رغم أن جاك كيرواك (1922-1969) عاش حياةً وجيزةً، إلا أن وجازتها اقترنت بتجربة صاخبة وعطاء غزير تمثل في عشرات الروايات والأشعار والنصوص المفتوحة والمقالات. إنه «ملك البيتس» كما وصفه كاتب سيرته باري مايلز في كتابه عنه الذي يؤكد فيه أن شخصية كيرواك مليئة بالتناقضات، ونادراً ما عاش في سلام حتى مع نفسه، ناهيك بتناقضات علاقاته بالآخرين، فهو يرسم طريق التمرد لأبناء جيله، ويقودهم للعصيان والانشقاق والثقافة المضادة، ثم يهاجم أبناء الجيل اللاحق الذين يقتدون به ويسلكون الطريق ذاته! ويدعوهم إلى صراط مستقيم! فهل كان ملك المقهورين المتوَّج أم المتنحِّي أم المخلوع؟ معلِّمَهم المُنشقّ أم المُرتدّ؟ ثم ما الذي يدعو أبرز المبشِّرين بالثقافة المضادة إلى التحوّل إلى مثقف محافظ؟ وكيف لأبرز الآباء المؤسسين لـ «جيل البيت» Beat Generation أن يصبح معادياً لرفاقه وأباً عاقاً لأبنائه (أبناء الزهور من الهيبيين)؟
بالإضافة إلى أعماله الروائية، يُعد كيرواك أحد أهم شعراء أميركا في عصره

مثلما يؤرَّخ لميلاد الحداثة في الأدب الغربي برواية وقصيدة: رواية «عوليس» لجيمس جويس وقصيدة «الأرض الخراب» لإليوت، يؤرَّخ لولادة جيل ما بعد الحداثة، أو «جيل البيت» أو حركة الثقافة المضادة في أميركا برواية وقصيدة: رواية «على الطريق» لجاك كيرواك (صدرت عام 1957 بعد سبع سنوات من إنجازها وكان قد نشر فصلاً منها في مجلة «الكتابة الأميركية الجديدة» تحت عنوان «جيل جاز البيت» وقصيدة «عواء» لألن غينسبرغ صدرت عام 1956 رغم أن هناك من يرى أن رواية جون كليلون هولمز Go أوَّل رواية منشورة تصوّر «جيل البيت»، ولا سيما أنّ عنوانها في طبعة 1959 أصبح: «فتية البيت» وهي تروي يوميات وارتكابات وتمردات أدباء ذلك الجيل في فتوتهم.
لكن هذه التوثيقات التاريخية لا تمثَّل وقائع التاريخ نفسه في كل الأحوال. فكثيراً ما ردّدَ غينسبرغ أن كيرواك أستاذه وإنه استفاد من تحريضه الشخصي ومن أعماله التي اطَّلع على مخطوطاتها منذ الأربعينيات، ومن أسلوبه في «النثر العفوي» الذي بيَّنه كيرواك في مقال له بعنوان «أصول النثر العفوي» حيث يعتمد التدفق اللغوي والذهني الحرّين، والتداعي التعبيري المنفلت في إطلاق العنان لكلماته وأفكاره الخام للاعتراف والحديث عن التجربة وتصويت المكبوت بكتابة التجارب كما هي وباندفاع غريزي للغة، ليبوح بأسرار ذاكرته. حتى إنّ تقنية البيت الشعري الطويل والمدوّر في قصيدة «عواء» تعكس تأثراً بأسلوب كيرواك المستعار أصلاً من موسيقى الجاز ومن يوغا التنفس في التأملات البوذية. كما استخدم كيرواك تقنية جويس في تيار الوعي، وتحت تأثير هذا المفهوم، كتب رواية «على الطريق» في ثلاثة أسابيع و«الصعاليك المستنيرون» خلال أسبوعين بعدما أمضى سنوات في كتابة روايته الأولى «البلدة والمدينة» وأعادَ تنقيحها مرات عدة، ومع هذا لم تختلف كثيراً عن أعمال آخرين وجاءت متأثرة إلى حد ما بأعمال توماس وولف.
