إنه حزيران (يونيو) 1982: الدبابات الإسرائيلية على أبواب بيروت... العاصمة الثانية بعد القدس تدكّها جيوش يوشع بن نون من البحر والبر والجوّ، والمدينة، التي رأسها برج نار، تقاتل ولا ترفع الأعلام البيضاء... الفاشيون يسلّمون مفاتيحها لشارون، وثلة من المقاتلين في خلدة وكلية العلوم والبربير وقرب مقهى «الويمبي» يرابطون على أسوارها، تهوي الحمم فوق رؤوسهم، فيتلون آية الرفض، وينتظرون الرعد القادم من الجنوب، من جبل عامل المتصل بالجليل في الأرض الفلسطينية. سورة من أحرف ستّة: مقاومة، كلمة الشرف الوحيدة في وجه من باعوا وضاعوا لينسكبوا شلالاً من الشهداء. وجه للشهيد يبقي الينابيع مفتوحة ووجه للناس في المدينة المحاصرة، يضعون الطعام للعصافير ويطمئنون على الوردة المريضة، ويقطعون الشوارع في شهر رمضان من أجل كوب من العناب أو كأس من البوظة، وأعراس لم تكتمل بين المتاريس.
بيروت 1982 (ستيف ماكوري)

بيروت نجمتنا وخيمتنا وذاكرتنا العصية على النسيان حين تتذكر كل أمم الأرض أبطالها وتسمي بأسمائهم الميادين والساحات. انتصرت بيروت بشعرائها وأدبائها الذين رشّوا قصائدهم عليها كالأرزّ الذي يُنثر حصراً على رؤوس المقاومين والأبطال منذ انتهى العصر الإسرائيلي في أيار وتموز حين يتوسطهما حزيران. قصائد ننشرها في «كلمات» لإيماننا بأنّ الكلمة بقوّة الرصاصة، «حتى لإسرائيل لم يكن نصر. ها قد دخلت حربها، التي أرادتها خاطفة، في عامها الثاني، ولما تنتهِ بعد. إنها الخامسة من حروبها، لكننا للمرة الأولى نحارب، إذن تخرج إسرائيل من لبنان طرداً وقد أخرجناها من بيروت ونداءات جيشها لا تزال تتردّد: يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار سنرحل عنكم. بيروت فاتحة الدرب»، كما يقول مهدي عامل، و«لست مهزوماً ما دمت تقاوم».

◄ الوقت
(أدونيس)

حاضناً سنبلة الوقت ورأسي برجُ نارٍ
شَجرُ الحبّ بقصّابينَ آخى
شَجَرَ الموتِ ببيروتٍ، وهذي
غابَةُ الآسِ تُؤَاسي
غابةَ النَّفْي، كما تدخلُ قَصّابين في خارطةِ
العشْبِ، وتَسْتَقْطِرُ أحشاءَ السّهولْ
دخلَتْ بيروتُ في خارطةِ الموتِ / قبورٌ
كالبساتينِ وأشلاء حقولْ
ما الذي يسكبُ قصّابينَ في صيدا، وفي صورٍ،
وبيروتُ التي تَنسكبُ؟
ما الذي، في بُعدِه، يقتربُ؟
ما الذي يمزجُ في خارطتي هذي الدِّماءْ،
يبسَ الصّيفُ ولم يأتِ الخريفْ
والرّبيعُ اسْوَدَّ في ذاكرةِ الأرضِ/ الشّتاءْ
مثلما يرسمُه الموتُ: احتضارٌ أو نزيفْ
زمنٌ يخرجُ من قارورةِ الجَبْرِ ومِن كفِّ القضاءْ
زمنُ التّيه الذي يَرْتَجلُ الوقتَ ويجترّ الهواءْ،
كيفَ، من أينَ لكم أن تعرفوهْ؟
قاتِلٌ ليس له وجْهٌ/ له كلُّ الوجوهْ.
(من كتاب «الحصار»، 1985)

