فوجئ كثيرون، ومنهم كتَّاب هنود زملاء لغريتانجالي شري (1957)، حينما علموا أنها تكتب بالهندية، لغتها الأم. فـ «في الهند» مثلما تقول الروائية «يجيد جميع من يوصفون بالمثقفين اللغة الإنكليزية، ويميل الناس إلى اعتبار الإنكليزية لغة النجاح. ومن ثم فهم يسألون: لماذا تكتبين بلغة سوف تبقيك في حدود فضائك الجغرافي، بدلاً من أن تمنحك ظهوراً في العالم الأوسع؟».تنم هذه الأسئلة عن «إرثنا الكولونيالي» وفق ما قالت غريتانجالي شري يوم السابع والعشرين من أيار (مايو) في نادي غروتشو في حيّ سوهو في لندن. ويُحتمل أن تزداد هذه الثيمة حضوراً في ذهنها مع مصادفة أعمالها جمهوراً أوسع في ترجمتها الإنكليزية. كانت رواية غريتانجالي شري «مقبرة الرمال» (ترجمة المترجمة الأميركية ديزي روكويل) قد فازت في الليلة السابقة بجائزة «بوكر» الدولية، أرفع جائزة تنالها رواية مترجمة إلى اللغة الإنكليزية. وسوف تتقاسم غريتانجالي شري وديزي روكويل ـ التي جلست عن يسارها في النادي ـ قيمة الجائزة البالغة خمسين ألف جنيه استرليني عن انتصارهما التاريخي: فـ «مقبرة الرمال» هي أول كتاب مؤلف باللغة الهندية حصولاً على هذه الجائزة.


ولدت غريتانجالي شري، التي سبق لها أن نشرت ثلاث روايات والعديد من مجاميع القصص القصيرة، سنة 1957 في أُوتّار برادش في شمالي الهند، وهي أكثف الولايات الهندية بالسكان، وتُقيم حالياً في نيودلهي. نشأت وهي تتحدث الإنكليزية والهندية. «لكن عندما يتعلق الأمر بكتابة الأدب، تستعمل الواحدة اللغة الأقرب من الحدس: أعني اللغة السارية في الدم لا في الرأس».
عند ترجمة «مقبرة الرمال» إلى الإنكليزية، كانت ديزي روكويل واعية تمام الوعي بالقوة التي تقتضيها الترجمة. قالت إنه «ما كان ليكفي أن أكون مترجمة للغات جنوب آسيا إن لم أكن واعية بالإرث الكولونيالي». حينما بدأت في أول الأمر الترجمة من لغتَي الأردو والهندية إلى اللغة الإنكليزية، كانت تتوقع أن يكون قُرّاؤها من أبناء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أي ممّن لا يعرفون أي شيء عن الأدب الهندي. لكنّ قرّاءها «ربما حتى اليوم» ـ مثلما تُضيف وهي تضحك ـ كانوا في الأغلب ذوي تراث هندي وباكستاني، وشديدي الوعي بأنهم لا يقرؤون الأصل الهندي. وهي تشعر في بعض الأحيان أنهم يشعرون أنهم «منزعجون مني بعض الشيء لأنّي أحملهم على قراءة عمل مترجم، وأنا بالطبع لم أحملهم على شيء» مثلما تقول في جفاف «فما يشعرون به هو الإرث الكولونيالي. يشعرون أنهم منفصلون عن الهندية إذ يقرؤونها في الإنكليزية» لأنهم عاجزون عن «نيل» اللغة الأصلية بسبب الحواجز الجغرافية أو اللغوية.
لماضي الهند الكولونيالي حضور رهيف ولكنه راسخ في «مقبرة الرمال» التي صدرت أصلاً بعنوان «ريت سمادهي» عام 2018. (وقد صدرت في المملكة المتحدة عن مطبعة «تيلتد آكسيس» المستقلة التي أسّستها ديبورا سميث بعدما فازت بجائزة «بوكر» الدولية عن ترجمتها لرواية «النباتية» لهان كانجغ).
