تسلّط حرب روسيا على أوكرانيا الضوء على أهمية دراسة الحرب. لغاية اليوم، لا تزال نتيجة الحرب غير مؤكدة. هل ستصمد دفاعات أوكرانيا، أم ستنهار كييف أمام هجوم موسكو الشامل؟ في الحرب، لا شيء مؤكداً سوى الدمار والموت. في كتاب جديد يحمل عنوان «الحرب تتحوّل: مستقبل التنافس والنزاعات بين القوى الكبرى في القرن الحادي والعشرين» (منشورات المعهد البحري ــــ 2022) War Transformed: The Future of Twenty-First-Century Great Power Competition and Conflict، يُحدّد الميجور جنرال ميك رايان من الجيش الأسترالي، كيف تغيّرت الحروب، وما تحتاج إليه الجيوش الغربية للاستعداد لهذه التغييرات. يحدّد ما لن يتغير وما سيتغير مِن إستراتيجيات عسكرية. يركز عمل رايان على الأفكار والمؤسسات والأشخاص الذين يشكلون الجيوش كعناصر أساسية للتغيير، بدلاً من اتباع المسار الدؤوب للتركيز على التكنولوجيا.

تشهد ساحات القتال في أوكرانيا طرقاً جديدةً لإدارة الحرب مِن المعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر على TikTok وحروب الـ meme الدعائية على تويتر إلى الهجمات المضادة للدبابات بواسطة طائرات بدون طيار. في الوقت نفسه، اكتشف الجيش الروسي أن التحديات التي كتب عنها العسكري فون كلاوزفيتز ببلاغة لا تزال حاضرة، ففي الحرب كل شيء بسيط، لكن أبسط شيء هو الأصعب.
يُركز رايان على التحول العسكري والتكيف، ويتطرق إلى المفاهيم ذات الصلة مثل: القوة الوطنية، وتغيير مفاهيم الحرب ووتيرتها، والحاجة إلى المشاركة والتكامل. وربما الأهم من ذلك، دراسته للإرادة ــــ ذلك المقياس المجهول للروح البشرية ــــ التي يعدها مُهمة أكثر مما يمكن للمرء أن يتخيله، إذ يمكن للإرادة أن تدفع مقاومة العنصر البشري إلى حدود تفشل أفضل الخطط العسكرية الموضوعة. يسمح هذا التركيز الشديد لرايان باستكشاف الموضوعات الهامة عن الحرب (مثل التعليم العسكري والتطوير الصناعي المتعلق به) التي غالباً ما يتم تجاهلها في المناقشات حول مستقبل القوات المسلحة.
يُحدد رايان ما لا يتغير في استراتيجات المعركة، حيث ستبقى الحرب جزءاً من حالة الإنسان، وستسعى الدول القومية إلى استخدام القوة العسكرية لتعزيز مواقعها وإجبار الخصوم على قبول إرادتهم السياسية. وستبقى الجيوش هي الأداة التي يتم من خلالها تطبيق استراتيجيات الردع والإكراه. وستستمر هيمنة طبقة المحترفين من الجنود الذين سينفذون الإرادة السياسية للدولة القومية.
تبدو هذه الحقائق واضحة، لكن من اللافت أن ندرك مدى سرعة تضييع المناقشات حول القوة العسكرية، بعيداً عن هذه المبادئ الأساسية. لكن غالباً ما يتم العثور على كتب عن الجيوش تحتل مكاناً وسطاً، فهي لا تركز بدرجة كافية على ما يجعل الجيش فريداً، ولا واسعة النطاق بما يكفي لمعالجة الأسئلة الأكبر المتعلقة بالقوة الوطنية بفاعلية أو عمق كافيين.
غالباً ما يبدو أن النقاشات حول الحرب، تشير إلى أنّ الدول القومية ستتجاوز الحاجة إلى القوة الصلبة، وتسعى إلى التنافس في مكان آخر. وهناك صناعة يروّج لها خبراء الإنترنت حيث يتوقعون حروباً غير دموية تخوضها الآلة فقط، أو غيرهم ممن يقترحون أن الحرب يمكن (أو ينبغي) ببساطة أن تتم خصخصتها. ويمكن اعتبار المرء ساخراً لرؤيته مصلحة ذاتية مدفوعة بالربح في الترويج لمثل هذه الروايات عن الحرب.
