«ترجمة المتنبي» هو عنوان الكتاب الجديد - القديم الصادر حديثاً عن «دار النهضة العربية» (بيروت) الذي قدّم له وأعدّ حواشيه واعتنى بضبطه الشاعر والمحقق اللبناني حسن نصور عن كتاب «أعيان الشيعة» للمرجع السيد محسن الأمين العاملي (١٢٨٤هـ - ١٣٧١ هـ). إذ يصدِّر الكتاب بتبيان مقاصد صاحب «خطط جبل عامل» من إدراج المتنبي ضمن أعيانه. بحسب المجتهد العاملي، أغفل جامعو المتنبي، من أعلام شيعة القرن الرابع الهجري، علوياته، ومنها البيتان الشهيران: «وتركتُ مدحي للوصيّ تعمّداً/ إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا، وإذا استطال الشيء قام بنفسه/ وصِفاتُ ضوء الشمس تذهب باطلا»، لعللٍ ذكرها المؤلف في متن الترجمة التي اجتهد نصور في تخليصها من عيوب عديدة (صدرت بعناية المؤرخ حسن الأمين عن «دار التعارف للمطبوعات»، بيروت، ١٩٨٣) :«من هذه المشكلات الأخطاء التي تشمل متون الأبيات الشعرية، فضلاً عن إسقاط تشكيل هذه الأبيات، ما يجعل عسيراً على القارئ غير العليم بشعر أبي الطيب قراءة البيت الشعري. ومن المشكلات اللافتة أيضاً، اختلاط تعليقات المؤلف بمتون النصوص المقتبسة، فلا يكاد القارئ يفرّق في غير موضع من مواضع النص، بين رأي المؤلف نفسه، ومتن النص المقتبس في ظل التشابه الأسلوبي». يظهّر التحقيق جهود العلّامة الأمين مثل ردّه على مقالة المستشرق لويس ماسينيون، في ما خصّ قرمطية المتنبي، أو عقيدته الباطنية، التي هي برأيه «لا تستند إلى مستند صحيح، ولا إلى دليل يفيد الظنّ، فضلاً عن القطع».

وهو ما يؤكده نصور أيضاً بأنّ المتفحص لسيرة الشاعر، الناقد لها، لا يستطيع بأي حال، الجزم على نحو حاسم بعقيدة أبي الطيب، «مع نزوع من جانبنا إلى كونه، عقيدةً، ابن المزاج الكوفيّ، منبع التشيّع المبكّر؛ والعلّة، أن سيرته قلقة جداً بأحوالها كافة، بخلاف سيَر كثير من شعراء الطبقة الرفيعة». إذ إنّ الشاعر العملاق الذي عاش في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية (القرن الرابع الهجري) واستطاع أن يشيّد صرحاً أدبياً شامخاً اعترف به أدباء عصره والعصور اللاحقة، سيُسدل ستارٌ غامض على نسبه الشخصي وعلى والده (ووالدته). كأنّ إرادة خاصة قد تعمّدت ذلك وسعَت إليه، بل كأن المتنبي نفسه قد أسهم إلى حد كبير في التآمر على نسبه، لتنفلت منه بين الحين والآخر كلمة تحدث ثقوباً في هذا الجدار. إذ إن بيتاً مثل «سأطلبُ حقّي بالقنا ومشايخ/ كأنهم من طول ما التثموا مردُ» وغيره كان سبباً في نظريات عديدة حول نسب المتنبي وارتباطه بأفكار الغيبة والاستتار. أمر حدا بأحد الباحثين العراقيين (عبد الغني الملاح) إلى طرح فرضية فانتازية مثيرة في كتابه «المتنبي يستردّ أباه» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــــ ١٩٨٠) تقول بأن المتنبي هو ابن لمحمد بن الحسن المهدي الإمام الثاني عشر الغائب عند الشيعة، وقد حرص ذووه الأَشراف على نشأته كما حرص المتنبي نفسه على كتمان نسبه تحت ضغط الظروف التاريخية التي أحاطت به وبالحركة المعارِضة التي يرتبط بها.
للانتقال الى منطقة السجال الثقافي حول المتنبي وشعره، يعرّج نصور على انحياز الأمين الى جانب الصاحب بن عباد (٣٢٦-٣٨٥ هـ) في نقده القاسي للشاعر. إذ إنّه منذ تفتّح قريحة المتنبي الشعرية المبكرة، تكوّنت أوساط معجبة به، وبخاصة في بغداد، التي ستكون المركز الذي تشعّ منه دراسات المتنبي في كل أنحاء الجزيرة وفارس وما وراء النهر، وحيث لم يضع موته حدّاً للعداوة التي أول من حملها في صدره أبو الفرج الأصفهاني الذي لم يذكر مرّة واحدة المتنبي في كتابه الموسوعي «الأغاني»، وأبو الهلال العسكري الذي اكتفى في الصناعتين بأبيات قليلة ساقها من شعر أبي الطيب أمثلةً على المبالغات والمطالع الفاسدة، من دون أن يسمي صاحبها. ويبدو أنّ أبا علي الحاتمي (ت٣٨٨ هـ) هو الذي سنّ هذه السنّة من التآليف في رسالته «الموضحة» التي سجّل فيها وقائع المناظرة التي جرت بينه وبين المتنبي سنة ٣٥١ هـ عند زيارته لبغداد. ثم كثرت الرسائل واشتغل أصحابها بالرد فيها بعضهم على بعض من «المنصف للسارق والمسروق من المتنبي» لابن وكيع التنيسي، و«النقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته» لابن جني و«الوساطة بين المتنبي وخصومه» للقاضي الجرجاني، و«الإبانة عن سرقات المتنبي لفظاً ومعنى» للعميدي، وبخاصة «الكشف عن مساوئ شعر المتنبي» لابن عباد، الوجيه الشيعي الذي لم يغفر لأبي الطيب أنه فضّل عليه الوزير ابن العميد، فهاجمه في مؤلفه الصغير - مع اعترافه ببعض مزايا عدوّه - وبيّن فيه أخطاءه البيانية وجناسه الممقوت، واستعاراته التي هي «استعارة حداد في عرس».