تتبع الرواية الساحرة المربكة المؤلفة من 739 صفحة امرأة في الثمانين، هي «ماما» يقال لها في الرواية، تقيم في مكان معاصر من شمالي الهند، مات زوجها حديثاً. تأبى في البداية أن تنهض من سريرها وتبقى محملقة في الجدار كأنها تدير ظهرها للحياة. وحينما تذهب للإقامة مع إحدى بناتها، تصادف أشكالاً جديدة عليها من الحرية وتبدأ الحياة من جديد، ولكنها حياة يغلب عليها الجموح، كأنها فتاة صغيرة. ومع حياتها المزدهرة الراهنة، نعرف أيضاً بطرف من ماضيها المؤلم، والعنف الذي تعرضت له خلال التقسيم ـ أي تقسيم الهند سنة 1947 ـ وإحساسها منذ ذلك الحين بالتشرد.
قالت غريتانجالي شري بكثير من اليقين إن «النساء يكتملن مع تقدّمهن في العمر، فهن لوقت طويل من حياتهن يلعبن أدواراً، ويخدمن الآخرين. وهن أصغر عمراً، يكون لديهن الكثير جداً من القواعد الاجتماعية، والكثير جداً من المخاوف، والكثير جداً من الأمور التي تعوّقهن، وهناك بالطبع الزواج والأطفال. وحينما يفقدن شبابهن، يبدأن في التحرر، ويكتسبن المزيد والمزيد من التحرر. والمفارقة هنا أنهن يكتسبن المزيد من الحرية، لكنّ أجسادهن تزداد ضعفاً وهشاشة، فلا تبقى لديهن القدرة على التمتع بالحرية التي كان يمكن أن ينعمن بها وهن صغيرات».
تتمثل المفارقة داخل الرواية في سلوك ماما المتمرد، الذي يتسم في آن واحد بالعبثية وبالفتنة غير المحدودة. وفيما تراقب الابنة أمَّها، تتساءل «ألا يحتمل أنّ الشباب يأتي في الوقت الخاطئ؟ في الوقت الذي لا نعيش فيه على الإطلاق».
تنشأ صداقة وثيقة بين ماما وهيجرا، ومفردة الهيجرا تشير إلى الشخص المتحول جنسياً. ويأتي ظهور الهيجرا في هذه الرواية أحياناً أنثوياً، فتكون روزي، وفي أحيان أخرى يكون المظهر ذكورياً فهو رازا. وفي حين أن لمجتمعات الهيجرا تاريخاً طويلاً في الهند، وأن بعض الناس يدركون روحيّاً وجود جنس ثالث، فإن المتحولين جنسياً في المملكة المتحدة يبقون مهمّشين في الثقافة السائدة.


فيما تتجاهل ماما، ما يعدّه المجتمع لائقاً من حيث السن «تنفصل عن جسدها القديم» كما تقول غريتانجالي شري، ويصبح «الانتهاك» أصيلاً فيها. وكما أنّ «روزي تمثّل انتهاكاً من نوع آخر، فقد أصبح طبيعياً جداً لهذه الأم الهرمة أن تقيم هذه الصداقة التي لا تحظى بالقدر الكامل من الاحترام».
تعترض هاتان الشخصيتان على حدود الجندر والعمر والجغرافيا أيضاً. ففي خاتمة الرواية، وتحديداً في قسمها الثالث المثقل بالحكي، تتجاهل ماما وابنتها قوانين التأشيرة وتسافران إلى خيبير. وسرعان ما يحيط بهما الجنود ملوّحين ببنادق الكلاشينكوف. وتعتزم غريتانجالي شري من خلال ذلك «الاعتراض على صرامة الحدود». وتتساءل عما لو أن بوسع الحدود ـ بدلاً من هذه الصرامة ـ أن تكون محض خط يقوم «جسراً بين جانبين، فيلتقيان، بدلاً من القطع بينهما».
قالت إنها أرادت أن تقدّم «شيئاً سياسياً» لأنّ «العقيدة السياسية التي يعيش بها كثيرون منا هي هذه: نحن لا نؤمن بهذه الحدود». يتخيل مشهد من الرواية الكثير من كتَّاب التقسيم ـ مثل بهيشام ساهني وانتظار حسين وكريشنا سوبتي ـ جالسين على نقطة حدودية بين باكستان والهند غير معترفين بأنه حدّ. «وهم يشعرون بالتيه، وبالكثير من اليأس، لأنهم لا يعرفون في أي جانب هم. أي الجانبين هو جانبنا؟ فبالنسبة لهم ما من حدود».