من هنا دأب كيرواك على إضفاء جرعة جديدة على الأدب المكتوب بالإنكليزية، فرغم أن الإنكليزية لم تكن الكلمة الأولى التي نطقها، فقد غيّرت كتاباته الكثير من بلاغة تلك اللغة بعدما انتبه لتناقض وظيفتها ما بين الحياة والأدب. كان كيرواك من أصول كندية-فرنسية ونشأ في «لويل» في ماساتشوستس. لذا كان يتحدث بالفرنسية مع عائلته ولم يبدأ في تعلم اللغة الإنكليزية إلا بعد دخوله المدرسة، في سن السادسة تقريباً، ولم يتحدث بها بطلاقة حتى أواخر سنّ المراهقة. فقد اكتشف أن ما يتحدث به هو وأصدقاؤه: وليم بوروز وغينسبيرغ ونيل كاسيدي ولوسيان كار وسواهم، في ما بينهم بصراحة وعفوية، مختلف تماماً عمَّا هو مدوَّن في الأدب، ما جعله يجري مراجعة كاملة لما ينبغي أن يكون عليه الأدب، في ذهنه، وفي أذهان القراء، وفي أذهان النقاد، الذين هاجموا الرواية في البداية وأخذوا عليها افتقارها إلى ما وصفوه بـ «معمار متقن»، فهي تتحدث عن عصبة من الأصدقاء يتجولون في سيارة ويرتكبون المعاصي! لكنها أصبحت في آخر الأمر نموذجاً رائداً لأدب الصعلكة المعاصرة، وأحد الكلاسيكيات في هذا المجال. والواقع أن كيرواك رأى «أنّ الأدب المستقبلي سيتمثَّل بما كتبه الناس فعلياً لا بما حاولوا فيه خداع الآخرين مما فكَّروا أن يكتبوه، حين نقَّحوه». لذلك، فإن جميع أعماله تقريباً قامت على مزيج من سير ذاتية وشخصية له ولآخرين، شخصياتها وأبطالها أصدقاؤه وأفراد عائلته ومادتها ذكرياته عنهم ويومياته مع محيطه وجيله، فكتب عن تجاربهم بصراحة وبأسمائهم الحقيقية قبل أن يعدِّل الناشرون أسماء الشخصيات تجنباً لدعاوى التشهير.
كان كيرواك أقلّ اهتماماً بالسياسة في معظم كتاباته، من أقرانه ولا سيما كوفمان وغينسبرغ: «أنا مجرَّد راوي قصص مرح ولا علاقة لي بالسياسة أو المشاريع ومشروعي الوحيد هو الطريقة الصينية القديمة للطاو: تجنب السلطات». ومنذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، شُغفَ بالبوذية وراح يستوحي من الفلسفة الشرقية ومفهوم النيرفانا والنظرية القائلة بأنه لا يوجد شيء حقيقي في هذا العالم، وأن ثمة «حالة وعي» أخرى يمكن للفرد أن ينعتق من خلالها. وهكذا بدا أنَّ طريقته في الكتابة القائمة على البداهة والتلقائية في لحظة التأليف، أو «في لحظة هي الخلاصة» سبيله للهروب إلى حالة من التأمل البوذي، طامحاً أن تمدَّه بالطاقة الروحية لمواجهة مشقَّات الحياة والمحن التي عاشها.

