كتاب أكثر من ضروري للمكتبة العربية هو «مزاج الباشا» (دار صفصافة ـ مصر ـ 2022) لمحمود خيرالله الذي يرصد تاريخ تطوّر الخمر عبر العصور ثقافةً وأدباً وتشابكاً مع المجتمع والسياسة والتعايش السهل أو الصعب بين مكونات البيئة الاجتماعية والدينية وحدود الإباحة والحظر، وارتباط المشروب بالرفاه المعيشي منذ أقدم العصور وصولاً إلى سعي السلفيّين المعاصرين إلى محاولة تصوير مجتمع السّلف الصالح مساحة طهرانية لا وجود فيها لمتع الذوق والحسّ واللّسان. يُعلن الكاتب والباحث المصري بذكاء وشجاعة منذ بداية الكتاب أنّ «الطريقة المثلى لمواجهة التكفير السلفي السائد في الذهنية العربية هي الهجوم عليه في عقر داره»، لإثبات أنّ تلك الفترة الذهبية كانت زاخرة بكل تلك المتع، وأسّست لثقافة لم تكن تُعير شأناً للكثير من المحظورات التي يتمترس خلفها المتزمتون اليوم... «هل يصلح الخمر مقياساً لمدى حرية ورفاهة حياة الناس أم لا؟. عن نفسي أعتبره مقياساً أساسياً لفهم التاريخ الوجداني لقطاعات واسعة من المجتمعات العربية، خصوصاً تلك الفئة التي تتعالى عليها كتب التاريخ ويستبعدها الفلاسفة والمفكرون من مشاريعهم». عن «مزاج الباشا» والمقاربة الجريئة المطروحة في الكتاب، كان هذا الحوار

بدأتَ الكتاب بمقاربة جريئة مفادها أنّ الطريقة المثلى لمواجهة التكفير السلفي السائد في الذهنية العربية هي الهجوم عليه في عقر داره، كيف تشرح ذلك؟
ــــ في ظني، تعتبر القراءة غير الدقيقة لحولياتنا التاريخية سبباً رئيسياً ـ من بين أسباب كثيرة ـ لإخفاق مشروع النهضة العربي، وما ترتب عليه من إخفاق لأحلام التحرّر والتقدم في بلادنا والإخفاق في «مشروع التنوير»، الذي انتهى إلى استعارة مفهوم النهضة ودلالاته من التراث الفكري الأوروبي في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، متعامياً عما لدينا من الجذور التي نبتت في المدن العربية القديمة، وكان يمكن البناء عليها في صنع نهضة بسماتٍ عربية.


كذلك، أدت هذه القراءة غير الدقيقة لتاريخنا إلى الإخفاق في «مشروع تجديد الخطاب الديني»، حيث اعتمدنا على قراءات مدرسية مغلوطة ومُتسرعة ومُبتسرة للمقريزي وابن إياس وعبدالرحمن الجبرتي ورفاعة الطهطاوي، وبنينا عليها تصورات ـ منقوصة ومتسرعة أيضاً ـ عن أحوال جدودنا المجتمعية، متصوّرين أنهم كانوا جماعة متحفّظة ومتجهّمة ومغلقة على نفسها، وهذا تصوّر نمطي وغير صحيح على الأقل في مصر والشام بما عرفتا من حضارات قديمة، كأننا لم نر في كتابات مؤرخينا المعتمدين وتسجيلاتهم، ما يستحق فعلاً أن يُرى. أقصد لم نعرف إجابة على السؤال الأهم: كيف بحث الناس عبر العصور عن الحرية والمتعة؟ ولو كانت جماعات من الناس ارتضت في كلّ الأزمنة فكرة أن الخمور شيء يحقّق قدراً لا يستهان به من الحرية والمتعة، بحيث ظلت تجارتها العلنية رائجة منذ عصور ما قبل الميلاد وحتى يومنا هذا، إلا أن كل ذلك لن يكون كافياً ليدرس الباحثون هذا الارتباط بين حرية الناس وشرب الخمور، وهل يصلح الخمر مقياساً لقياس مدى حرية ورفاهة حياة الناس أم لا؟؟. عن نفسي أعتبره مقياساً أساسياً لفهم التاريخ الوجداني لقطاعات واسعة من المجتمعات العربية، خصوصاً تلك الفئة التي تتعالى عليها كتب التاريخ ويستبعدها الفلاسفة والمفكرون من مشاريعهم، وقد كتبت «مزاج الباشا تطور ثقافة الخمور في مصر» لتقديم إجابتي تحديداً على هذا السؤال.