تعتقد ديزي روكويل أن ثمة تراثاً قوياً من الكتابة السياسية في الهند وباكستان يفوق في قوته مثيله في بريطانيا أو أميركا «حيث يُعتقد غالباً أن إقحام السياسة يلوّث الفن». لكن غريتانجالي شري أكثر اهتماماً بسياسة الحياة اليومية و«بالمواجهات والمصادمات العادية. فكثيراً ما يحدث داخل الأسرة الواحدة أن تتردد أصداء السياسة. وتلك إلى حد كبير هي الحياة في شبه القارة، في ما أعتقد، وهي أيضاً الحياة في العالم. لا أعتقد أن على أحد أن يحاول أن يكون سياسياً بصورة مغالى فيها. أعتقد أن ذلك يحدث للمرء عفو الخاطر. فالسياسة قائمة بالمعنى العادي، وبالفعل التافه، أو القول التافه».

امرأتان وميتة واحدة *

1

الحكاية هي التي تحكي نفسها. قد تكون مكتملة، ولكنها أيضاً قد تكون غير مكتملة، وكذلك الحكايات جميعاً. وهذه الحكاية بخاصة لها حدُّ وفيها نساء يأتين ويمضين كيفما يحلو لهن. وما تكاد قصة تحظى بنساء وحدٍّ حتى يكون بوسعها أن تكتب نفسها. ولو لم تحظ إلا بالنساء، لكفينها. فالنساء في ذواتهن قصص، ملأى بالاهتزازات والهمسات التي تطفو محمولة على الريح، وتميل كلما مالت عشبة من العشب. تلملم الشمس الغاربة شذرات الحكايات وتنظمها في قناديل وهّاجة تتدلَّى من الغيوم. وهذه أيضاً سوف تكون طرفاً من قصتنا. وها هو مسار القصة يتكشّف، لا يدري أين سيكون وقوفه، ينحرف يميناً ويساراً، وينعطف ويدور، متيحاً لكل شيء وأي شيء أن يكون طرفاً من الحكاية. ولسوف يندلع من فوهة بركان، ويتضخَّم في صمت بينما يضطرم الماضي في الحاضر، نافثاً البخار والجمر والدخان.
في هذه القصة امرأتان. وبجانب هاتين المرأتين، هناك أخريات جئن وذهبن، ظللن يجئن وظللن يذهبن، ومن بقين على الدوام وإن لم تكن لهن أهمية، ومن لم يرد لهنَّ ذكر بعد، ومن لم يكنَّ نساء أصلاً. لكن حبنا الآن أن نقول إن في القصة امرأتين مهمَّتين، ومن هاتين المرأتين، واحدة كانت تصغر، والأخرى تكبر.
كان ثمة امرأتان وميتة واحدة.
امرأتان، وميتة واحدة. سوف تحلو الأمور بيننا، نحن وهما، فور أن نجلس جميعاً معاً!
امرأتان: أمُّ، وابنة، واحدة تدنو وتدنو، والأخرى تعلو وتعلو. واحدة تضحك قائلة، إنني أصغُر كلَّ يوم! والأخرى تأسى، لكنها لا تقول شيئاً وهي ترى نفسها تزداد ضخامة. لم تعد الأم الآن ترتدي الساري وقد صار لزاماً عليها أن تدس أكثر من نصف قماشة في خصرها وترفع أطرافه كل يوم إلى أعلى من سابقه. وهل يجعل الصغر التدريجي الواحدة أشبه بقطة، فيمكنها الانسلال عبر الشقوق الصغيرة والهرب؟ وتنشأ لديها مهارة شبه الاختفاء؟
لا بد من أن هذا هو السبب الذي مكَّن الأم من الانسلال إلى الجانب الآخر من الحدِّ، في حين بقيت البنت مشغولة بانحباسها حيث كانتا. وارد أيضاً أن المرأة الأصغر كانت بريئة بحق حينما رفضت الاعتراف بأي جريمة من طرفها، سواء ما تعلق بتصاريح قانونية، أم بمناقشات حول الأسماء، أم باتهامات بالسرقة.
