رميت منجلي على الأرض، تاركاً للشمس أن تشوي بلّوطها في التنّور وحدها، وأخذت غفوة قصيرة تحت الصخرة. المنجل ذنب كبير يا شيرين. والقمح ذنب أكبر منه، والشمس ذنب ثالث أكبر منهما معاً. كل ما هو جميل ذنب. كل ما هو أصيل ذنب. لذا، فالحياة سلسلة ذنوب. وكل مقطوعة كتبتها قطعة من نشيد اعتذار طويل عن هذه الذنوب. اعتذار عن ذنوب ارتكبتها وأخرى لم أرتكبها. ففي الحساب الأخير، أنت مسؤول عن ذنبك وذنب غيرك. أنت مسؤول عن كفرك وكفر غيرك. ليس هناك جزيرة معزولة يسكن فيها البريئون وغير المذنبين. ليس هناك زند لم يقدح ناره. لذا أتطهّر بالنوم يا شيرين. آخذ غفوة تحت الصخرة، وغفوة مثلها تحت شجرة الخروب. النوم عبادة يا شيرين، والصحو كفر.
«الشاعر» لجون دينينغ (برونز ـــ 2021)

وهناك يمامة تصيح على الغصن دوماً، ولا أحد يدري إن كانت تغني أو تبكي: «أبكتْ تلك الحمامة أم غنتْ على فرعِ غصنها الميّاد؟». وأريد أن أعرف من هي اليمامة التي تبكي على الغصن هنا يا شيرين؟ أهي أنت أم أنا؟ وأريد أن أعرف من هو الذي يصرخ في المقطوعة يا شيرين؟ أنت أم أنا؟
رميت المنجل يا شيرين. قطعت الحبل بيني وبينك كي أعرف من أنا، وكي يتّضح من هو المذنب فينا، ومن هو كفّارة الذنوب.
7-6-2022
■ ■ ■

لا تحكم عليّ من اسمي. فالاسم خديعة. وهو لن يدلّك على الكنز المخبوء في الجزيرة. قلبي هو الدليل. وهو قلب ثقيل. أثقل من ريشة العدالة. ولهذا سيكون مثواي الجحيم. قلبي أثقل من مرساة رصاص، ولذا سآكل الطبق كله. سآكل عينك التي تتفرّس فيّ. ولن أغنيك حتى بمقطوعة واحدة. فعليّ بعد كل ما ارتكبت من ذنوب أن أغني كنيسة بطرس على الصخرة، والمسجد البسيط الذي أسِّسَ على التقوى. عليّ أن أغنّي الله وريشة عدالته. فهو الذي منحني هذا الفم، وجعله فماً مغنياً.
احكم عليّ من فمي المغنّي. من النار التي يبثّها التنين المخيف بداخله. أنا أوخذ من هذا الفم. أوخذ من راحة يدي، وأرسل راضياً إلى الهلاك.
بقلب ثقيل سأمر على بيتك. وفي الطريق إليك، ستضربني العدالة بريشة نعامة على عيني. آه يا عيني، يا عين البقرة الوحشية. يا عين وَشَق بين الصخور. الحَكَم هو عيني. الحكم هو يدي. وهو قلبي الثقيل. وأنا بين الحكّام الثلاثة ماضٍ من هلاك إلى هلاك. من كنيسة فوق الصخرة إلى مسجد على التلة.
لا تحكم عليّ بريشتك الخفيفة يا ربّ. أحكم عليّ بالرصاص الثقيل. أنا السفينة التي جنحت على شاطئ جزيرة القرصان. بل أنا جزيرة القرصان ذاتها.
5-6-2022
■ ■ ■

قبّلت يد الله شاكراً على فصلَيه الكبيرين: الليل والنهار، اللذين يتقلّبان مثل حيّتين على الرمل.
قبّلي أنت أيضاً يا شيرين يد الله التي أراحها في حجره كي يأذنوا لنا بعبور القنطرة. أنت ستعبرين قبلي لأنك تملكين اسماً. أما أنا فليس لي اسم. لذا سأعبر وراءك كأنني ظلك.
ولا يستطيع أحد أن يحاسبني على ما أنجزت يداي. فقد كان طموحي أطول من يدي. وكل ما أنجزته كان مجموعتين شعريتين. خذيهما كأنهما جلجلان لسرج فرسك يا شيرين. إن لم تأخذيهما فسيصيران حقلي قصب يؤويان الخنازير. سيصيران سبختين لطيور البلشون.
أوه، سارق لم تكن العتمة على قدر يده أنا. مسافر لم يكن النور على قدر حافر حصانه. وليس لديّ ما أعطيه سوى جلجلين من نحاس. مع ذلك سأقبّل يد الله. سأقبل يد شيرين أيضاً، لأنها قميصي، ولأنها زهرتي.
أنا على مدخل القنطرة، والخنازير في حقل القصب، والشمس طائر بلشون يتجول في السبخات.
وليس هناك أمل حتى لو صار لساني زهرة رمان. حتى لو تسافد الليل والنهار وأنجبا فرخاً بلون الفجر.
13-6-2022
■ ■ ■