تأثيره بـ «جيل البيت»
منذ أيام دراستهم الجامعية أواسط الأربعينيات، اقتفى كيرواك وغينسبرغ وسواهما خطى رامبو وبودلير وآرتو، والأسلاف من الشعراء والمفكرين الهرمسيين والغنوصيين، فراحوا يبحثون عن «حقيقة عليا وجديدة» مقتدين بعبارة وردت في «فصل في الجحيم» لرامبو: «عيد الميلاد على الأرض» ثم تحولت الدعوة إلى «رؤيا جديدة» اقتداءً بعبارة ليتس قبل أن يظهر مصطلح «جيل البيت» خلال حوار جرى بين كيرواك وجون كلون هولمز عندما تناقشا عن طبيعة الأجيال، مستذكرين بريق «الجيل الضائع». ثم عاد كيرواك عام 1959، ليفسر المصطلح بعدما التبس في تداوله وتعدّدت تفسيراته حيث أصبح كناية عن شخص مهزوم أو مسحوق بالكامل أو نسبَ إلى «الإيقاع وقرع الطبول»، فحدَّده كيرواك في مقالته «أصول جيل البيت» بـ: «الهزيمة بوصفها تطويباً» والخسارة الضرورية، أو الظلمة التي تسبقُ الانفتاح على إيثار الآخر، وإفساح المجال للنور الديني. فدعا إلى إيلاء الاهتمام بما سماه «تجديد التديُّن» بما يتيح له أن ينمو في حضارة متطورة، اقتداءً بشبنغلر، وإلى احترام الأرض وحضارة الشعوب الأصلية وسائر المخلوقات. وهو ما أعلنه في جملة شعارية من روايته «على الطريق»: «هذه الأرض كائنٌ هندي». ولعل جوهر مصطلح «جيل البيت» يرد في عبارة في مقال نشره كيرواك عام 1959 بعنوان «بداية البوب»: «كل شيء يعود لي لأنني فقير»، فقد كان كتّاب «جيل البيت» مفتونين إلى أقصى حد بالحياة الوجودية المغفلة والهامشية، وحياة أهل القاع أو الهامشيين في المجتمع من العيارين في ساحة التايمز، أو مدمني المخدرات، أو عازفي الجاز، أو الفوضويين من عشاق الجاز، وصغار اللصوص والمشردين، وسواهم ممن اعتمدوا على شطارتهم لمواصلة الحياة يوماً بيوم؟ أشخاص على استعداد «للمراهنة بكل ما يملكون على رقم واحد» على حد تعبير جون كلون هولمز.
وهكذا كانت هذه العوالم والأفكار وكذلك المعاني الطليقة للعقل الباطن، التي لم تقيِّدها العوامل التي تتحكّم في التفكير الواعي، هاجساً مشتركاً بين أدباء «البيت» الذين أفرغوا أحلامهم ورغباتهم، بأقصى حرية متاحة.

كيرواك شاعراً
بالإضافة إلى أعماله الروائية، يُعد كيرواك أحد أهم شعراء أميركا في عصره. ففي شعره مدى متّسع من تداعيات المعاني الذهنية والصور، كما في «بلوز مكسيكو سيتي»، وهي قصيدة نشرها عام 1959 وتتألف من 242 مقطعاً وكُتبت بين عامي 1954 و1957، وتعبر عن نموذج كتابته في التدفق العفوي، ومعتقداته البوذية، وخيبة أمله الشخصية لعدم نشر روايته «على الطريق» آنذاك. وهي نموذج يفصح عن براعته في ما سمي آنذاك «الشعر الإسقاطي». كما أنه يتميز بسمة متفردة في شعريته، فهو أفضل من كتب الهايكو الأميركي في وقت كان فيه كثيرون يكتبونه بتأثير ترجمات عزرا باوند، وكينيث ريكسروث للشعر الياباني والصيني. وتتجلى براعة كيرواك في ملاحظته لذباب الشتاء وهو يموت من الشيخوخة في خزانة دوائه:
«في خزانةِ دوائي
ذبابُ الشتاء
ماتَ من الشيخوخة»
أو بتكثيف المعنى في قوله في «الكتاب المقدّس للأبد الذهبي»:
«تتثاءبُ القطط
لأنها تدركُ
أن ليس هناك شيء لتفعله».