والذين لم يفهموا حججها رأوها مجنونة، بل ربما شريرة. وارتابوا في أنها تضللهم عامدة متعمدة.
أوضحتْ أن الرجال يحصلون دائماً على العدس الطيب [في وجبة الدال] ولا تنال النساء سوى ما يتفضل من هريس، أليس كذلك؟ هه؟ كانت تتكلم بلا خوف. صح؟ فهل هذا صواب؟
لكنك حينما تنظرين في عيونهم دونما خوف، هل سيفهم حرس الحدود؟ إنهم يوبخونك قائلين إنك تجاوزت الحدود.
تضحك ضحكة خافتة. كل عمل يستحق القيام به هو عمل يتجاوز الحدود. أفلا أفعل أي شيء؟
يجيبون، لا، وما من أحد تبلغ به الحماقة لدرجة ألا يعرف هذا. حتى الماعز والبقر تعرف أين لا ينبغي لها أن تضل. ونظرك ليس ضعيفاً، فتعجزين عن الرؤية، فكيف يُغفر لك؟
ومن ذا الذي يطلب الغفران! تزأر بالضحكات بينما البنت المتضخمة تبكي. وهل هذا كل ما يمكن رؤيته؟ لعلي أنا الأخرى رأيت بضعة أمور. حاولوا أن تروا بعيني ولو مرَّة.
لو كان مكتوباً عليها السقوط، فإنها لم ترده أن يكون انكفاء على الوجه. فلتأتِ الرصاصة من حيثما تأتي، ولتستقر حيثما يراد لها أن تستقر، أما هي فسوف تقع على ظهرها وتستلقي على الأرض. في جلال. وملء عينيها سماء.
وتقول لابنتها، فلأتدرَّب.
كانت الأم قد بدأت تعاني الفواق طيلة الوقت. لو لم تكن الابنة في تلك الحالة، لكانت ارتابت في هذا الفواق أهو حقيقي أم زائف. تقول لها الأم، لم يوقفها الماء، وتأمرها، اضربيني على ظهري! ولو لم تكن الضربة بالقدر الكافي من القوة، فلتكن ركلة بعد جري، بوم! جرِّبيها على ظهري أو في بطني أو في جنبيّ، وتأكدي من وقوعي، لكن على ظهري، مفتوحة العينين، وجبيني إلى أعلى، وحينئذ من المؤكد أن الفواق سوف يتوقف. ذلك كان علاجاً غريباً، لكن البنت فعلت ما طلبته منها الأم. ركلت، وركلت، بوم بوم بوم، وفي هذه اللعبة الجديدة ظلت أمها تقع طاخ طاخ طاخ. وبعد شيء من الجلبة، ينفجر المشاهدون أيضاً ضاحكين، هل يمكن أن تغلبيها؟ هذه العجوز مزعجة. لكن الأم قالت للبنت إنها بحاجة إلى الاستعداد.
على أي حال، واختصاراً للقصة، هذا هو ما كان: جاءت رصاصة طائرة باتجاهها، ولكن الأم كانت قد أصبحت خبيرة في الوقوع على الظهر. جاءت الرصاصة، فنفذت إلى جسمها، ثم نفذت منه عابرة من الجانب الآخر. وكان غيرها لينكفئ على وجهه في الوحل، لكن ماما ارتدّت إلى الوراء كما لو كانت تنقلب بملء إرادتها. واستلقت بظهرها على الأرض منتصرة، وأنيقة، وكأنها مستلقية على سرير ليِّن، ملتحفة بالسماء.
الذين يرون الموت نهاية، رأوا تلك نهايتها. ولكن أولي العلم أدركوا أن تلك ما كانت بنهاية، أدركوا أنها لم تفعل إلا أن تجاوزت حدّاً آخر.
فلا ضير إذن من أن تبدأ القصة من هنا، أي على نحو ما نفعل الآن.