◄ مديح الظل العالي
(محمود درويش)
نامي قليلاً، يا ابنتي، نامي قليلا
الطائرات تعضّني. وتعضّ ما في القلب من عسلٍ
فنامي في طريق النحل، نامي
قبل أن أصحو قتيلا.
الطائرات تطير من غرف مجاورة إلى الحمّام، فاضطجعي
على درجات هذا السلّم الحجري، وانتبهي إذا اقتربتْ
شظاياها كثيراً منك وارتجفي قليلا
نامي قليلا.
كنّا نحبّك، يا ابنتي،
كنا نعدّ على أصابع كفّك اليسرى مسيرتنا
ونُنقصها رحيلا.
نامي قليلاً.
الطائرات تطير، والأشجار تهوي،
والمباني تخبز السكانَ، فاختبئي بأغنيتي الأخيرة، أو بطلقتيَ
الأخيرة، يا ابنتي
وتوسّديني كنت فحماً أم نخيلا.
نامي قليلا.
وتفقّدي أزهار جسمكِ،
هل أصيبتْ؟
واتركي كفّي، وكأسَيْ شاينا، ودعي الغسيلا.
نامي قليلا...
لو أستطيع أعدتُ ترتيب الطبيعة:
ههنا صفصافة... وهناك قلبي
ههنا قمر التردّد
ههنا عصفورة للإنتباهِ
هناك نافذة تعلّمك الهديلَ
وشارعٌ يرجوك أن تبقي قليلا.
نامي قليلا.
كنّا نحبّك، يا ابنتي،
والآن، نعبد صمتكِ العالي
ونرفعه كنائس من بَتُولا.
هل كنتِ غاضبة علينا، دون أن ندري… وندري
آه منّا… آه ماذا لو خمشنا صُرّة الأفقِ
قد يخمشُ الغرقى يداً تمتدُّ
كي تحمي من الغرقِ.
(من ديوان «مديح الظل العالي»، 1983)

◄ قصيدة ينقصها شهيد

(ممدوح عدوان)
هي ورْقة من توتْ
كان اسمها بيروتْ
سقطتْ، فما عرّت سوى التابوتْ
ما غادر الشعراء من متردّمٍ وقصيدتي لم تكتملْ
ما زال ينقصني شهيدْ
ما زال نصف القول محتقناً ويحرق لي فمي
ما زال نصف الجرح مفتوحاً
وهذي الأرض لم تشرب دمي
والشعر يطلب جثة معروفة،
تأتيه قافلة من الشهداء من بيروتَ،
لكنْ لم يزل عندي يطالب بالمزيدْ
...يا زائراً صبرا وشاتيلا تمهّلْ
أستميحك معذره
يا زائراً بيروتَ
من درب المخيّم
من طريق المتحف،
البربير،
من عند المطار
طريق خلدة
ما الذي سأقول إلا المعذره
إنا قتلنا بغتةً
لم نُستشر
لم ندر كيف نعدّ أنفسنا
لهذي المجزره.
(من ديوان «أبداً إلى المنافي»، 1991)

◄ مريم تأتي
(سعدي يوسف)

