يبدو لقارئ رواية «نهاية الصحراء» (هاشيت أنطوان) للكاتب الجزائري سعيد خطيبي، أنّها تؤرّخ لحقبة مظلمة من تاريخ الجزائر. إلا أنّ المضمر، هو ميلها إلى منح الحياة لمن لم يملكوا أصواتاً آنذاك، ولمَن قضوا أعمارهم على الهامش، وشكّلوا نواة صراعاتٍ خلّفتها الحرب ما بعد الاستقلال. تُغطي الرواية مساحة زمنية لفترة ما بعد التحرير، حين وجد الشعب نفسه بعد معارك طويلة منتصراً ضد الاستعمار، ومشتتاً أمام النخب العسكرية والسياسية. يبدأ السردُ بجريمة حصلت أوائل خريف عام 1988، مفضياً إلى خلّبية أحلام الجزائريين، إذ خالوا أنهم سيحيون في بلادٍ مطمئنة، إلا أنّ الواقع فاجأهم، بعد ترك الاستعمارِ البلادَ جثةً هامدة، مخلّفاً بؤراً من التشتت، وزارعاً في الصدور ما يشبه قنابل موقوتة بالأحقاد الطائفية والطبقية. «وُجِدت زكية زغواني جثة ملقاةً في أول الصحراء، وبدأتُ رحلة البحث عن قصة موتها». من هنا يبدو موت مغنية «فندق الصحراء» لمالكه ميمون بلعسل الرابط بين حكايات المدينة المهملة، حيث لا سرّ يُحفَظ، وحيث تنمو النميمة بين جدرانها كهرمونٍ يُنعش الألسنة. فالمغنية، صبية هاربة من جور عائلتها إلى الحرية، تُوقع في شباكها الكثير من أبطال الرواية. يحبها الجميع، لكنّها تؤثر قلبها للشاب بشير لبطم، العاجز عن تجاوز العرفِ والاقتران بها، لتقع في قلب تلك الدوامة أحجية موتها الغامضة، فيما تنوء المدينة تحت ثقل تبعات الحرب الآفلة.

تتوازن الأصوات في الرواية، يُعلي بعضهم من أحقاده، فيما يريم الصمت على آخرين. وهنا تظهر الفنّية في توظيف التاريخ لخدمة الحدث السردي المتخيّل، بغية خلق ما يُحرك الذاكرة إزاء ما كان عليه الحال بعد الاستقلال عن الفرنسيين. فقد خرجوا، لكنهم تركوا في القلوب ما لا يقدر الزمن على محوه سوى بثوراتٍ متلاحقة. وإذا ما عددنا الأصوات، نجدها هي ذاتها في كل حرب، وكل زمن... أصوات أشخاصٍ مهمّشين، ومتخمين بالخسارات، ومحكومين بآثامِ العيش في أمكنةٍ تضنّ بالحياة. هذا ما يحصل لإبراهيم درّاس، الجامعي الحالم بمعرفة اسم أبيه، ذلك أنه أمضى حياته ينوس بين أرجاء المدينة باحثاً عن قبره، أو شخص يملك ما يكذِّب اتهامات أهل السوق بكونه ابناً لبيّاعٍ خائن. تلك العبارات التي يكتبونها على الجدران، تجعله يبدو كمن يصارع العالم، فضلاً عن والدةٍ تعيب عليه العمل في بيع أفلام السينما؛ تلك المساحة التي تشكل متنفّسه الوحيد، وتتيح له فسحةً للحياة مع عشيقاته وممارسة ما أراد يوماً أن يكونه كصاحب صوت عذب، ليمسيَ غناؤه سبيلاً للمواربة عن أساه الذاتي، وعن حرمانه من حقوقه كسائر أبناء المقاتلين في الحرب، ومنعه من العمل في مؤسسات الدولة، وهروبه من الجندية بذرائع الدراسة والعمل.
«في هذي البلاد الحوت يأكل الحوت.. وقليل الجهد يموت» بهذه العبارة تتلخّص الأحقاد بين شخوص الرواية، في فضاء يكشف عن جغرافيا صحراوية يحيل إليها الكاتب، بما يجعل أي مدينة في البلاد تصلح مكانها. فنجد كنيسة تتحول إلى متحف، وفرنسيين اختاروا البقاء بعد التحرير ورفضوا تنسيب أطفالهم لمدارس العرب، مسلمين تنصّروا، ونصارى أسلموا طمعاً وحذراً. هكذا تسود فوضى الاعتقاد، وهشاشة الانتماءات. تسكن الجميع حمى التسلط، وهو أمر يحدث عندما يغيب في آفاقهم فهمٌ لغطاء يحمي، أو قانون يردع. لذا يبدو المشهد كمن يحيا في غابةٍ، حيث التسلط سيد المواقف، والجريمة تغلّف عتمة الليالي، وجثث الفتيات المغتصبات، والرؤوس الملقاة على زوايا المروج المهملة، صورٌ معتادة لأخبار الصحف الصباحية.