2

قبل هذا كلِّه، كانت هناك ميتة واحدة. ميتة رجل، أبت زوجته أن تتكئ على عصاه. كان هذا الرجل هو زوج هذه الأم نفسها وأبو هذه البنت نفسها. كان حضوره لم يزل محسوساً، حتى في الموت. لكن سواء مات أم لم يمت، فإن أرملته يقيناً ماتت. أو ذلك على الأقل ما بدا من شأنها وهي طريحة في غرفتها. بل غرفتهما. في ركن من البيت. سريرهما. في الشتاء. لحاف سميك. قارورة ماء ساخن. قلنسوة صوفية. العصا لم تزل معلقة من مقبضها المعقوف. الكوب لم يزل قابعاً على مائدة مجاورة للسرير، ولا ماء فيه. في حياته، كان هذا موضع طاقم أسنانه ليلاً. وفي الصباح، كان أول ما يفعله أنه يمد يده فيتناول أسنانه، ثم يتناول عصاه.
في الخارج، ترتعش الشفاه من البرد، في الداخل ترتعش شفتا الأم بالثرثرة.
كانت ملتفة، تتقلص من لحظة إلى لحظة، باعثة إشارات مختلطة من داخل لحافها الهائل الذي لم تزل تائهة في موضع ما تحته. تَلَوَّت اللفافة على جنبها، ثم انزلقت قليلاً، ثم غاصت، ثم ها هي هناك. أكانت تختبر إلى أي مدى هي قادرة على مد نفسها؟ أما أنها فقط كانت تشيح بوجهها، وتدير ظهرها لأولادها وأحفادها، وفي ثنايا ذلك تجرجر نفسها باتجاه الجدار لتستند إليه بسنوات عمرها التي شارفت كثيراً على الثمانين لترى إن كان بوسعها أن تنسل إليه بالكامل؟
للجدار في قصتنا هذه دور خاص. (وللأبواب، بما أنها تستعمل في الانتقال من جانب إلى جانب، من هنا إلى هناك، مراراً وتكراراً عبر القرون، من الأزل إلى الأبد).
ليس بالجدار الاستثنائي. ما من سمات فنية فيه. ليس بجدار مليء بالمرايا الصغيرة في صحراء «ثار»، ولا هو بجدار مكسو برسوم قمم صخرية أو ما يشبهها، مما تختلف أشكاله وألوانه، أو مرصع بزينة لامعة ومطبوعة بتصميمات مناسبة لزفاف، ولا سيطرت عليه رغبة مزدوجة من رغبات الحداثة الكاسحة في أن يبدو قديماً وهو حديث، ولا توق إلى مخادعة الأعين فيوهمك بأنه جدار من البلاستيك مكسو بالطين، والعشب الزائف نابت فيه، أو مزين بأشكال فسيفسائية من الرخام الأملس، ولا هو بالجدار الجليل، الشاهق، كثير الألوان، الساطع فيه البرتقالي الأزرق الأخضر، المقام على يد شركات متعددة الجنسيات غير قابل لأن يبهت أو ينخدش أو ينقشر أو يفسد أو يفنى مضمون البقاء.
كان محض جدار بسيط من الطوب والإسمنت، جدار مصفر مبيض من الطبقة الوسطى، حامل سقفاً، محمول على أرضية، فيه شباك وفيه باب، وفيه شبكة أنابيب وأسلاك مبعثرة، يطوي بيتاً كاملاً في جدرانيته.
وكذلك هو الجدار الذي كانت تنسل إليه الأم، وهي قريبة من الثمانين، تدريجياً. جدار بارد، في تلك الأيام الشتائية، مليء بالشقوق، شأنه شأن غيره من الجدران العادية.
أما ما لا يمكن علمه علم اليقين، فما إذا كان الجدار هو الذي يلعب دوراً أكبر في جذب الأم إليه، أم أن رغبة الأم في أن تولي ظهرها لأهلها هي التي كانت تجذبها إلى دخوله. ظلت الأم تقترب وتقترب من الجدار، ويمسي ظهرها نفسه جداراً يصد القادمين القائلين في تزلّف وتودد: «هيا يا ماما انهضي».
3

لا، لن أنهض، وما من نهوض، ليس الآن، كذلك تمتمت اللفافة في لحافها. لا، لا، ليس الآن، ما من نهوض.
تلك الكلمات كانت نذيراً لهم، فازداد أبناؤها إلحاحاً. شعروا بالخوف. آه! يا أمنا الحبيبة! رحل بابا وأخذها معه.
كفاك كل هذا النوم، من فضلك انهضي.
تواصل النوم. مستلقية وحسب. مغمضة. مديرة ظهرها لهم. يهمسون.