لو كنتُ أعرفُ أين مريمُ
لاتَّبعتُ النجمَ نحو بلادها،
لكنّ مريمَ خلّفتني في المتاهة منذُ أن رحلتْ
وقالت: سوف تلقاني إذا أحببتَني
في الرمل أبحثُ عن أناملها
وفي أطلال عينِ الحلوةِ السوداءِ عن عينينِ،
في باب الوكالة أسألُ الشبّانَ: هل مرّتْ؟
وبين صحيفةٍ وصحيفةٍ أتسقّطُ الأنباءَ
في المذياع، أمس، سمعتُ صوتاً: صوتَ مريمَ؟
أم تراها تسكن الطلقاتِ
بين الليلكيّ وبين حيّ السلّمِ المنخوبِ؟
بيروتُ التي استندتْ الى أحجارها
فزّتْ كطير البحرِ،
والعشاقُ يمتشّقون رشاشاتهم
والبحرُ يهدأُ
ينصتُ الأطفالُ للصوتِ المباغتِ...
في البعيد حرائق
والطائراتُ تدورُ في أفقٍ رصاصيٍّ
لكِ العشاقُ والطلقاتُ... مريمُ
تدخلين، إذن؟
تعالي...
هذا الفضاءُ نظلُّ نطرقهُ
حتى نرى في الوحشةِ العَلَما
حتى يدور الطيرُ نُطلِقُهُ
نحو النجومِ ليطلق القَسَما
في البراري فلسطينُ، في قبّراتِ المخابئ
في الرصاص الكثيفِ
وفي صيحةِ الراجمةْ
في الأغاني فلسطين، في الخصلة الفاحمة
في قميص الشهيدْ
في حديدٍ يردّ الحديدْ
في يدٍ
في زنادْ
في اقتراب البلادْ
(من ديوان «مريم تأتي/قصائد بيروت 82»، 1982)

◄ التانجو الأخير في بيروت
(سميح القاسم)

أشتهي أن أرقصَ الآنَ
اعزفوا لي
فارسُ التانغو يُريدُ امرأة
في كَومةِ القَتلى ثَلاثونَ امرَأة
ههُنا سيّدةٌ
ماتَتْ قُبيلَ البَسْمَةِ المُبتَدئَة
إنَّها رائِعَةٌ في مَوتِها الناضِجْ
يا سَيّدَتي الجُثَّة
هَل لي أن أنالَ الرَقصَةَ الأولى
أنا اخترتُك نوراً
للبيوت المُطفأة
والقلوب المُطفأة
أشتهي أن أرقُصَ الآنَ
اعزفوا لي
هذه السيدةُ الجثةُ لي
والرقصةُ الأولى
اعزفوا لي
أشتهي أن أرقص الآنَ
اعزفوا لي
(من ديوان «لا أستأذن أحداً»، 1986).

◄ الرعد
(محمد علي شمس الدين)

أخيراً
ها قد فرحنا بالرعد يأتي من الجنوب
فرحنا بهذا البريد الآتي من غامض علم الله
في جلجلة السماء
فرحنا بهذا البركان الأبيض
من مناديل أمهاتنا
وطباشير المدارس
فرحنا بغيمتين تقرعان سن الندم
فوق جبل عامل
فرحنا بالبرق يضيء حواشي البحر
ويكشط عن سرّ الأفق الجميل
لحم قطط الليل السوداء
فرحنا بالهواء يتدحرج على إسفلت العين
ويهز أبوابها المكسورة
وشبابيكها المخلّعة
فرحنا بحبات المطر الصغيرة
مثل عيون البرك الوحلية
تنبجس فجأة من دمّلة السماء
وترتجف على صفحة أرواحنا الصلعاء
فرحنا بالأوراق المتطايرة من ثياب الأشجار
مثلما تنفجر قنبلة عنقودية
في مدرسة ابتدائية للأطفال
أخيراً…
فرحنا بهذا البريد من الرعد الوافد
من
وادي جهنم.
(من ديوان «طيور إلى الشمس المرّة»، 1984).

◄ حياة
(حلمي سالم)

المحاصَرون
يوسّعون رقعة الأرضِ
يفتحون كوّة السماءْ
ويصنعون من جلودهم رغيفاً
ومن عروقهم سبيل ماءْ
ويعصرون من حشائش الطريقِ
جدولاً من الأرزّ والطحين والكساءْ
وفي قتامة الدروب يُبصرون
بعين هذه البنادقِ التي
تشكّلت من الدماءْ
المحاصَرون
بالضلوع والعيون يُنصرونْ.
(من ديوان «سيرة بيروت»، 1986).