ما الفكرة المضادة التي يمكن أن يثبتها الماضي التراثي عند مقاربة ثقافة الخمر؟
ـــــ الفكرة التي يثبتها الكتاب أنّ الخمور كانت مقدسة في مصر القديمة، وسائدة في المجتمع الإسلامي الأول، مثلما كانت سائدة قبله، وحضارة «اليمن السعيد» كانت مبدعة في صناعة الخمور كما نعرف. لكن الأكثر سخرية أن الفكرة المضادة في هذا الكتاب هو أن تجارة الخمور توسعت في أوائل حكم الدولة الإسلامية، كنتيجة طبيعية لدخول جيوش المسلمين بلاد الشام ومصر، أكثر بلاد المنطقة إتجاراً بالخمور عبر البحر المتوسط. إذ فرض عمرو بن العاص في مصر الضريبة على الخمور بنفس القيمة والمخصّصات التي كانت تحصِّلها الدولة الرومانية عن الخمور. كما استعان بجباة الضرائب أنفسهم الذين تعاونوا مع الدولة الرومانية التي كانت تستعمر مصر وأجزاء من الشام لحظة دخول الإسلام، وحيث أقرّ المسلمون على الخمور ضريبة تعادل ما أقروه من ضريبة على العسل، أحد أشهر المنتجات المصرية وقتها. هذا الكتاب يُزعزع الصورة النمطية التي رسمتها كتب التاريخ الرسمية وعزّزتها كتب الفقه بالكثير من الكذب والخيال... تلك الصورة المضحكة التي ترى أن المسلمين جاؤوا فقط لينشروا الدين، وفي الحقيقة هم كانوا في ضيق شديد وبحاجة ماسة إلى مصر، التي وصفها النص القرآني على لسان يوسف: «قال اجعلني على خزائن الأرض». هذه هي مصر التي يجري في أرضها أحد «أنهار الجنة». والدليل أنّ «خليج أمير المؤمنين» عمر بن الخطاب حفر فيها ــ بعد دخول الإسلام بعامَين اثنين فقط ـــــ قناة فرعية من نهر النيل كانت تصبّ في البحر الأحمر، وبقي ذكرها في اسم أحد أهم شوارع القاهرة «فم الخليج» ـــ لنقل البضائع المصرية طازجة إلى «المدينة المنورة» مقر الخلافة. هذا الكتاب يريد أن يثبت أن العرب ــــ الذين سمحوا للفقهاء بالاختلاف بين تحريم وإتاحة الخمور ـــــ لم يجدوا أي غضاضة في جمع أموال الضريبة المدفوعة عن تجارة الخمور الرائجة في مصر والشام، وأرسلوا بها إلى «بيت مال المسلمين». إذ طالب الخليفة عمر بن الخطاب ـ في خطابات ورد نصها في «فتوح مصر والمغرب» لابن عبدالحكم القرشي 250 هجرية ـــ بالتعجيل بأول قافلة تأتيه من مصر، فرد بن العاص عليه: «أرسل لك قافلة أولها عندك وآخرها عندي». وهل المطلوب منا اليوم أن نصدق أنّ خليفة المسلمين عمر بن الخطاب لم يكن يعرف أن الخمور حرام ليرسل عوائد ضرائبها إلى بيت مال المسلمين؟ من الضروري اليوم أن نجيب عن هذه الأسئلة خلال تأملنا لحظة دخول الإسلام بلادنا، لأنها أسئلة مستبعدة من تاريخنا تماماً، وها هي الأحداث تجبرنا على مواجهة العقل السلفي بماضيه الحقيقي، الذي تمّت تغطيته عبر العصور.