في حياة بابا، كرَّست كل روحها للاعتناء به. كانت متيقظة، متأهبة، مهما بلغ بها التعب. مشغولة إلى درجة الهلاك، حية شديدة الحياة. متوترة، غاضبة، متأقلمة، متعثرة، من نَفَس إلى نَفَس إلى نَفَس.
أنفاس الجميع كانت تتدفق عبرها، وهي كانت تتنفس أنفاس الجميع.
والآن تقول إنها لن تنهض. كأنما كان بابا هو سببها الوحيد للعيش. والآن وقد رحل، هل رحل سببها أيضاً؟
لا، يا ماما، لا، كذلك أصرّ الأبناء، انظري إلى الخارج، الشمس مشرقة، انهضي، تناولي العصا، ها هي معلقة هنا، تناولي بعض الأرز المحمص، فيه بازلاء. ربما هي مصابة بالإسهال أعطوها بعض مسحوق الهضم!
لااااا، لن أفعل. لااااا، لااااا، لااااا. كذلك تصيح ماما.
متعبة، مسكينة، وحيدة ومهزومة، ساعدوها على القيام، أشركوها في ما أنتم فيه ـ أدخلوا على قلبها السرور. يتدفق التعاطف منهم غامراً، في مثل تدفق مياه الجانجا، فيطغى على ظهر الأم.
ليسسسسسسسسسسس الآنننننننننن، تحاول ماما أن تصرخ فلا يخرج صوتها إلا أنيناً.
هل اعتقدت ماما أن جهود أبنائها لحملها على الحياة كانت تدفعها إلى الجدار؟ أكان الأمر كذلك؟ كانت كلما اقتربت خطوات من الغرفة، تدير ظهرها وتلتصق بالجدار. تصطنع الموت، مغمضة العينين، حابسة الأنفاس، موصدة الأذنين، مزمومة الشفتين، متخدّرة العقل، بائدة الرغبات، هاربة الطائر.
تقول إن «النساء يكتملن مع تقدمهن في العمر، فهنّ لوقت طويل من حياتهن يلعبن أدواراً، ويخدمن الآخرين»


لكن الأبناء أيضاً كانوا عنيدين. فمضوا ينقبون. كيف لهم أن ينبتوا العينين والأنف والأذنين في ذلك الظهر؟
كانت جميعاً في مثل شيخوختها، مطابقة لها في الشيخوخة. مطابقة في الشجار والعناد. مماثلة في النار، والوقود، والدقيق. مماثلة في غسيل الأقمطة. ظلت تقول لاااااااـ لاااااااااااا
لم يكن في الأمر افتعال: إنما هي كلماتها، كأنما تتردد من آلة. آلة تتوقف تدريجاً. آلة بليت. آلة وهنت ومضت تكتنز فضلة ما بقي لديها من طاقة، غمغمت في ضعف، لا، لاااااا، لللللا.
لا مزيد من النهوض من الفراش.
كلمات قليلات، لكنها كانت نذيراً للأبناء، بأن ماما تحتضر.
كلمات. ولكن ما الكلمات، حقاً، هه؟ ما هي إلا محض أصوات تتدلى منها معانيها. دونما منطق. تعثر بأنفسها على طريقها. تنشأ من شجار بين جسد غارق وعقل غائص، تتشبث في الأضداد. البذرة المغروسة كانت من نخلة، والبرعم النابت برعم كركديه. تتصارع وبعضها بعضاً، مستغرقة في لعبتها.
لا، الآن لن أنهض: من الذي كان يلعب بما في تلك العبارة من خوف وموت؟ باتت تلك الكلمات الآليةُ سحريةً، وبقيت ماما ترددها، ولكنها كانت تتحول إلى شيء آخر، أو لعلها أتمَّت تحولها.
تعبير عن رغبة صادقة أم نتيجة للعب هازل؟
لا، لا، لن أنهض. لاااااا، لن أقوم الآااااان. لااا قيام الآااااان. لااا قيام الآااااان.. لا قيام الآن. الآن، لن أنهض من جديد.

* مقتطف (ترجمة أحمد شافعي) من رواية «مقبرة الرمال» المتوّجة بـ «بوكر» ــ العنوان من
اختيار التحرير