يشكل المرج اللاحق بالمدينة رمزاً لكل ما هو منزوٍ وهامشي، إذ يشبهه موظفو البلديات بالزائدة الدودية، ففيه يقطن الفقراء والمساكين؛ الحالمون بحنو الحياة. وهناك يجد عاشور جثة المغنية، ويحقَق معه لمعرفة أسباب موتها بطريقة فظة. لكنّ الحياة لا تترك له الإجابات، فملابسه والصورة التي يحيا عليها مع عائلته تجيب للمفتش: «لم أجد شيئاً يستحق الذكر.. فحياتي حياة مقهور». تنمو خيوط الجريمة وتتشابك لتصل حياة المفتش الخاصة؛ فالضابط حميد يبدو على علاقة سرية بالميتة، وهو لم ينجُ كضحيةِ فسادٍ وظيفي لغاية استغلال المناصب، فيُرحّل إلى المدينة الصحراوية، ويبدأ معركته مع خطاياها، من دون أن يعلم أنه أرسِل للزواج من إحدى فتياتها، والعيش لهِفاً للقاء مغنية الفندق. تحتلّ النساء جانباً من سيرة الألم، إذ تخرج أمهات يتربصن بمستقبل أبنائهن، إلى جانب محاميات تمرّدن على عالمهن، وبقين عالقاتٍ في دوامة الأحكام المسبقة والطعن في تأخرهن عن الزواج. فالمحامية نورة تتولى الدفاع عن بشير لبطم، المتهم بقتل المغنية، تبرز أشجانها أثناء سعيها للتفرد والاختلاف عن باقي فتيات المدينة، فيما تحلم المحامية حسينة كذلك بالخلاص والزواج من أي رجل في العاصمة. هكذا يخرج القهر عبر استرجاع سيرهن الذاتية، كما سيرة زكية الميتة الحية، إذ تربط بموتها أحوالهن في مكان منع عنهن أبسط أسباب الحياة، وتحت سلطة عجزت عن إدارة ما تبقى من البلاد.
يسود الضياع، ويفقد أهل المدينة بوصلتهم. يودَع بشير السجنَ في صورة شبه مفلسة، إذ لا يتضح وجود متهم آخر، ويبقى إبراهيم في دوامة بحثه عن براءة أبيه. حتى العائدون من دول الغرب إلى بلادهم، يأخذون نصيبهم، ويغتالهم نقص الأغذية، والافتقار للأدوية، والجوع الذي أحال المدينة إلى مكان ممسوس. أما كمال، موظف الاستقبال في الفندق، فيبدو محكوماً باللهاث لحيازة السطوة والمكانة، ليُذاع على الألسن أخبار إضراب قادم، وتتعقد قصة مقتل زكية، لتطال مالك الفندق حين يثبت تورّطه في إخفاء قصة والد إبراهيم، ويمضي لياليهِ أرِقاً من مقتل مغنيته الأثيرة. هكذا تسكن الهواجس حيوات الجميع، فلا أحد بريء، كما أن لا أحد قاتل، وهكذا تصنع الفوضى أكثر الفترات حرجاً في تاريخ البلاد، بصورة تكسر من عنفوان الشعب، وتقضي على تفاؤلهم، وتؤرخ سيرة البسطاء في بحثهم الدائب عن معنى عيشهم المفقود.
«تكادُ هذه المدينة تصير عاصمةً للمتسولين» من هنا يطرح الكاتب تساؤلاته عبر الرواية؛ فما هو معنى الدولة؟ وأين اختفت النخب التي راحت تحسم صراعاتها بعيداً عن الشعب؟ وهل من يحاسب مهدري قدرات الشباب ومالئي المدن بمقابر المجهولين؟ كله يُطرح كتجربة سردية لما يلي تاريخ ثورة أبهرت العالم، إذ يتسولُ الناجونَ حيواتِهم من تبعاتها، فالموجَع بالسجن ظلماً يتوق إلى حريته، والفاقد لمدفن أبيه يتسول نظرات القبول والرضا، والأمهات المكلومات يتسوّلن الهروب من القهر، في وقت يُعرفُ فيه اسم القاتل، ويشتعل حراك شعبي يفضي إلى إضراب عام. وتحت ستار الفوضى وغياب القانون، يدرك الجميع خلّبية شعارات النخب الحاكمة، ويعلمون أنهم لم يكونوا في تلك المرحلة، على حد تعبير الكاتب، سوى جماعاتِ جرادٍ مبتور الأجنحة.