◄ كوابيس لعرس الحبيبة
(شوقي بزيع)

تزفّين للحرب
للانكسار الغريزيّ
وهو يعض ابتسامتك اليانعهْ
تزفّين بين الكوابيس،
بيروت ساحة عرس مدمّى
وفي وسطها ترقص امرأة بالقبورْ
تصفّق أنصاف أبنيةٍ
ومتاريس،
يمشون خلف العروس التي لا تبين ملامحها
ثم يتّضح المشهد:
امرأةٌ هي أنت،
ترافقها أذرعٌ وأكاليل، يحملها رجل باتجاه السرير الذي يشبه القبر
ثم يهيل التراب
على صدرها
المتقهقر نحو الوراءْ
امرأة تستغيثُ
ولا من يجيب النداءْ
يقولون: هذي وفاءْ
وتلك ابتسامتها
تتأبّط في الصفرة الأنثوية شخصاً سواكْ
وتنساكْ
لتتبعَ ذئباً هو الحرب،
حيث تزفّك بيروت دون ذراعيّ،
كان معاقون يحتفلون بعينيكِ
تحت الأنين المزغرد،
كان مصابون يحيون عرسكِ
في غرفة من نعاس وقهقهة
وأنا واقف في العراء الإلهي وحدي
أراقب حفل الزفاف الذي يتحلّق من حوله
راقصون بطيئونَ
وامرأة تستجيرْ
وفاءُ تُزفّ إلى الحرب،
وفاء تكفّ عن الحبّ هذا الصباح
وقد ضفرت شعرها بحطام بنفسجة
وارتدت طرحة الخوف
ثم دعتني لأن أتزوج بنتاً سواها
وخانت ذراعيّ
عند اللقاء الأخير.
(من ديوان «وردة الندم»، 1990).

◄ وجه بلا عتبة كالفجر
(بول شاوول)

ضوء حار يمتزج بالهواء
ضوء خانق يرتعش في الهواء
ضوء قان ينزف منه
ضوء الشهيد
يغادره
كي يسترجعه إلى الأبد.
■ ■ ■
ضوؤه قبله
ضوؤه بعده
ضوؤه
ينشر الصباحات
ولا ينفد
ضوؤه
فجر أجساده المقبلة.
■ ■ ■
وجه
بلا عتبة
كالفجر
■ ■ ■
واهب الحرية
يحفظ يديه
واهب الحرية
يحفظ صرخته
كي يمتزج بولادات جديدة
واهب الحرية
يحفظ ذراعيه
كي يضم الوطن
إلى الأبد.
الشهيد
لا يرثه
سوى الشهيد.
■ ■ ■
جرحه يتبعه
جرحه أمامه
جرحه
يرى
الطريق
ويكمل...
■ ■ ■
وجه يتسع بالأرض
(أرضه)
وجهٌ غريب
وتراه
وجه أليف
ولا تراه
يسبقك إلى آخر نقطة من الوطن.
■ ■ ■
يرصده كيميائيو الموت
يلتقط صخرة من الأرض
(أرضه)
ويرميهم بها
يرصده كيميائيو الموت
ثمّ لا يصير فريسة.
■ ■ ■
رأى الطريق
عندما كانت الذاكرة
بلا عيون
رأى الطريق
وقاده شريانه المفتوح.
وقف لترفعه الشمس
على غضبها
المقبل
وقف
وكي
يدير
ظهره
للشمس
الغاربة
وقف كي لا يموت.
■ ■ ■
تموت أرضنا قربنا
(الذي يحلم لا يموت)
تشيخ منازلنا فينا
(الذي يحلم لا يشيخ)
يضيق فضاؤنا علينا
(الذي يحلم يمتزج بالفضاء)
يحترق الهواء إلينا
(الذي يحلم يغتسل بالهواء).
■ ■ ■
هكذا يأتي الشهيد:
يسبقك إلى آخر قمة من موتك.
هكذا يرحل الشهيد:
يفتح الينابيع ويبقيها مفتوحة.
(مقاطع من قصيدة نُشرت في «النداء»، 23/8/1984)

◄ بيروت 1982
(ايتيل عدنان)