أضف إلى ذلك هدمه للحدود بين النثر والشعر بحيث إن صفحة طويلة كاملة من رواياته تبدو رشيقة مثل بيت شعري في ملحمة. فحتى أعماله النثرية، كانت قصيدة ممتدة، كما هو الحال في نص «أكتوبر في أرض السكة الحديد» الذي كتبه خلال عمله في محطة قطارات على خط سكك حديد الباسفيك، وهو نص مفتوح يروي تجربته ومشاهداته حيث أكد في أحد حواراته بأنه أراد في هذا النص أن يحاكي «حركة القطار وقعقعة عجلاته الحديد على السكة مثل عربة محرّك بخاري في الأمام وهي تسحب مئة عربة خلفها». وكذلك الحال في «الدكتور ساكس» أو حتى في روايته «على الطريق»، فهو يرى أن زمن التأليف هو بنية القصيدة، بمعنى أنّ ما يدور في الذهن خلال تلك اللحظة هو الموضوع. «الزمن هو الجوهر الأصلي» وهو ما كتبه في مقال قصير عن كتابة الشعر، بعنوان «أصول النثر العفوي».
استفاد كيرواك من شكل «السوترا» وهو مصطلح سنسكريتي يعني سلسلة من التعاليم البوذية تصاغ في شكل أقوال مأثورة، وهو ما فعله ولا سيما في قصيدته الطويلة: «الكتاب المقدّس للأبدية الذهبية». كما اعتمد الأشكال الشعرية الشرقية الأخرى، بالإضافة إلى إيقاعات البلوز والجاز والبوب.
المعادي لـ «البيتس» و«الهيبيز»
كان حافز كيرواك في معظم كتابته مصدره خيبة الأمل من الحياة بفعل تجربته القاسية: شيخوخة والده، ومرضه ووفاته ثم وفاة أخيه الأكبر، حيث عانى خلال احتضارهما وعنايته بهما وهما على فراش الموت ثم والدته المشلولة. وهو ما كتبه في «رؤى كودي» عام 1951. ومثلما قادته هذه التجربة القاسية للإبداع الكتابي، فإنها أودت به أيضاً إلى رحلة نحو انتحار بطيء بإدمانه على الكحول. ففي البدء، شعر كيرواك بأنه جزء من ثقافة الهامش وعالم القاع في أميركا، فاتجه إلى البوذية، لكنه عاد لكاثوليكيته متنكراً للبوذية ولحركة «البيت»: «لستُ بيتنيكياً. أنا كاثوليكي: محافظ». وسيرى لاحقاً أنّ «حركة البيت» أقرب لحصان طروادة شيوعي للهيمنة على الشباب والمجتمع الأميركيين، رغم أنّه كان قد حضر اجتماعات الحزب الشيوعي في الأربعينيات من القرن الماضي، وأعرب عن رغبته في الانضمام «إلى رفاقه الروس في محاربة الفاشية». وكتب في نيسان (أبريل) 1941: «أجري نقاشاً بسيطاً مع عدد من الحمر».
وقبل عام واحد فقط من وفاته، ظهر كيرواك في برنامج حواري تلفزيوني –وهو نادراً ما يظهر -، بمواجهة مع ممثل عن «الهيبيين» الشاعر والمغني إيد ساندرز، وكان «ملك البيتس» يتطوّح على كرسيه مخموراً ومتهكماً، فشرع يحتقر الهيبيين، ويصف الشيوعيين بالفاشيين، وهو ما فعله في آخر مقابلة صحافية قبل أيام من وفاته، حين وصف أعداء أميركا الحقيقيين بما يشبه المكارثية: «الشيوعي هو العدو الرئيسي لأميركا».
بيد أنّ سورة غضب «الملك» بلغت ذروتها في آخر مقال كتبه قبل وفاته بأيام بعنوان «من بعدي، الطوفان» هاجم فيه أصدقاءه السابقين في «البيت» والشيوعيين وأبناء الزهور من الهيبيين بشراسة. وإذ أعاد فيه هجو الهيبيين بوصفهم بالمنافقين ولا يختلفون عن السياسيين والأرستقراطيين، وأنهم ليسوا سوى طفيليات وعالة على المجتمع وإذ يصف الجيل الجديد بجماعة من المدلّلين غير الوطنيين والمتعاطفين مع الشيوعية، رغم أنهم كانوا يعيدون تمثُّل آرائه وتكرار رحلاته التي وثقها عن الصعاليك في جميع أنحاء البلاد، فقد هاجم بعض زملائه بالأسماء وادّعى أنّ «حركة البيت» قد اخترقها البوذيون الزائفون والشيوعيون: «استولى الشيوعيون على حركة البيت المحبوبة واستخدموها لإفساد شباب أميركا. وهم بعيدون كل البعد عن أولئك الذين حالوا قبل عقد أو عقدين من الزمان خلق حياة جديدة على هوامش أميركا».
