يحدثنا غوستاف دالمان في كتابه الثمين «العمل والعادات في فلسطين» عن طقس خاص جداً من مدينة الخليل، يدعى: نَسّ البنات. «في ما يخص البنات في الخليل، فإن السبت أو الخميس الذي قبل الفصح هو يوم «نَسّ البنات» في الكروم. فهن يذهب للتنزه (بِشْطَحوا)، ويركبن المراجيح التي يعلقنها على الأشجار، ويأكلن خضرة الطبيعة، ويرقصن الدبكة. وفي السابق يفترض أن الشباب كانوا يشاركون في هذا. لكنّ شيخاً أفتى بمنع ذلك... ويقول الواحد عن هذا: بنيْسوا الأواعي، حيث إن الجذر نس قد يكون مرتبطاً بنيسان، وبذا يمكن ترجمته على أنه يعني: «إقامة [عمل] نيسان بالأشياء»» (1)النص للأسف قصير جداً، ولا يقدم لنا وصفاً إضافياً للطقس. ويبدو أن غوستاف لم يشهده شخصياً، بل سمع عنه سماعاً من بعيد. لذا ففي النص قدر من الغموض. أما التعبيران الأساسيان في النص فهما:
1- نسّ البنات
2- بِنَيْسوا الأواعي. والأواعي هي الملابس باللهجة الفلسطينية. هذا إذا كان نقل دالمان للكلمة صحيحاً.
أما دالمان، فقد ربط الطقس بعيد «شم النسيم» في مصر الذي يتوافق مع «عيد النيروز». لكن لا شيء في وصفه للعيد أو الطقس يوحي بذلك. شم النسيم. وشهر نيسان، الذي يدعى في فلسطين باسم «شهر الخميس» مليء بالأعياد والطقوس. على كل أي، فحين عرض دالمان لكلمة «نسّ» في الاسم، افترض أنها أتت من نيسان، باعتبار أن الطقس يجري في نيسان. أي أن تعبير «بنيسوا» يعني بشكل ما أن البنات «ينيّسن»، أي يقمن طقس نيسان. والحق أن هذا غير مقنع بالمرة في ما يبدو لي. ولو كان هذا صحيحاً، لقيل «بنيسنوا» أو «بنيّسن». أي لما حُذفت النون الثانية. بذا فاقتراح دالمان لا يحل لنا مسألة «النس» في الطقس.
انطلاقاً من ذلك، وفي غياب معلومات أخرى عن الطقس، يبدو أن علينا الذهاب للجذر (نسس) لكي نفهم «نسّ البنات» وتنييس الأواعي، أي الملابس. وفي العامية الفلسطينية، فالناس يستعملون تعبير: «بينِس نسّ» بمعنى يذهب مسرعاً من دون أن يشعر به أحد، أو محاولاً ألا يشعر به أحد. وهذا يتوافق على الأقل مع القواميس. فالنس سير سريع ما فيها: «الليث: النس لزوم المضاء في كل أمر، وهو سرعة الذهاب لورد الماء خاصة.... أما النسّ فإن شمراً قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: النس: السوق الشديد، والتنساس السير الشديد» (لسان العرب).
وإن كان المعنى العامي هو المقصود في «نس البنات»، فهو يشير إلى أن البنات في هذا العين يخرجن مسرعات متخفّيات، أو شبه متخفّيات، إلى الطبيعة للقيام باحتفالهن الخاص. أي أنهن عملياً يخرجن من دون علم الأهل، أو يحاولن أن يظهرن كذلك. إنهن يغادرن البيت على الضد من رغبة الأهل، أو أنهن يتظاهرن بذلك. بالتالي، فالجذر يتيح لنا افتراض أن جملة «نس البنات» تعني: خروج البنات نسّأ، أي بقدر من التخفي.
غي أن الجذر «نسس» أوسع من ذلك. فهو يعني الطرد والإبعاد: «قال أبو النجم: ونسَّ وغراتُ المصيف العقربا. نس: طرد. ووغرة الحر: شدته. يقول: جاء الصيف، فخرجت الهوام» (ابن قتيبة، المعاني الكبير). والمعنى الأدق لشطر أبي النجم في ظني هو أن حرارة الصيف تُخرج العقارب من أوكارها، أو تطردها من أوكارها. وهذا يتوافق مع فكرة أن الاسم يعني: خروج البنات. لكن النس في البيت، قد يعني الطرد أيضاً. وهو معنى تؤكد عليه القواميس التي تقول إن النس هو الطرد والزجر: «في الصحاح: النس: الزجر. وقد نسّها نساً. قاله الجوهري: كالنسنسة فيهما. وقال شمر: نسنس ونسّ، مثل نشنش ونشّ، وذلك إذا ساق وطرد. وقال الكسائي: نسست الناقة والشاة أنسّها نساً: إذا زجرتها فقلت لها: إس إس... والنس: اليبس» (الزبيدي، تاج العروس). بذا فقد يكون معنى «نس البنات» إخراج البنات من بيوتهن. أي عملياً طردهن من بيوتهن، وزجرهن عن أن يقعدن في هذه البيوت. وهذا يعني أن الأهل هم عملياً من يخرجون البنات من البيوت. وهذا أيضاً أمر يمكن فهمه. فهن قد بلغن سن الزواج، وقد جاء الوقت كي يتدبرن عرساناً لهن. أي عليهن أن يهيّئن أنفسهن لمغادرة بيت الأهل إلى بيت الزوج. بذا، فطقس نس البنات هو بروفة لما سيحصل مستقبلاً، أو استعداد لما سيحصل مستقبلاً. إنه إخراج رمزي للبنات من بيوت الآباء.
أما في ما يخص تنييس الأواعي- الملابس، فيبدو أنه اشتقاق من المعنى الذي نتحدث عنه. ويقال إنّ ملابس البنات كانت تُنقع في ماء الزهور والأغصان ربما لإعطائها ريحاً طيبة. لكن ربما أيضاً لكي تبدو ملابس جديدة. أي أنها لن تكون ملابس بيوت الأهل بعد، بل ملابس الخروج من البيت.
عليه، فنسّ البنات طقس النضوج الجنسي، والخروج رمزياً من بيوت الأهل للبحث عن زوج وبيت آخر.