تقول في «مزاج الباشا» إن البحث في تاريخ الخمور محاولة لاكتشاف الوجه الروحي الرحيم - غير الدموي - من تاريخ البشر. هلا شرحت لنا أكثر حول هذه النقطة؟
ـ طبعاً، المعروف في العالم أن ثقافة احتساء الخمور هي المعادل الاجتماعي لفكرة التسامح، لأن فئة من كل الطوائف والملل والنحل والأديان قد تلتقي في أي مشرب، وواقع وجود بيوت احتساء البيرة في مصر القديمة وامتداد الظاهرة إلى العصور اللاحقة مع الفتح الإسلامي وما بعده، يشير إلى أن اجتماع فئة من أديان مختلفة أو أصول اجتماعية متباينة لتناول الخمور في أي بار عبر التاريخ، جعل الخمر في الفهم الشعبي كأنه قوة سحرية عليا فوق الطائفية والعرقية والدين، ما يجعلنا نظن أن بيوت احتساء الخمور شكلت عبر التاريخ وفي لحظات الاستقرار السياسي، مناطق سلام اجتماعي آمنة. كما مثلت في فترات الالتهابات السياسية محاور نزاع من دون أدنى شك.

هل بدأت بواكير ثقافة الخمر في الظهور في مصر القديمة في إطار ديني «قدسي»، أم في إطار «مدني» حيث تربط في مكان ما المدنية بقدرة المواطن القديم على استهلاك الجعة مثلاً؟
ـ بدأت في إطار ديني، لكنها سرعان ما تحولت إلى مشروب للصغار والكبار والموتى. بدأت «مقدسة» وانتهت «مدنسة» بطريقة ما. لكنها في كل الأحوال شغلت البشرية طويلاً، قبل أن تصبح سراً دنيوياً، وفي ظني أن بيوت احتساء البيرة في مصر القديمة لم تكن تلبي الاحتياج المجتمعي لاستهلاك الخمور فقط، بل تلبي أيضاً حاجته وشوقه العميق إلى الحرية بمعناها العام لا السياسي. والإجابة على سؤالك ترد في كتاب «رسائل نساء من مصر القديمة»، وتحديداً بين سطور رسالة امرأة تدير حانة، تتوجه فيها إلى قائد المدينة وتشكو له هروب ابنتها ـ التي تساعدها في إدارة مخزن البيرة ـ مع أحد تجار النبيذ. هذا التقدير الذي تحظى به تجارة الخمور في هذا الزمن ذو جذر ديني، لكن يقف وراءه مجتمع منفتح ومؤمن بالحريات العقيدية. كل هذا المناخ المفتوح ظلت تحرم منه مصر تدريجاً منذ دخول جيوش المسلمين، وإن كان الجميع عجزوا عن مواجهة انتشار الخمور في مصر، حيث ظلّت متاحة داخل سياق من الخفاء والريبة إلى أن فرضت الضريبة عليها. وباستثناء المناسبات والأعياد الإسلامية الكبرى بالإضافة إلى شهر رمضان، كانت الخمور سلعة رائجة في أغلب المدن العربية الكبرى منذ قرون بعيدة وإلى اليوم، وشكلت جانباً من جوانب التسامح الديني والعرقي والطائفي، ألا يجعلها كل ذلك وجهاً «غير منظور» من وجوه حداثتنا العربية المطمورة؟.

في الفصل الثالث، تتناول ثقافة الخمر في الجاهلية وتورد قصة طريفة عن سرقة غزال الكعبة الثمين وارتباطها بالخمر والسُكر. هل ألِف العرب الخمرة في الجاهلية وباتت ضمن نسق ثقافي للشخصية العربية قبل الإسلام؟
ــــ نعم، في ظروف الرخاء والازدهار، كانت الخمرة هاجساً عربياً أصيلاً، يكفي أنها كانت أحد أشهر أوصاف «الفتوة» و«الفروسية» و«الكرم». وهو ما يمكن أن نفهمه من رواية ابن كثير (كتاب «البداية والنهاية») لحكاية «وفد عاد» الذي كان سبباً في هلاك قبيلة عاد، قبل نزول الإسلام بسنوات طويلة. حكاية يرويها الرواة المسلمون، وتشير إلى أنه بعدما اشتد القحط بأهل عاد، اختاروا سبعين رجلاً منهم للذهاب إلى مكة المعروفة وقتها كبيت مقدس والدعاء والتضرع هناك، ليرسل الله المطر والفرج. كان سيد مكة إذاك معاوية ابن بكر. تقول الحكاية إن الوفد بقي في ضيافة معاوية لمدة شهر يشربون الخمر، حتى نسوا ما جاؤوا من أجله... إلى آخر الحكاية، ما يُشير إلى أن الروايات الإسلامية لم تكن تستبعد الخمر من تاريخ ما قبل الإسلام، حتى في مكة. ومع تزايد الفتوحات الإسلامية، زاد الشغف بالخمور في المجتمعات العربية، وما تراثنا في شعر «الخمريات»، وحديثنا عن أبي نواس وخمرياته المشهورة في القرن الثاني الهجري، سوى الصدى الذي يمكن تلمسه في هذا التراث الثقافي العربي الغني بالميل إلى الطرب والغناء والرقص والخلاعة.
كانت الخمور سلعة رائجة في أغلب المدن العربية الكبرى منذ قرون بعيدة وإلى اليوم، وشكلت جانباً من جوانب التسامح الديني والعرقي والطائفي