رغم أن مقال«من بعدي الطوفان» قدّم صورة لما آل إليه حال كيرواك من تشاؤم وكآبة، إلا أنه، ولحسن الحظ، لم يكن أساسياً في تذكر كيرواك حين يجري الحديث عن أهمية أعماله في تاريخ الأدب الأميركي. فهو مكتوب بدافع السخط، وينفث مشاعر مستعرة لشخص أنهكه إدمان الكحول بسبب حياة جامحة وعاطفية تميزت بنجاحات كبرى ومأساة مهولة في الآن نفسه، ولا سيما في سنواته الأخيرة. لذلك، كان ألن غينسبرغ وغريغوري كورسو يفكران في الردّ على مقال كيرواك المثير للجدل عندما تلقّيا خبر وفاته. وبدلاً من مقال التفنيد الخصومة، كتبا مرثيتين لجاك هما من عيون ما كتباه من أشعار ولا سيما مرثية كورسو «مشاعر رثائية أميركية».


مقاطع من «الكتاب المقدّس للأبد الذهبي»
تلك السماءُ، لو لم تكنْ أيَّ شيءٍ آخر
سوى وهمٍ في عقليَ الفاني ما كنتُ لأٌقولَ
(تلكَ السَّماء) وبالطريقةِ التي أوجدتُ بها تلكَ السَّماء،
أنا الأبدُ الذهبي.
أنا أبدٌ ذهبيُّ فَاني.
■ ■ ■
لقد استيقظتُ لأظهرَ الطريق، واصطفيتُ
لأموتَ في انحطاطِ الحياةِ، لأنَّنِي
أبدٌ ذَهبيٌ فاني.
■ ■ ■
أنا الأبدُ الذهبيُّ بهيئةِ الحيِّ الفَاني.
■ ■ ■
الحقّ أقولُ، ليسَ ثمة أنا،
لأنَّ كلَّ شيء فارغٌ
وأنا فراغٌ، أنا عدمٌ
وكلُّ شيءٍ نعيم.
■ ■ ■
قانونُ الحقيقةِ هذا ليسَ أكثرَ حقيقةً من العالم.
■ ■ ■
أنتَ الأبدُ الذهبيُّ لأنَّ ليسَ ثَمَّةَ
أنا وأنتَ،
أبدٌ ذهبيٌّ واحدٌ فحسب.
■ ■ ■
أيُّها العارفُ
لا تَتَسلَّ بأيِّ خيالٍ على أيَّةِ حال
لأنَّ الشيءَ لا شيء ومعرفة هذا بالتالي
ألوهةٌ بشريةٌ.
■ ■ ■
هذا العالمُ شريط سينمائي عنْ ماهية كلِّ شيء،
إنه شريطٌ واحدٌ، مصنوعٌ من نفسِ المادّة
من شتَّى الأرجاء، لا تخصُّ أحداً،
وهي ماهيةُ كلُّ شيء.
■ ■ ■
لو لم نكنْ جميعاً الأبدَ الذهبيَّ
لَمَا كنَّا هُنا
ولأنَّنا هُنا
فليسَ بوسعِنا أنْ نكونَ أنقياء
وندعو الإنسانَ لأنْ يكونَ نقياً
على أساسِ أنَّ ملاكَ العقاب يعاقبُ المسيء
وملاكَ الثوابِ يكافئُ الصالح
سيبدو مثلَ دعوةِ الماءِ (لأنْ يكونَ مُبَللاً) -
ومعَ ذلك، كلُّ الأشياء تعتمدُ على الحقيقة السامية، التي ثبِّتَتْ سَلفاً
سِجَلاً للقَدر المقدِّر بموجبِ (الكارما)*
*في (الهندوسية والبوذية): حصيلة أفعال الشخص في اللحظة الحالية من وجوده والأزمنة السابقة، وهي التي تقرر الأقدار والمصائر في الوجود المستقبلي.