آه يا وحشية القلب الرقيقة
يوم ماتت بيروت
تحت وابل من ورود حُمر
أم كلثوم رحلت أولاً
كانت تغني للملائكة والخيل...
ثم تبعها الفلسطينيون
بصمت
في موكب
كما فوق جداريات أجدادهم
الوحوش الضارية ليست في حديقة الحيوانات
باء مثل بيغن
الذي دخل في أسطوريات الشر
مع ثلاثة ملايين من الدولارات
ليقتل طفلاً
ليقتل غابة بشرية.
لكن في بيروت المحاصرة
النسوة لا يتوقفن عن الرقص
نعم
هزّ بطن
البطن الأم
احتفظ بشرفه طاهراً
رقصت بيروت
تحت وابل من قنابل الفوسفور
شرف المدينة كان نشيداً عربياً.
تركتم لنا أغاني الموت
لكنها أجمل من رجالكم
وتركتمونا تحت المطر
مع طعنات في البطن
لكن طفلاً من عين الحلوة
يستحق أن نقاتل من أجله
حتى تبصق نساؤكم دماً
في نهر الأردن
ليس في المقابر سنزرع القمح
ولا في راحة يدي
نحن غاضبون مثل العاصفة.
(من كتاب «اكسبرس بيروت-الجحيم»-ترجمة محمد ناصر الدين)

◄ البشر والشجر في بيروت
(محجوب عمر)

لم يمت أحد من العطش، ولكنّ البعض مات من أجل الماء عندما كانت تفاجئهم القذائف وهم في الطوابير في انتظار ملء ما جاؤوا به من أوان. وراجت تجارة المياه المعبّأة التي ظهر منها أنواع لم تكن معروفة، والطريف أن نوعاً منها كان اسمه hossar أي حصار. كذلك ماتت زهور كثيرة. البيروتيون يهوون وضع أصص الزهور والزرّيعة في شرفاتهم وعلى أسطح المنازل وداخلها ويتفنّنون في تنويعها ورعايتها. يتبادلونها ويتهادونها في المناسبات. لم يكن سقيها سهلاً مع نقص الماء، فإن توفّر الماء فالصعود إلى الطوابق العليا بحمل من الماء مشقّة. سما زوجة يحيى كانت تحتفظ في بيتها بزرّيعات تحبها وترعاها، وظلّت تحمل لها الماء طوال أيام الحصار وتصعد درجات سبعة طوابق لكي تسقيها وتبلغ الأصدقاء بأخبارها: هذه أينعت، وهذه مريضة من الغبار، وتلك أزهرت، كذلك كانت هي ويحيى يحملان الماء الصالح للشرب إلى جريح صديق نُقل إلى شقة خاصة بعد أن وضعت ساقه في الجبس. لم يستطع الحصار أن يهزم شهر رمضان. للبيروتيين تقاليدهم في هذا الشهر. موائد الإفطار حتى للمفطرين، ويزداد استهلاك الحلوى، والناس وإن قلّ عددهم كانوا على استعداد للانتقال من حيّ إلى آخر للحصول على كأس من البوظة أو كوب من العنّاب. النقص كان في اللحوم الطازجة والخُضر. التهبت أسعارها ومع ذلك أمكن توفير طبق من الفتوش الذي يتشكّل من سلاطة خضراء مقطّعة تقطيعاً صغيراً مع قطع من الخبز اليابس. وطالما أن طبق الفتوش موجود فإن كل شيء يصبح موجوداً فهو مثل طبق الفول المدمّس في شهر رمضان في مصر. عشية العيد دارت معركة حول المطار وصُدّت قوات العدو. وطافت الفتيات على أشجار الياسمين الباقية على أسوار بيوت بيروت الغربية يجمعن أزهارها ويضعنها على قبور الشهداء في الصباح. البعض قطع أغصاناً صغيرة من أشجار الكينا والبعض حمل غالونات الماء لسقي الزريعة حول القبور.
(من كتاب «الناس والحصار»، 1982).