وأنا لا أستطيع أن أصدق أن أبا نواس الشاعر الماجن، كان يسكر بمفرده، بل أستطيع أن أدّعي أن سكره وشعره جاءا نتيجة اشتباكه مع وسط اجتماعي مفتوح ومتسامح. وما وجود أبي نواس بشخصه في «ألف ليلة وليلة» مع الخمر والغلمان بصحبة هارون الرشيد سوى وجهة نظر الخيال الشعبي الفطري الذي قد يشير إلى زوايا مدهشة من الحقيقة التاريخية، بينما يسبح النص كله في خيالات خارج الواقع التاريخي أو بعيدة عن المألوف.

يتناول الفصل التالي الفتح الإسلامي لمصر تحديداً، وغضّ الطرف عن إنتاج النبيذ لأسباب تتعلّق بالخراج والجباية والضرائب والتجارة. هل نحن أمام براغماتية تغلّب الديني على الدنيوي، أم احترام لثقافة طويلة في التعامل مع قطاف العنب وعصر النبيذ ذكرها القرآن حتى في سورة يوسف؟
ـــــ نحن ـ بالأحرى ـ أمام براغماتية دولة مزدوجة ومُضلّلة. من ناحية تترك بعض الفقهاء يحرِّمون الخمور ويختلفون حول ما جاء بشأنها في النص القرآني، الذي ترك ـ بدوره ـ الأمر ملتبساً، رغم أنه لم يستخدم لفظ التحريم صراحة مع الخمر لكنه كرَّه الناس فيها. ومن الناحية الأخرى، تُرسل الدولة أموال ضرائب الخمور التي جُمعت من بسطاء مصر والشام إلى بيت «مال المسلمين»، من دون حتى أن تحتاج إلى نقاش فقهي. وربما دار مثل هذا النقاش لكنه لم يصلنا. على العكس، أي قراءة منصفة سوف تنتبه إلى ما ورد في «سورة يوسف» من إشارات لاحترام ثقافة شرب الخمور، حين كانت مصر القديمة تستطيع أن تحمي المنطقة من مجاعة، ويؤكد ذلك أيضاً ما ورد في نص الآية 67 من «سورة النحل»: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». بمعنى أنّ الخلاف حول الخمور يمكن أن يدور في شبه الجزيرة العربية، لكنه لا يصح أبداً أن يدور في مجتمع مصر القديمة. الملك المصري في قصة يوسف كان لا يتوقف عن شرب الخمر تقريباً، والساقي الذي يسقيه الخمر يصاحبه ويرشده ـ وهو الملك ـ إلى من يقرأ له الأحلام ويستطلع له المستقبل، أي أن ساقي الملك كان منصباً رفيعاً في الدولة المصرية القديمة.