■ ■ ■
اللهُ ليسَ خارجَنا بل هو نحنُ فحسب،
الأحياءُ والأمواتُ، الذين لم يعيشوا قطّ ولم يموتوا قطّ.
ما علينا أن نتعلَّمهُ الآن فقط،
أنَّ الحقيقةَ الساميَّة، قدْ دوِّنتْ
في أرشيفاتِ العقلِ الكونيِّ منذ عهد سحيق،
وأنها أنجزتْ بالفعل،
ولمْ يعُدْ هناك المزيد ليُفعل.
■ ■ ■
الْمَغزى أنَّنا ننتظرُ،
وليسَ ما مَدى ارْتياحِنا ونحنُ ننتظرُ.
إنسانٌ العصرِ الحجريِّ القديم
ينتظرُ أمامَ الكهوفِ ليفهمَ سببَ وجودِهِ هناك،
ثمَّ خرجَ للصيد.
وبشرٌ مُعاصرونَ ينتظرونَ في منازلِهِم الأنيقة
ويحاولونَ نسيانَ الموتِ والوِلادَةَ.
ونحنُ ننتظرُ أنْ ندركَ أنَّ هذا هو
الأبدُ الذهبيّ.
■ ■ ■
حدِّقْ بعمقٍ في العالم أمامَكَ كما لو أنَّه الخَلاء:
أشباحٌ مقدسةٌ لا تحصى، وبوذيون، وآلهة مُخلِّصة تختبئ هناك، وتبتسم.
وكلُّ الذرات التي تبعثُ ضوءاً من باطنِ موجةٍ دفينةٍ،
لا انفصالَ داخلياً بينهما.
طائر طنَّانٌ يمكنُه أنْ يدخلَ منزلاً بينَما لا يُمكنُ ذلكَ لصقر:
لذا استرحْ وكُنْ مُطمئنًا وأنتَ تبحَثُ عن النُّور،
فقد تبتلعُكَ الظُّلمةُ فَجأةً
وتعثرُ على النُّورِ الحقيقي.
■ ■ ■
الكائناتُ لا تكلُّ من الرَّحيلِ والمجيءِ.
ينتهي الأمرُ بالذبابِ إلى المؤنِ النَّاعِمة.
■ ■ ■
سببُ بلاءِ العالمِ الولادة،
ودواءُ بلاءِ العالمِ عَصا مَحْنيةٌ.
■ ■ ■
كلُّ هذهِ الأنانية تلاشتْ بالفعل.
أينشتاين قاسَ هذا الكونَ الموجود بفقاعةٍ تتضخَّمَ،
وأنت تعرفُ ما الذي يعنيهُ هذا.
■ ■ ■
الأحلامُ الصاخبةُ تحدثُ في ذهنٍ هادئٍ تماماً.
الآنَ بعدَ أن عَرفنا هذا، فلنستغْنِ عنْ طوَّافةِ النَّجاة.
■ ■ ■
المجاملةُ ابتسامةٌ عريضةٌ
وابتسامةٌ عريضةٌ
لا تظهرُ شيئاً سِوى الأسنان.
فاسترحْ وكنْ لَطِيفًا.
■ ■ ■
تَأمَّلْ في العَرَاءِ.
الأشجارُ المعتمةُ في الليلِ
ليستْ في الحقيقةِ الأشجارَ المعتمةَ في الليل،
إنها الأبدُ الذهبيُّ فحسب.
■ ■ ■
مَن يحبُّ الحياةَ كلَّهَا بحنوِّه وذِكائِه
ليس حقاً هو مَنْ يُحبُّ الحياةَ كلَّها بحنوُّهِ وذكائِهِ،
إنَّها الطبيعةُ فَحسْب.
