تتراجع الديمقراطية الليبرالية منذ نهاية الحرب الباردة. أدّت الحروب الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر، إلى حالة من عدم الاستقرار في أفغانستان والعراق، وشهدت المنطقة العربية أحداثاً ثورية أطاحت بالديكتاتوريات القديمة واستبدلتها بأخرى جديدة، وأظهرت روسيا في عهد بوتين أخيراً عن روح عسكرية مُبالغ فيها. وعلى الرغم من مظاهر الديمقراطية في موسكو، إلا أنّها لم تتمرّد أبداً على نموذج الرجل القوي، فيما نجحت الصين في تكريس استبدادها عبر نموذج رأسمالي أصبح نموذجاً في العالم.مع ذلك، يبدو أن الديمقراطية الليبرالية تمكّنت من تحقيق بعض مظاهر النجاح، إذ انخفض عدد الديكتاتوريين التقليديين في العالم انخفاضاً ملحوظاً. لكن يبدو أن عهدها الذهبي قد ولّى، حيث يُجادل كُل مِن الاقتصادي الروسي سيرجي غورييف والعالم السياسي الأميركي دانيال تريسمان في كتابهما الجديد Spin Dictators (منشورات جامعة برينستون ـــ 2022) بأن الديكتاتوريين الذين اشتهروا بالعنف، أصبحوا أكثر ذكاءً، وتخلّصوا من الزي العسكري وقمعهم العلني من أجل الاقتراع وحملات الدعاية.
ما يعني أننا أمام جيل جديد من الديكتاتوريين الذين يصعدون إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، ويبقون في السلطة من خلال التلاعب بدلاً من القتل. لقد تغيّرت طبيعة الديكتاتوريات تغيّراً أساسياً من هيمنة «ديكتاتوريات الخوف» التي تحافظ على السلطة من خلال العنف والترهيب للحفاظ على حكمها، إلى «ديكتاتوريات الخداع» التي تستفيد مِن أدوات التأثير والدعاية للحفاظ على السلطة.


بدلاً مِن الخوف، يُقدم الديكتاتوريون اليوم صورةً مِن الكفاءة، يُظهرون تخلياً واضحاً عن الإيديولوجيا لصالح دعاية عبادة الشخص، وتدعيم الشهرة. وبدلاً من الرقابة الصريحة على الإعلام، هناك إجراءات قانونية وغرامات مالية تحدّ مِن العمل الصحافي الحُرّ. وبدلاً من تزوير الانتخابات، يتم تشكيل ذهنية الناخب وخلق صورة للديمقراطية من خلال معارضة مُخلصَة يتم انتقاؤها والحفاظ على مسافة معها بما يكفي لجعلها تبدو كأنها مستقلّة عن السلطة.
ظهر هؤلاء الديكتاتوريون بفضل «مزيج التحديث» الناتج عن التحولات في مجتمع ما بعد الصناعة مثل: ظهور عولمة الاقتصاد والمعلومات، وصعود النظام العالمي الليبرالي الذي يجعل «ديكتاتوريات الخوف» غير مستساغة ولا مستدامة.
لا يزال الحكام المستبدّون يحتفظون بالقدرة على استخدام الخوف والعنف لتحقيق غاياتهم، في حين أن هذه القوة قد لا تكون ظاهرة ظهوراً ملحوظاً كما في الأجيال الماضية، إذ يمكن لهذه الأنظمة أن تستخدم العنف أو تهدد به عندما يناسب ذلك غاياتها. على سبيل المثال، نظام الرئيس بول كاغامي في رواندا الذي يحظى بالترحيب على نطاق واسع عالمياً، قائم على القتل السياسي والترهيب. كما قُتل معارضو بوتين مِن صحافيين وجواسيس سابقين وشخصيات معارضة. ومع أنّه من غير الواضح على الإطلاق أن الرئيس الروسي أمر بتنفيذ أيّ عمليات اغتيال، إلا أنه يعكس نظاماً يرى القتل السياسي خياراً قابلاً للتطبيق.