هذا اليوم للمراثي يا سيرين. للطيور المتحجرة. وقد فكرت أن أضع نفسي في الجهة الأخرى كي أخبر عن الغياب من داخل دار الغياب ذاتها. لكنني وقفت في النهاية مع طائر البلشون ساكتاً، وتأملت وجهي معه في البركة.
لا أعرف إن كان الموت باطلاً أو حقيقة. يصعب التفريق بين الأشياء عند عمر معيّن. يصعب المشي حين تطرد ذاتك كأنها ظبي أمامك.
التمعن في الأشياء لا يجدي. لذا أتمعّن في هذه الذات فقط. آكلها مثل تمرة. ليس هناك زهرة ولا حجر. هناك تمرة حلوة تدعى الذات، ونحن نمضغها في أفواهنا.
هناك اللغة بالطبع. لكنها ليست لغتي، بل لغة أعدائي. أنا أكتب مرغماً بلغة أعدائي. وويل لأمّه من كان ملزماً أن يغني بلسان أعدائه.
يوم للطيور المتحجرة، ويوم للطيور التي ستتحجر. والممر مغلق بين الزهرة والحجر. لذا أجرّح النهار بشفرتي. أختنه. أقطع له غرلته.
الأيام كلها للمراثي يا سيرين. والأحزان تمسك بالنواصي. والعبيد يعلكون تمرات في أفواههم، ويغنون أغانيهم بلسان أعدائهم.
12-5-2022
■ ■ ■

الدنيا غائمة ترمي رذاذاً خفيفاً على وجهي. وهذا لأن اليوم عيدي، ولأن الصباح طفلي الوحيد.
حين يأتي الشعر أجيء. أسقط على شجرة الأسكدنيا كأنني غراب. وأخرج من القِراب كأنني سيف فولاذ. لقد أوفيت بنذوري كلّها. وها أنا قادم بزينتي كلها كأنني ذكر خروب في أواخر أيلول.
تركت الاسم الذي أعطتني إياه أمي على عتبة البيت، ومشيت باسم آخر كي لا يعرفني أحد. كي لا يمنّ عليّ أحد. ريح الشمال صبّار، وريح الجنوب شوكة كبّار، وأنا أتمايل بينهما مثل غصن كبير.
أعطوني ما أريد، وإلا كسرتُ جراركم. أعطوني ما لا أريد وإلا جعلت من الحجارة شعراً.
أنا طفل الصباح الوحيد. حليبه في فمي، ورذاذه على وجهي.
ذكر الخروب يشعل حريقه في أيلول. وأنا أشعل حريقي في أيّار.
أيّار، يا أعمى القلب، من الذي أعطاك هذا الاسم الذي لا مثيل له؟ من الذي فتح لك عينك مثل عين بقرة وحش؟
الأسماء تتجمع في عرسي. الأغصان ترمي بظلالها على روحي وحدسي. وأنا أمشي باسم آخر غير اسمي. سكراناً أمشي في النار. مجنوناً أمشي في مطلع أيّار.
6-5-2022
■ ■ ■

من الأفضل لك ألا تتورط مع لقلق مهاجر يخفق بجناحه فوقك في السماء. بل من الأفضل ألا تتورط حتى مع الزهرة ذاتها. أنت يا من قُطع حبلُ السُّرّة بالبلطة بينك وبين أمك: دع مسافة بينك وبينك كل شيء. بينك وبين الحبيب. بينك وبين الله ذاته. هذه حكمة الأم. هذه فأسها الذهبية.
تستطيع الزهرة أن تعيش من دون أن تلتقي عينها بعينك. يستطيع اللقلق المهاجر أن يصل غايته أو أن يقتل بالنار وأنت نائم.
ليس هناك إلا القليل من العزاء في الشعر.
وليس هناك سوى ورقة وحيدة على الغصن الذي يدعى المحبة. أقول لك هذا وأنا أعلم أنني أضعكَ على بعد خطوتين اثنتين من اليأس. لكنني أعرف أيضاً أن اليأس أكرم من الأمل. صحيح أنه لا يأتيك حاضناً هدايا عيد ميلادك، لكن له على الأقل بسمة مثل سكين. وهو بهذه السكين يقطع لك شرحة من الحنظل المرّ، ويضعها، غير مكترث، في طبقك.
هناك القليل من العزاء في الشعر.
ومن الأفضل أن ينسلخ النهار من الليل وأنت نائم.
بل من الأفضل ربما أن تصيب الطلقة قلبك وقلب اللقلق المهاجر وأنت تلعب النرد مع عدوك الكريم: اليأس.
8-5-2022
■ ■ ■