عُرفَ الكونُ تَمَاماً لأنَّهُ تُجوهِل.
يأتي التنويرُ حينَ لا تهتمّ.
هذا جذْعُ شَجرةٍ مريحٌ فاجلسْ عَليه.
فلستَ بقادرٍ حتَّى على فَهْمِ ألَمِكَ الشَّخصيِّ
ناهيكَ عن أَجْركَ الأبدي.
أحبُّكَ لأنَّكَ أنا.
أحبُّك لأنَّه لا يوجدُ شيءٌ آخرُ لأفعَلَه.
إنِّهُ الأبدُ الذهبيُّ الطبيعيُّ فحسب.
■ ■ ■
كلُّ شيءٍ عَلى ما يُرام،
الشكلُ هو الفراغُ والفراغُ هو الشكْلُ،
ونحنُ هُنا إلى الأَبد،
في شكلٍ أو في آخر، الذي هو الفَراغ.
كلُّ شيءٍ عَلَى مَا يُرام،
لسنَا هُنا أو هُناك أو في أيِّ مكان.
كلُّ شيءٍ على ما يُرام،
والقِططُ تَنامُ.
■ ■ ■
تتثاءبُ القِططُ لأنَّها تُدركُ
أنه لا يوجدُ شيء لِتفعلَهُ.


هايكوات مختارة
في لندن
بإمكانِ القِطَط أنْ تنام
في مدخلِ دكَّان الجزَّار.
■ ■ ■
كلُّ قطّ في كيوتو
بإمكانهِ أنْ يرى
في الضباب.
■ ■ ■
كم منَ القِطَط يحتاجُون
في هذهِ الأنحاءِ
لأيِّ مجونٍ جماعي؟
■ ■ ■
الليلةَ سأُنزلُ
ذَيلي
فقدْ رأيتُها في جميعِ أنحاءِ المدينة.
■ ■ ■
سيارةٌ قادمةٌ بيدَ أنَّ
القطّةُ تعرفُ
أنها ليستْ ثعباناً.
■ ■ ■
كانَ عليَّ أنْ أخدشَ
تلكَ البُقعةَ قبلَ
أنْ أبدأَ بالنَّوم.
■ ■ ■
بَاحثاً عن قطَّتي
بينَ الأعشاب،
وجدتُ فراشة.
■ ■ ■
عَثرتُ عَلى
قِطَّتي
نجمةً واحدةً صامتةً.
■ ■ ■
في خزانةِ دوائي
ذبابُ الشِّتاء
ماتَ من الشيخوخة.
■ ■ ■
جدرانٌ قرميديةٌ وحيدةٌ في ديترويت
بعدَ ظَهيرةِ الأَحَد
دعوةٌ للتبوّل.
■ ■ ■
يَا للورطة!
يومٌ آخرُ،
شيءٌ آخرُ أو سواه!
■ ■ ■
مَهما يكنْ، تحررتُ
-الآن سأدعُ
أنفاسي تزفرُ.
■ ■ ■
سكران كبومةٍ صائحةٍ
أكتُبُ رسائلَ
بعاصفةِ الرَّعْد.
■ ■ ■
تلكَ الطيورُ المجتمعةُ
على ذلكَ السياج
جميعُها ستموت.
■ ■ ■
تقولُ أُمِّي: الكواكبُ مُتباعداتٌ
بحيثُ إنَّ الناسَ
لا يُمكنُ أنْ يضايقُوا بعضَهم البعض.
■ ■ ■
دخانٌ من معاركَ
بحريةٍ قديمةٍ
اختفى.
■ ■ ■
طواحينُ هواء أوكلاهوما
تراقبُ
في كلِّ اتجاه.
■ ■ ■
مسبحةُ السحر فوقَ
دليلِ تعاليم (الزن)
ركبتايَ باردتان.
■ ■ ■
عرائسُها الصُّفرُ راكعاتٌ
على الرفِّ
زوجة جدِّي الميتة.
■ ■ ■
مائلةً نحو الجدار،
تعطسُ
الزُّهور.