اجتياح يقتل شاعرين
لم تفجع بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي ببشرها وحجرها فحسب، بل يكشف مشهد الدبابات الإسرائيلية والطائرات وهي تدكّ بيروت وضواحيها، عن مقتل شاعرين تباينت أسباب رحيلهما في الفترة الأصعب من عام 1982: أولهما هو خليل حاوي (مواليد 1919) أحد أبرز الأصوات الشعرية في لبنان والعالم العربي في القرن العشرين، ابن بلدة الشوير اللبنانية والمولود في قرية «الهوية» في جبل العرب، انتمى باكراً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وحمل رؤية قيامية في الشعر، أكثر ما نعثر عليها في قصيدته الأشهر «لعازر» عام 1962): «جارتي يا جارتي/ لا تسأليني كيف عاد/ عاد لي من غربة الموت الحبيب/ حجر الدار يغني/ وتغني عتبات الدار/ والخمر تغني في الجرار/وستار الحزن يخضرّ/ ويخضرّ الجدار/ عند باب الدار ينمو الغار/تلتم الطيوب/عاد لي من غربة الموت الحبيب/زنده من بيلسان حول خصري/زنده يزرع نبض الوردة الحمرا بعمري/بعد أن رمد في ليل الحداد». تعدّدت الروايات حول السبب الذي حدا بخليل حاوي لأن يطلق الرصاص على نفسه من بندقية حربية، من موت أخته في طفولته الذي ترك في وجدانه جرحاً غائراً مروراً بالخيبات العاطفية والإيديولوجية من مختلف العقائد والأفكار السياسية التي مرّت على الشرق الذي أراد الشاعر أن يهدي برؤياه القيامية أبناءه ليمشوا خفافاً على جسر يأخذهم نحو النهضة والنور والحرية، ليرى دبابات شارون في بيروت: أضلع الشاعر التي أرادها لهم «جسراً وطيداً» سندت البندقية لتطلق الرصاص مباشرة على «وجه السندباد».
الشاعر الآخر هو الفلسطيني علي فودة (مواليد 1946)، الذي كانت دواوينه تباع مع الخبز والصحف في بيروت المحاصرة وتتلى على متاريس المقاتلين، وما لا يعرفه كثيرون أنه هو صاحب قصيدة «إني اخترتك يا وطني» الشهيرة التي غنّاها الفنان مرسيل خليفة، بعد مسيرة شعرية حافلة في عمر قصير من «فلسطيني كحد السيف» (1969) و«قصائد من عيون امرأة» (1973) و«عواء الذئب» (1977) و«الغجري» (1981) و«منشورات سرية للعشب» (1982) الديوان الأخير الذي سال دمه على أوراقه وأوراق جريدة «الرصيف» التي كان يوزعها على المقاتلين أيام الحصار. يورد موقع منظمة التحرير الفلسطينية على الإنترنت أن علي فودة كان لا يزال جريحاً حين قرأ رثاءه في الصحف، ليورد الروائي الياس خوري هذه القصة في روايته «باب الشمس»: «أذكر أنه جاء جريحاً إلى المستشفى، جلبوه مع جريح آخر، وكان الدم يغطيهما، الجريح الأول كان شبه ميت ودمه متجمّداً على جسده اليابس. لا أعلم من كشف عليه وأعلن وفاته. فتمّ نقله إلى براد المستشفى تمهيداً لدفنه. ثم اكتشفوا أنه حيّ، فنُقل على عجل إلى غرفة العناية الفائقة، وهناك اكتشفنا أنه كان شاعراً. الصحف التي صدرت في بيروت أثناء الحصار، نشرت عنه المراثي الطويلة، وعندما استيقظ الشاعر من موته، وقرأ المراثي شعر بسعادة لا توصف. كان وضعه الصحي ميؤوساً منه، فقد أصيب في عموده الفقري وتمزّقت رئته اليسرى، لكنه عاش يومين، وهو ما كان كافياً ليقرأ كل ما كُتب عنه، قال إنه سعيد، ولم يعد يهمه الموت، فلقد عرف اليوم معنى الحياة، من خلال الحب المصنوع من الكلمات».