وكثيراً ما يركز التحول على التكنولوجيا. لذا، فإن العديد من المناقشات حول التحول العسكري تركز فقط على المعدات العسكرية. ولا شك في أنّ كل تقنية تبدو تحويلية أو ثورية. وستعيد هذه الأداة الجديدة تشكيل ساحة المعركة بشكل أساسي مثل تحويل الطائرات المسيّرة الدبابات إلى تحف. وسوف تعمل الفروق التكنولوجية على حسم الصراع وجعل الردع موضع نقاش. ولكن لن تؤدي عمليات الحرب السيبرانية إلى إبطال الحرب التقليدية.
مع ذلك، يرى رايان أن مستقبل الحرب غير معروف إلى حد كبير. وما يهم أكثر ليس التنبؤ بالمسار الصحيح، لكن إنشاء مؤسسات تتسم بالمرونة بما يكفي للتكيف مع أي تغييرات قادمة. وهذا يعني تمكين الناس ليكونوا مبتكرين وتدريبهم ليكونوا مرنين وجاهزين لتبني الأفكار الجديدة حتى لو كانت من مصادر غير تقليدية. كما يعني بناء المؤسسات التي تحتضن الأشخاص والأفكار لاستغلال كُل طاقة تغيير حقيقي.
إن وجود هذه الثقافة الإستراتيجية سيضمن أنه بغضّ النظر عما قد يقدمه المستقبل، سيتم وضع مهنة السلاح بحيث تستجيب في الوقت المناسب. وإلى جانب الاستجابة، ستكون المؤسسة في وضع أفضل للتنبؤ بالتحديات الاستراتيجية المتوقّعة والتأقلم معها.
في حين أن ما يحدده رايان معقول ومرتكز إلى أسس علمية، لكن إلى أي مدى يكون من العملي محاولة تحويل وزارة الدفاع إلى مُستثمر في الإنسان وأفكاره؟ هذه ليست بالمهمة السهلة، فهناك الكثير من المصالح الراسخة، وطبقات من البيروقراطية، وتقف المهنية في طريق التحولات الكبرى في العمل العسكري، كما تخشى السلطة السياسية توسّع النفوذ العسكري في المجتمع، وهذه القضايا وغيرها تجعل التغيير الحقيقي أمراً صعباً.
تركيز على الأفكار والمؤسسات والأشخاص الذين يشكلون الجيوش


كمثال، يعمل سلاح مشاة البحرية الأميركية على خلق توازن بين الانضباط العسكري والمرونة في تبني الإستراتيجيات الجديدة. بالنسبة إلى منظمة غارقة في التقاليد والشكليات، فقد أثبتت بشكل مدهش أنها مرنة في تبنيها إستراتيجيات جديدة نحو المحيطين الهندي والهادئ والتهديد من الصين. وبعد التخلص من دباباتها الثقيلة وإعادة تعلم دروس الحرب الاستكشافية البرمائية، كانت فيالق مشاة البحرية الأميركية تتطور بشكل كبير على مستوى العنصر البشري والتسليح. لكن يبقى التحدي في تعميم هذه التجارب على الجيش ككل بجميع فروعه: البرية والبحرية والجوية.
ومن المحتمل ألا تكون الحرب مفهومة بالكامل. ستكون هناك نظريات لا حصر لها حول الحرب وسلوكها، لكن لن تكون هناك أبداً نظرية موحّدة كبيرة بغضّ النظر عن جهود كلاوزفيتز وآخرين. ولكن كما هي الحال مع علم الفيزياء، فإن دراسة الحرب ضرورية ومستمرة، بخاصة أنّ القوانين التي تحكم علم الحرب تتغير باستمرار، ولا سيما أن الجيوش: الأميركي والروسي والبريطاني والصيني والفرنسي وغيرها ابتعدت عن أي صراع حقيقي متوازن القوى مُنذ الحرب العالمية الثانية تقريباً. والآن تزداد حدة الصراع بين القوى الكبرى في جنوب غرب آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا الشرقية.