ينتقد نصور انحياز العاملي للصاحب بن عباد، وهو انحياز يُقرأ بين السطور كأنه انحياز للتركيبة الفقهية والعقائدية للصاحب التي هي أقرب إلى الأمين من تركيبة المتنبي ورمادية نسبه وعقيدته، وليس بالتالي انحيازاً الى معايير الجمالية والشعرية، فنقرأ في مقدمة نصور: «والحق أنّ بعضاً ممّا عُدّ من المساوئ هو حقّ لا مراء فيه، لكن مساوئ أُخَر عدّها الصاحب، وأيّدها العامليّ، لا تستقيم بحال لو أردنا أن نحاكم أبا الطيّب من وجهة شعرية صرف، فمنها مثلاً نقد الصاحب بيت المدح الشهير: لو استطعتُ ركبتُ الناس كلّهمُ، قال الصاحب: «ومن الناس أمّه، فهل ينشط لركوبها؟!». وقد أتاه رد ابن فورجة (٣٨٠-٤٥٥ هـ)، بأنه «ليس كل من ذكَر الناس بسوء أو بغير سوء فقد عنى جميعهم حتى لا يشذّ واحد، ولو أكّده كل تأكيد، ولو توقّى الشعراء هذا الباب لكانوا في حرج من جميع ما ينطقون به»، ومنها أيضاً أن يؤخذ عليه استعمال ما يعدّ من ألفاظ المتصوّفة وعباراتهم، وألفاظ العامة والسوقة، أو ما يسمى إساءة الأدب بالأدب، فالشعرية لا تحتكم الى معايير أخلاقوية، بل ميزانها التركيب الشعري ذاته، والصورة وحسنها وغزارتها وإيقاعها في أذن المتلقي ونفسه، بشرط اتساقها من مقام القول. ينحاز المحقق في النهاية الى الموقف الثالث بين خصومة بعض الناس للمتنبي وغرام البعض الآخر به. وهو النقد الذي لا ينكر قدر المتنبي، ويأبى أن يغمض العين أيضاً عن هفوات ديوانه. طرحٌ كان للقاضي الجرجاني فضيلة السبق فيه في «الوساطة بين المتنبي وخصومه» في الرد على الطاعنين بالمتنبي، فالشاعر في القرن الرابع يعيش في وسط مخالف لوسط القرن الأول والثاني، والرغبة في اتّباع الشعراء الأقدمين تؤدي إلى أخطاء عدة، فالزمن غير الزمن، والأخلاق غير الأخلاق، والقواعد الشعرية قد تبدلت لكل أنواع الشعر، واختير في الأسلوب نمط أوسط يرتفع عن الساقط السوقي وينحطّ عن البدوي الوحشي. فديوان المتنبي كما يقول الجرجاني يجب أن يقدر بحسب وقته، لا بموازنته بالشعر الجاهلي، و«ليس ثمة طريقة واحدة للحكم على المتنبي، تلك هي أن نأخذ ديوانه ونقرأه ونمتحنه».
جهدُ السيد الأمين في قراءة الديوان، لم يتخطّ منطقة الإبداع في القراءة التي امتدت لقرن ونصف قرن بعد مصرع الشاعر. إذ وقف النقاد على معظم قضاياه ودرسوا أغلب مسائله، ولم يتركوا للّاحقين من العلماء سوى نقل كلامهم نقلاً لا يتدخلون فيه إلا بقليل من المقارنة والاختصار. ولئن وفّق بعض معاصري الأمين مثل «عميد الأدب العربي» طه حسين والناقد الفلسطيني إحسان عباس، والباحث التونسي حسين الواد، في الإمساك بتجربة عملاق الشعر العربي من ناحيتين، أولاهما موضعة تجربة المتنبي في حركة التجديد الإبداعية بعد القرنين الثاني والثالث للهجرة، واختطاف المتنبي لعصب هذه التحولات وإرسالها شعراً فيه قوة الأوائل وطرافة المجددين وعمق الطائييَن (أبو تمام والبحتري)، والثانية في تسييل تجربته سياسياً حين انفرطت وحدة القيم العقائدية المتماسكة للعصبية العربية، فظهر شعره كركيزة معنوية تتجاوز النسبية في تجربة الفرد إلى المطلق المطّرد في تجربة الجماعة. إلا أن نقل هذه التجربة في شعريتها إلى أفق الحداثة وما بعدها ظلّ خجولاً ومن دون جهد تأملي جاد، باستثناء ملاحظات لبعض الشعراء مثل أدونيس في «مقدمة للشعر العربي»، ومحمد علي شمس الدين في «الكشف والبرهان ونقيضه» حول القدرة العجيبة للشعر للاقتراب من منطقة الغيب والنبوة، حيث يلتقي بيت المتنبي (أنا السابق الهادي إلى ما أقوله/ إذا القول قبل القائلين مقولُ) مع جملة مالارميه التي تقارن خطورة الشعر وقدمه بخطورة فكرة الإله وقدمها، بحيث يمكن نقاش فكرة نبوة المتنبي في أفق أرحب وأوسع من البحث حول ادعائه النبوة في شبابه من عدمه، وحيث يمكن لبيت مثل «على قلق كأنّ الريح تحتي» أن يخلخل البنى القديمة المتخلفة ويفتح أفقاً في القلق المعرفي هو أقرب إلى الكوجيتو الديكارتي.