نوّار الغبيراء
لعل لطقس نس البنات أن يكون على علاقة بطقس الغبيراء الذي حدثتنا عنه بعض المصادر العربية الكلاسيكية. فعندما تُخرج شجرة الغبيراء نوّارها، تعمد نساء مدينة «هراة» إلى الطبيعة وحدهن، ويمارسن طقساً مشابهاً. والوصف المقدم للطقس ينضح بالرغبة الجنسية، أي أنه ملوّن ومبالغ فيه قليلاً، لكن إشارة الخصب فيه سليمة. يقول المقدسي في «أحسن التقاسيم» عن طقس نساء هراة: «ويقال إن نساءهم يغتلمن إذا أزهرت أشجار الغبيراء كما تغتلم السنانير [القطط])». ويضيف ياقوت الحموي في «معجم البلدان»: «ويقال إن نساءهم يغتلمن إذا أزهرت الغبيراء كما تغتلم القطاط». ويؤكد القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد» الأمر بقوله: «قالوا: إن نساءها يغتلمن إذا زهرت الغبيراء كما تغتلم السنانير».
غير أن القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد» يخبرنا أنّ الأمر لا يتعلق ببلاد فارس وحدها. فالطقس ذاته يمارَس في «بلد باشاي» في الموصل العراقية: «قرية من أعمال الموصل يقال لها بلد باشاي. حكى الشيخ عمر التسليمي، وكان من أهل التصوف، قال: وصلت إلى هذه القرية، فلما كان وقت خروج نور الغبيراء اهتاج بنسائها شهوة الوقاع، يستحْيين من ذلك لغلبة الشهوة ولا قدرة للرجال على قضاء أوطارهن. فعند ذلك أُخرجن إلى واد بقرب الضيعة، وهن بها كالسنانير عند هيجانها، إلى أن انقضت مدتهن ثم تراجعن إلى بيوتهن وقد عاد إليهن التمييز! قال: وسمعت أن كل سنة في هذا الوقت تحدث بهن هذه الحالة».
قد يكون معنى «نس البنات» إخراج البنات من بيوتهن


وهكذا تفقد نساء الموصل عقولهن عند تزهير الغبيراء، ثم يعود لهن «التمييز» والعقل، بعد أن ينتهي الطقس. أما الغبيراء، فشجرة شهيرة جداً. وقد ورد ذكرها في حديث نبوي، دار حوله جدل كبير في المصادر العربية: «إياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم». ويبدو لنا أنه كان يُصنع من الثمار الحمراء لهذه الشجرة خمرة محددة. وبالفعل، فهناك طراز من الخمر يدعى «الغبيراء». وهي خمر يختلف عليها، ويقال إنها من الذرة. لكنّ ثعلباً يخبرنا أنها: «خمر تُعمل من الغبيراء» (لسان العرب). وهذا هو الأصح في رأينا.
وإذا كان هناك من علاقة بين طقس «نس البنات» و«طقس الغبيراء»، فهو طقس أنثوي صافٍ لا يشارك فيه الرجال مطلقاً. وهو ما ينفي ما ذكره دالمان من أن الرجال كانوا يشاركون في الطقس إلى أن أفتى شيخ ما بتحريم مشاركتهم.

(1): غوستاف دولمان، العمل والعمال في فلسطين، مجلد ½، ص 445-445، بالإنكليزية، دار الناشر، 2013. وكان الكتاب قد صدر بالألمانية عام 1928، وتُرجم جزء منه حديثاً إلى الإنكليزية وصدر عن «دار الناشر- رام الله». ويبدو أن ترجمته العربية ستصدر في وقت غير بعيد.

* شاعر فلسطيني