متابعةً لمشروعها في ترجمة الروايات الفائزة بجوائز «غونكور» الفرنسيَّة، قدَّمت «دار الفارابي» لقرّائها أخيراً النسخة العربيَّة من رواية الموريشيوسيَّة الفرنسيَّة ناتاشا آباناه «السَّماء فوق السطح» (2019) الفائزة بجائزة «خيار الشرق» (ترجمة لينا بدر ــــ تصميم الغلاف جبران مصطفى ـــــ متابعة ترجمة الكتاب وإنتاجه «محترَف القول الجريء» بإدارة غازي برّو).الرواية القصيرة تستعير عنوانها من قصيدة شهيرة من ديوان «الحكمة» للشاعر الفرنسي بول فيرلين (1844 – 1896) كتبها أثناء سجنه لمدَّة سنتين بعد محاولته قتل صديقه المقرَّب الشاعر آرثر رامبو. يبدأ العمل من مشهد اقتياد الفتى «لُو» (الذئب) في سيارة الشرطة لارتكابه جرماً لا يبدو في البداية واضحاً، ولكن القارئ يكتشف لاحقاً أنَّ الفتى - الذي لا يعرف أباه - سرق سيارة والدته في إحدى الليالي وقادها بشكل خطر (بالاتجاه المعاكس) لمسافة 600 كلم بحثاً عن أخته بالوما التي غادرت المنزل قبل عشر سنوات على إثر خلاف مع والدتها، ووعدته بالعودة لأخذه في أسرع وقت ولم تفِ بوعدها، فتسبَّب في وقوع حادث وإصابة شخصين وألقي القبض عليه وأودع سجن الأحداث.


وإذ تطل الكاتبة من خلال حادثة وضع الفتى في «الحبس الاحتياطي» (الذي لا يخفّف اسمه الملطّف من واقع كونه سجناً موحشاً لا يتخيَّل أحد كيف يقضي أمسياته فيه فتى في السابعة عشرة) على سجون الأحداث، وما يجري على نزلائها وما يخالجهم من مشاعر وما تتركه التجربة فيهم من آثار نفسيَّة، فإنَّها تقدّمها كحدث يكسر مجرى الزمن متخذةً منها نقطة انطلاق إلى ماضي العائلة التي توارثت القسوة جيلاً بعد جيل، مسافرةً بالقارئ عبر الزمن وبالاتجاه المعاكس كما فعل «لُو» تماماً.
مغادرة الفتاة بالوما – التي لا تعرف أباها بدورها - منزل عائلتها باكراً، ليس سوى إشارة أولى إلى حالة التفكّك والتمزّق التي تعيشها هذه الأسرة، فمتابعة السرد على لسان الوالدة «فينيكس»، تقودنا إلى ماضي الأم حين كانت طفلة تدعى «إلييت» بوجه ملائكي مثالي له لون أبيض حليبي. وكان الجميع يبالغ في الاحتفاء بها لجمالها وموهبتها الغنائيَّة التي ظهرت بدعم من والدتها الخياطة التي أبدعت في تصميم فساتينها الضيقة والاعتناء بزينتها وأحمر شفاهها الفاقع دون مراعاة عمرها أو الانتباه للنظرات المسلطة عليها التي باتت أكثر إلحاحاً وقسوة، ومن والدها المحاسب الصغير والطموح في المصنع جورج إفيار الذي راقه أن تكون ابنته مشروع نجمة، فأهمل البناء المتوازن لشخصيَّتها وسلامتها النفسيَّة. ولا يدرك الوالدان أنَّ ما يريدانه لابنتهما التي تحوَّلت إلى دمية يضعانها على الرفّ ويخرجانها كل حين للعرض فتغنّي وتقف للتصوير وتطيع ويصفّق لها الناس، لا يناسبها، حتى تفاجئها حقيقة أنَّ رأسها الصغير جداً يمكن أن يُسحق باليد ذات الأصابع الثخينة والخشنة للمهووس جان (أو جيرار) الذي استغل غياب والدتها وذهابها لإحضار مثبّت الشعر من السيارة لينقضّ عليها ويتركها بوجه ملطخ أصلحت ماكياجه الأم سريعاً وروح محطمة لم ينفع العلاج النفسي في مداواة جروحها. وفوق ذلك، تتحمَّل «إلييت» المسؤوليَّة عن انهيار عائلتها وفقدانها ثروتها إثر إحراقها منزل العائلة، ويقودها ذلك كله لاحقاً إلى إنجاب طفلَين من رجلَين مختلفَين. هكذا، تتحوَّل إلى «فينيكس» ذات الصوت الأجشّ والكلام القاطع والجسد المغطّى بالأوشام التي تعيش في كوخ قذر وتعمل في بيع قطع تبديل السيارات المستعملة والوسخة، وتصير الشخص الغريب عن والديه والمقتنع بأنَّ عليه أن ينهش بأنيابه مكانه في هذا العالم، مبتعدةً ما استطاعت عن الكلام المعسول والمشاعر الطيبة والأحلام العذبة.
تقديم وجهات النظر المختلفة لأفراد هذه العائلة وكيفية تعاملهم مع الصدمة


السرد الذي يتناوب عليه «لُو» وشقيقته «بالوما» ووالدته «فينيكس» على مدى 134 صفحة من القطع المتوسط (مع حضور واسع لشخصيَّات أخرى منها «الدكتور ميشال» الذي أشرف على ولادة «فينيكس» وافتُتن بها، قبل أن يتولى لاحقاً الإشراف على وضع لُو الصحّي في سجن الأحداث) يقدّم لنا وجهات النظر المختلفة لأفراد هذه العائلة ويحيلنا إلى تعامل كل منهم مع الصدمة والجرح الذي خلَّفته. إذ يروي الثلاثة تفاصيل حياتهم الأسريَّة ويتحدَّثون عن ندمهم وآمالهم وأخطائهم من خلال مونولوجات داخليَّة تبرز لدى كل منهم مزيجاً من التوق إلى الحرية خارج سقف البناء العائلي ومن الحنين إلى بقيَّة الأفراد. من خلال هذه المونولوجات، تنقل الكاتبة إلينا حكاية ضوء يسقط من السماء الزرقاء الهادئة على تلك المشاعر الجميلة التي تربط أفراد الأسرة ما وراء المآسي.
«السَّماء فوق السطح» صورة لعائلة ممزَّقة يعمل أفرادها على ترميم حياتهم بالحب، ومحاولة لاستكشاف الطرق التي يمكن من خلالها التفكيك وإعادة البناء، والخروج من ظلام الماضي وجدران السجن إلى سماء زرقاء تنتظرنا فوق السطح. لا بد، في الختام، من الإشادة بجودة الترجمة التي قدّمتها لينا بدر للرواية، فيما يبدو ضروريّاً التوقف عند إغفال «دار الفارابي» ذكر اسم المترجمة على الغلاف الخارجي وإزاحته إلى الصفحات الداخليَّة.