تلعب مُدة بقاء الرئيس في السلطة دوراً في قيام الديكتاتورية، إذ تتحجّر الأنظمة وتبدأ باللجوء إلى العنف أو أدوات السيطرة التقليدية. وكلما شعرت تلك الأنظمة بضغط متزايد، زادت جاذبية استخدام الهراوات على بطاقات الاقتراع.
في الواقع، لا يحتاج المرء إلى النظر أبعد من روسيا. في أعقاب عودة بوتين إلى المنصب في عام 2011 ومزاعم بحدوث تزوير انتخابي كبير، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، ما أدّى إلى نشر شرطة مكافحة الشغب، واعتقالات واسعة. يشير غورييف وتريسمان إلى ظاهرة «النهب العالمي» ويناقشان كيفية سعي الديكتاتوريين إلى اكتساب الشرعية من خلال التعاون مع الغرب، واستقبال مراقبي الانتخابات الأجانب وجماعات الضغط (اللوبيات). عنصر جماعات الضغط ذو أهمية خاصة إذا لم يكن هناك الكثير مِن أصحاب المصالح الغربيين الراغبين في الإبقاء على الديكتاتوريات لتسهيل أعمال نهب بلدانهم. فمن المحتمل أن تتضاءل شرعية الديكتاتوريين إلى حد كبير. كما لاحظ المؤلفان أنّه بدون مساعدة جيوش المحامين الغربيين، والمصرفيين، ورجال صناعة السلاح، ونخب أخرى، سيجد المستبدّون صعوبة أكبر في الحصول على شرعيتهم مِن الغرب.
يتم تشكيل ذهنية الناخب وخلق صورة للديمقراطية


الحجة نفسها تنطبق في الداخل، حيث التكتيكات نفسها التي تغسل سمعة الشخصيات السياسية في واشنطن، يتم استخدامها بالتأكيد حول العالم. ما يتم في الغرب مِن تلميع للمستبدين يرسل إشارات إلى شعوب الديكتاتوريين في الوطن بأنّ لا مفر مِن حكمهم. وإذا تمكن الطغاة من الإفلات من خلال الإجراءات القانونية، وغسل الأموال، وتنظيف السمعة، ولاقوا الترحيب في أروقة السلطة في العواصم الغربية، فما هو الأمل الذي يمكن أن يحظى به المعارضون؟
اللافت هنا مدى التغيير في الخطاب في لندن تجاه الأوليغارشية والمال القذر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد كان هناك القليل من الحافز أو الاهتمام بمعالجة تدفّق المكاسب غير المشروعة إلى المؤسسات المالية في بريطانيا. لقد تغيّر ذلك، وربما كان الأمر الأكثر لفتاً للانتباه هو الجدل الذي جرى في مجلس العموم حول أولئك الذين يساعدون الأوليغارشية الروسية في غسل سمعتهم، إذ أصبحت لندن وجهة مفضّلة ليس فقط لغسيل الأموال، ولكن أيضاً للسمعة.
على الرغم من السلوكيات البغيضة للديكتاتوريات، سيظل الغرب بحاجة إلى العمل مع العديد من هذه البلدان، على رأسها الصين. لذا يقترح المؤلفان نموذجاً لدفع الديكتاتوريين نحو المزيد من التحالفات الديمقراطية من خلال المشاركة، والإصلاح السياسي المحلي بدلاً من التغيير الشامل للأنظمة.
من الصعب معرفة مدى فعّالية هذا النموذج، فالمصالح والقوة الصلبة مهمة في الجغرافيا السياسية أكثر بكثير من الديمقراطية ونمط الحُكم. وسوف يستمر الغرب في التعامل مع الأنظمة الأخرى مهما كان سلوكها. ستتواصل واشنطن مع بكين وموسكو على الرغم من أي سجلّ حقوقي لأن الولايات المتحدة بحاجة إليهما.