درجات السلّم الحجري النازل إلى شقتي 20 درجة. لكنني أعدّها كلما صعدت السلّم أو نزلته. لا أتوقف عن العد. ولا أعرف لما أفعل هذا. لعله هوس في عقلي، أو انعدام يقين حتى باليقين ذاته. حقل الأقحوان البريّ أبيض - أصفر. حقل الريح أخضر. وأنا نسيتك يا أبي. نسيت يدك التي أمسكت بيدي. فمن غير المعقول أن يكون لرجل أكل الشيب رأسه أبٌ. من غير المعقول أن يظل طفلاً ينادي أباه.
كم هي كريهة اللغة التي أكتب بها، لغة لسان العرب. كان عليّ أن أكتب بالعامية، وأن أموت ميتة سريعة مثل زعفران الخريف.
عدّي بأصابعك أصابع يديّ الاثنتين يا سيرين، فلست واثقاً من عدّي لها. ليس هناك يقين أبداً. وابدئي بالبنصر، بالطفل الصغير الذي يبلّل فراشه عادة. واقفزي عن الإبهام القصير الأشيب، فهو لا يحسب في العدّ، وليس نفراً في العائلة.
كم هي كريهة هذا اللغة. فهي لم تتدفق يوماً على شفتي مثل حليب أمي. خصر الريح أخضر، وخصر الماء فضة. وأنا عاتب على الله، وعلى اللغة، وعلى سيرين، وعلى كل شيء.
درجات السلّم الحجري 20. درجات سلّم ريختر 8. واليوم هو السابع من نيسان. لكنه يتصرف كما لو أنه العاشر من تشرين. وأنا أسائل نفسي كيف لي أن أفتح للحجر فماً كي أقتبس منه حكمة أفضل من حكمتي هذه.
■ ■ ■

كل فم في الصحراء يغني للماء إلا فم الضبّ. فهو لا يعطش ولا يرد الماء. ذلك أنه أصل الماء، واسمه يضبّ الماء ضبّاً.
وقبل ألف سنة، كان الضبّ نجمة كبيرة. كان مضيئاً مثل سهيل اليماني. وكانت حلقات ذيله الحرشفية أفلاكاً. لكن الله غضب عليه في لحظة ومسخه ضبّاً. أتسمعين يا نواة الحجر: لقد مُسخ الضب، ومُسخت أغنيته. ومن يومها أخفى نفسه في جحره قائلاً: احرشوني إن استطعتم. احرشوني إن أردتم.
اختفى الضب في جحره. اختفى النجم الذي لا يغني إلا لذاته.
كل عبد يغني لسيده، إلا الضب. فليس له سيد يغنيه. الصحراء أمه، والشمس الفظيعة خالته.
كل مخلوق يغني لسيده إلا الشعر. فهو يغني لذاته فقط. يغني للحلقات الفلكية في ذيله. يغني للشعاع الذي يخرج من عينه ومن فمه: أنا سهيل اليماني، وأنا شقيقه. أنا الماء، وأنا أصله.
26-3-2022
■ ■ ■

أرفع عنقي مثل أبي الهول. مخالبي الحجرية مدفونة في الرمال، وأنفي مكسور، وروحي تقبّل يد الريح الشرقية.
ولا أعرف تمثال من أنا. ربما أكون تمثال الله ذاته. أو تمثالاً واحداً من كهّانه في الصحراء. لكنني سأتمكن من تفسير وجودي في يوم ما. سأخرج مخالبي من الرمال الصفراء، وروحي من يد الريح الشرقية، وأسقط في محجريّ عينين من التركواز الشفاف، ثم أفتح ذاتي مثل صفحة بردي كبيرة للقراء والتفسيرات.
وأنا متأكد أنني سأموت بعنق مرفوعة فوق الرمال مثل عنق أبي الهول.
24-3-2022
■ ■ ■

لديّ خمسون نشيداً في قلبي، لكنني لا أتمكن من استخراج حتى واحد منها. قلبي صموت، ولساني سكّير ثرثار. ففكّ يا رب عقدة الصمت عن قلبي كي أدوّن أناشيدي. أريد أن أكتبها وأن أغنيها كي أستعيد من خطفهم الموت منّي. فهدف كل نشيد هو استعادة الموتى. وأنا أعيش من أجل استعادتهم.
أعرف أن الموت مثل كسرى آنوشروان، لم تُفلتْ قبضته أسيراً قطّ. لكنني لا أستسلم أبداً. سأظلّ أغنّي حتى يعودوا. سوف أهبط سلالم الجحيم وأعود بهم. سيكونون قربي هنا. ولن أقبل بأقل من هذا.
ليس الشعر لعبة كلمات. الشعر حرب بالسيف والرمح والقوس والنشّاب حتى استخلاص الأسرى من قبضة آسريهم.
28-12-2021

* شاعر فلسطيني