب، أخذت حقّها في الأدب. هل يتجلى هذا الحق في كمية الكتابات أم يتطلب نوعيةً، بل نوعياتٍ من الكتابة تُعيد ابتكار التجربة أو الظاهرة أو الحدَث؟ لقد أغرقتْ القضايا العربية الكبرى، وفي رأسها القضية الفلسطينية، في كميات كبيرة من الكتابات ليس فيها سوى القليل من النوعيات الجيدة. أما الشعراء الذين أطلقت عليهم تسمية «شعراء الجنوب» فقد فرضوا، منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حضورهم المميز في الساحة الشعرية العربية. وهم الآن حالاتٌ متمايزة، لكل منهم اتجاهه الفني الخاص، وكبيرة هي الاختلافات في ما بينهم. والجنوب لا يُختصر بما هو سياسي أو جغرافي أو اجتماعي، وإنما هو حالةٌ أو ظاهرةٌ ثقافيةٌ تعِدُ دائماً بالتحولات، وتُغري دائماً بالكتابة.

من خلال تجربتك الطويلة في تعليم الأدب العربي في الجامعة، هل ترى أن الوعي النقدي خفّ عند جيل اليوم؟ بماذا تختلف العدّة المعرفية لجيل اليوم عن جيلكم الذي وصف بالجيل الملتزم والمثقف؟
ـــ من الطبيعي أن تختلف المعارف من جيل إلى جيل. ولكنّ السؤال المقلق هو الآتي: كيف لنا أن نتقدم بدلاً من أن نتراجع؟ أو : كيف لمعارفنا المستجدة أن تغيّر القيَم السائدة تغييراً نحو الأفضل؟ هنا تبرز الحاجة الماسة إلى وعي نقدي. ويمكنني القول في إجابتي عن سؤالك إن هذا الوعي خفّ أو تراجع لدى جيل اليوم، على الرغم من تفاقم الأزمات والتعقيدات في المجالات كلها. لقد تراجعت السجالات والنقاشات حول الكثير من المفاهيم، ومنها مفهوم «المثقف» ومفهوم «الالتزام»، بالمقارنة مع ما كانت عليه لدى أجيالٍ سابقة، كجيل الستينيات وجيل السبعينيات(من القرن الماضي) على سبيل المثال.
وقبل الوعي النقدي، في مجال الأدب، هنالك أولاً قضية الاهتمام بالأدب واللغة. وهنا تدخل مشكلة التعليم، التي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. ربما لغياب الوعي بهذه المشكلة، خصوصاً لدى المسؤولين المعنيين بشؤون التربية والتعليم في بلداننا العربية. التخبّط هو السائد في مؤسساتنا التعليمية، في المدارس والجامعات، وبالأخص في ما يتعلق بتدريس اللغة العربية والأدب العربي. فالمناهج والبرامج تحتاج إلى تكوين من الأساس، يكون عصرياً ومتناسباً مع أنواع المستجدات. والأهم من هذا كله العمل على إعداد الجهاز التعليمي من مدرّسات ومدرّسين يتمتّعون بالكفاءات المطلوبة. بدون هذا كله، كيف لنا أن نتكلم على نقدٍ أو وعيٍ نقدي؟

ما مشاريعك المقبلة؟ هل تفكر يوماً في كتابة الرواية؟
ــــ لم أفكّر في كتابة الرواية، ولا أظنني سأفعل. ذلك أنني في كتابة الشعر أجدني مستجيباً لرغباتي، ممتلئاً بنفسي. واللحظاتُ الأثيرة لديّ هي اللحظات التي أشعر فيها بأن كتابة الشعر تتهيأ لي، أو أنني أتهيأ لها. وفي السنتين الماضيتين، عشتُ حالاتٍ من التدفق الشعري، أتاحت لي إصدار ديوانيْن في عام 2021. لقد اكتسبْتُ في هاتيْن السنتيْن عاداتٍ جديدةً في تزجية الوقت والاستفادة منه. وكان ذلك بسبب العزلة التي فرضها علينا انتشار وباء كورونا، الذي تزامن عندنا مع تفاقم المشكلات والأزمات من كل نوع. لا أدري كيف جعلني هذا كلّه أكتب من القصائد أكثر (نسبياً) مما كتبتُ في أي فترة سابقة. والآن أشعر بأنني أتهيأ لمشاريع مقبلة، وبأنني بالشعر وحده أستطيع المقاومة، مقاومة الظلام والوحشة.