■ ■ ■
غَمزتْ لي
الأرضُ مباشرةً
في المرحاض.
■ ■ ■
نورد الفلكيُّ الأطلانتيكي
يبكي لأنَّ الملك
ضاجعَ عشيقتَهُ الخريف.
■ ■ ■
جنكيز خان ينظرُ شزراً
نحو الشرقِ، بعينينِ حمراوينِ،
مُتضوِّراً لانتقامِ الخريف.
■ ■ ■
في الخريف جيرونيمو،*
يقول لا
لكوتشيس المسالم -الدخانُ يتصاعد
■ ■ ■
جيرونيمو وكوتشيس زعيمان من الهنود الحمر اختلفا حول أسلوب المواجهة والتعامل مع الغزاة الأوروبيين خلال سنوات الهدنة، انفصل العديد من محاربي كوتشيس الشباب وانضموا إلى جيرونيمو لمواصلة القتال.
■ ■ ■
(الحصانُ الجامح) *
يرنو شمالاً بعينين ملؤهما الدُّموع
فيبدأ هُطولُ الثلوج.
*زعيم قبيلة السيوكس الهندية اغتالته الشرطة الأميركية بعد استسلامه وفرض إقامة جبرية عليه.

في الخريفِ يبكي
جيرونيمو– ما مِنْ مُهر
عليه غطاءٌ.
■ ■ ■
ماو تسي تونغ استولى على
الكثيرِ من الفطر السيبيريِّ المقدَّس
في الخريف.
■ ■ ■
سلحفاة تبحرُ مع التيَّار
على جِذْع،
مرفوعةَ الرأس.
■ ■ ■
يقاتلُ سمكُ السلُّور من أجْلِ حياتِه،
وينتصر،
ويرشُّنا جميعاً بالماء.
■ ■ ■
بعدَ هزَّةٍ أرضيةٍ
ثمَّةَ طفلُ يبكي
في صَمْتٍ.
■ ■ ■
بعدَ زخَّةِ مَطر،
بينَ الورودِ المبلَّلةِ،
يتخبَّطُ الطيرُ في الحوض.
■ ■ ■
الإنسانُ يحتضرُ
أضواءُ الميناء
على الماءِ الراكد.
■ ■ ■
الإنسانُ لا شيء
سوى
برميل لتخزينِ الْمَطر.
■ ■ ■
أنا، أنتَ – أنتَ، أنا
كلُّ أحد-
هو-هو.
■ ■ ■
وأنا في مُنتصف الماندالا*
- اكتملَ القمرُ
على الماء.
*شكل هندسي، غالباً دائرة، يمثل الكون في الرموز المقدسة الهندوسية والبوذية.
■ ■ ■
معجلاً بالأشياء،
مطرُ الخريف
عَلى ظلَّةِ بابي.
■ ■ ■
أنظرُ حولي مُعتقداً
أني رأيتُ غيمةً بيضاءَ كثيفةً
فوقَ المنزل.
■ ■ ■
أنظرُ عالياً لأرى
الطائرة
لم أر سِوى هوائي التلفزيون.
■ ■ ■
أيتها النحلةُ، لِمَ
تحدِّقينَ بي؟
لستُ بزهرة!
■ ■ ■
غليوني كوزُ الذرة
سَاخنٌ من
الشمس.
■ ■ ■
نُقَّادي يتهزهزونَ
باستمرارٍ مثلَ
لبلابٍ سامٍّ تحتَ المطر.
■ ■ ■
مِصباحِي اليدوي،
حيث وضعتُه بعدَ الظهر
تلفَّفَ غائباً في النوم.
■ ■ ■
هبَّة نسيمٍ باردة لعلَّها
مجرَّدُ عرضٍ مُترددٍ
ولسوفَ تخرِّبُ كلَّ شيء.
■ ■ ■
يا زهرَ الخشخاش!
يمكنني أنْ أموتَ
برقَّة الآن.

* شاعر ومترجم ــ القصائد والمقاطع من ترجمة لشعر كيرواك قيد الإنجاز