أثناء بحثك في الأحاديث والمدونات الفقهية، هل استدللت إلى تحريم قاطع للخمر بجميع أنواعه؟ أم أنّ هناك مساحات رمادية يمكن أم تبرر ما شاع من أخبار الخمرة ومجالسها في التراث؟ وهل من دور للخلفاء والسلطة السياسية في إباحتها أو قمعها؟
ــــ لا لم يكن هدفي البحث عن تحريم قاطع للخمور، لأنني اعتقدت أن الصديق الكاتب اليمني علي المقري استوفى هذه النقطة في كتابه المهم «الخمر والنبيذ في الإسلام». دوري كان البحث في ما يمكن اعتباره وثيقة أو نقوشاً، والحقيقة أن حضارة الكتابة في مصر القديمة وفّرت لنا كنوزاً من الوثائق والنقوش وقطع الجرار الفخارية والبراميل التي لا تزال تحتفظ بآثار «الجعة». وبالتالي، يمكن أن نفهم كيف تصرّف أجدادنا في حرياتهم الشخصية، بينما التاريخ في شبه الجزيرة العربية ـ كما يعرف دارسوه ـ لا يعتمد على نقوش أو رسوم أثرية إلا في ما ندر، لأنه تاريخ يعتمد على مرويات تاريخية وكتب قديمة، ومنها كتاب «قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور» للرقيق القيرواني مثلاً، وهو مؤرخ وأديب من أهل «القيروان». وقد كان ساسياً، فقد عمل كاتباً للدولة «الصنهاجية» زهاء نصف قرن، وتوفى عام 420 هـ. هذا الكتاب يستحق أن يطبع في كل البلدان العربية ليرد على التيارات السلفية، ويجب أن يطبّق على طلاب «الأزهر الشريف»، وسوف يكون علامة من علامات الفقه الإسلامي «المستنير». فليس من المنطقي أن نخشى اليوم كلمات فقيه مات في القرن الخامس الهجري، إذا كنا نريد ـ فعلاً ـ أن نجدد الخطاب الديني.

كيف تطورت ثقافة الخمر في العصر المملوكي؟ وهل يمكن اعتباره عصر «مأسسة» ثقافة الخمر عبر الملاهي والحانات و«بيوت المزر»؟
ـــــ العصور المملوكية تبدأ من مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، مروراً بالمماليك البحرية، فالمماليك البرجية (الجراكسة)، فالمماليك العثمانية التي حكمت مصر تحت إشراف الباب العالي في الآستانة، وهي فترة تمتد من الربع الثاني من القرن السابع الهجري (منتصف القرن الثالث عشر الميلادي) وتستمر حتى الربع الأول من القرن الثالث عشر الهجري (آخر القرن الثامن عشر الميلادي تماماً)، وهي فترة طويلة نسبياً، تستطيع أن تقول عنها إنها فترة انتشار ثقافة الخمامير و«بيوت المزر». تم تنظيم تجارة الخمور لتسهيل الحصول على الضريبة، وقد أشرنا إلى أحد أشهر ملاهي القرن الثامن الهجري في مصر وهو «خزانة البنود»، التي لم تكن مجرد ملهى ليلي وبيت للدعارة ومشرب ومرقص فقط، بل ظهرت نتيجة «شراكة تضامنية» نادرة بين عدد من الخارجين على القانون هدفها كسر كل التابوهات الدينية والاجتماعية.

محمود خيرالله: كتابي المقبل بعنوان «العنب في المأثور الشعبي» وفي الأمثال والحكم والألغاز والقصص والحكايات الشعبية

وبالتالي حظيت هذه الشراكة بكثير من المناصرين وراغبي المتعة والمكاسب، بل أصبح منافسوها يريدون التخلص منها. وينتبه المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك» إلى أنّ «خزانة البنود» استمرت لسنوات طويلة تقدم خدماتها ولم تتعرض للإبادة، إلا حين أصبحت تمتلك قوة اجتماعية واقتصادية جاذبة، جعلت أكبر المنافسين يحقد عليها. في هذه الحالة، لا بد من أن تتدخل السلطة للحفاظ على علاقات الملكية السائدة، خصوصاً أن نائب السلطان ويدعى «آل ملك» كان صاحب تجارة، وقد ابتنى لنفسه داراً في ظاهر «الحسينية» وعمّرها وأنشأ بجانبها جامعاً وحماماً وربعاً وحوانيت وبقيت في نفسه حزازات من أصحاب «خزانة البنود». يقول المقريزي: «نزل إلى القاهرة ومعه الحاجب وعدة من أصحاب النائب وهجموا على خزانة البنود، وأخرجوا جميع سكانها وكسروا أواني الخمر، فكانت شيئاً يجل وصفه كثرة... فكان يوم هدم «خزانة البنود» يوماً مشهوداً من الأيام المشهورة المذكورة، عَدَلَ هدمها فتح طرابلس وعكا، لكثرة ما كان يعمل فيها بمعاصي الله».

حملة نابوليون على مصر شكلت نقطة مفصلية في تاريخ البلاد الثقافي، وعدّت الخمور نقطة سجالية بين من يريد أن يجعل من القاهرة «باريس صغيرة في الشرق» وأهالي البلاد وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الأزهرية. كيف انتهى هذا «الكباش» الثقافي والاجتماعي بين الطرفين؟
ـ أختلف معك في أنّ المصريين جميعاً ـ الآن وفي أي وقت مضى ـ يملكون ما تسميه «عادات وتقاليد وثقافة أزهرية»، بدليل أنّ أول بار تأسّس في مصر في عهد الحملة الفرنسية (1798 ـ 1801) وعلى الطراز الأوروبي كان يحمل اسم «بار المشهد الحسيني»، لأنه كان قريباً من «مسجد الحسين»، وما رواه المؤرخون عنه يُشير إلى أنه كان حلقة الوصل بين المصريين والفرنسيين. لكن الأهم أن الفرنسيين لم يأتوا لينشروا الخمور في مصر، بالعكس حين وصلوا، وجدوا «يني الخمار» وهو ملتزم سداد ضريبة الخمور. كما وجد الفرنسيون كثرة غالبة من المصريين يشربون الحشيش، فشربوه مثلهم وأحبوه وأخذوه معهم إلى بلادهم، ومنها انتشر في أنحاء أوروبا. لكن قيادات الحملة حاولوا إقناع المصريين بالتخلي عن تناول الحشيش لصالح الخمور، لكنهم فشلوا في ذلك. كما أن بونابرت حاول دخول الإسلام، لكن علماء الأزهر رفضوا أن يعلنوه مسلماً لأنهم لم يصدقوا إسلامه، وليس بسبب عدم توقفه عن شرب الخمر.

في الفصل المعنون «مزاج الباشا»، رصدت تعامل محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة مع الخمور والمتع الأخرى كالحشيش والمعجون إلى حد تعيين موظف هو «المعجونجي» بمرسوم ملكي. كيف يمكننا تقييم هذه السياسة؟
ــــ كما يعرف الجميع، محمد علي كان تاجر دخان ألبانياً. هو لا يعرف سوى المكاسب ولا يؤمن بالخسارة، وسياسته كانت تخدم مشاريعه، السياسية والعسكرية والتجارية والعمرانية، وبالتالي كان يتخذ القرارات السياسية التي تسمح له بالانتصار على أعدائه الإقليميين. وقد شرب محمد علي الخمور في شبابه، لكنه أكمل حياته شارباً للدخان ومهتماً بمزاجه الخاص، فقام بتعيين «معجونجي»، صاحب تفنّن في مهنته (صناعة القهوة المخلوطة بالأفيون). والباشا كان طموحاً لدرجة أنه سمح لجنوده ـ وفق رواية الجبرتي ـ بالإفطار في نهار رمضان أثناء الحرب على الوهابيين في شبه الجزيرة العربية عام 1815، وكان دخول الجنود للمدينة في رمضان، فسمح للعساكر والجنود المصريين بالإفطار والتدخين في نهار رمضان، كما سمح لجنوده بشرب الخمور داخل المعسكرات خلال الحملة على الشام 1831.

أين يتموضع هذا الكتاب في تجربتك الكتابية؟ وهل من مشاريع مشابهة في المستقبل القريب؟
ـ بالإضافة إلى مشروعي الشعري، إذ أستعد لإصدار ديواني السادس «بشر بأحجام دقيقة يكبرون في تجاعيدي»، يعتبر «مزاج الباشا» الكتاب الثاني في ثلاثية تهتم بالتاريخ الوجداني، الأول صدر في القاهرة 2016 بعنوان «بارات مصر قيام وانهيار دولة الأنس». أما الثالث فهو قيد الكتابة بعنوان «العنب في المأثور الشعبي». العمل محاولة للاقتراب من حالة الوجدان المصري حيال ثقافة العنب في الأمثال والحكم والألغاز والقصص والحكايات الشعبية، وفي «ألف ليلة وليلة». وكلها تشير إلى أن الوجدان المصري لا يزال يحتفي بالخمور ويقدِّرها ويتبناها ويعرف أدوارها، كنتيجة طبيعية لهذا التاريخ الثقافي للخمور في مصر وفي كثير من المجتمعات العربية.