في كتابه «البشر والسحالي» (الدار المصرية اللبنانية)، يطرح الكاتب المصري حسن عبد الموجود الكثيرَ من الأسئلة الجوهرية في الحياة، ويلقي الضوء عبر قصصه العشر، على مشهد الصراع الأزليّ بين البشر والحيوانات في قرية تبدو كأنها خارجة من الأساطير. لا يبدو الأمر ملحمياً، بل تخرج الواقعية بأشد لحظاتها سحراً، ويظهر الصراع سيد المشاهد. فكل قصة تعاين قضية مصيرية شائكة، إذ يجتاز الكاتب الوقت، ويعود بالزمن إلى الماضي، يدرك بفطنته ومعايشته الذاتية لفضاء الرواية، أن قرى مثل قرية «القصر» موبوءةٌ بالحكايات، وممهورة بالخرافة. لذا يتناوب الأبطال سردَ الأحداث. تبدأ القصة الأولى «الخنزير» على لسان طفل يكشف عن مكانٍ يحكمه الجهل والتعصب. فحياته في قرية تحرّم مخالطة النصارى، أو أكل أطعمتهم، زاد من رغبته في تذوق لحم الخنزير، والتلذذ برائحته المنبعثة من بيوت الجيران: «حين تهب رائحة شوربة الخنزير، تصدر معدتي أصوات حب متلاحقة، وأفكر للمرة الألف أن أغافل أمي».


وعبر هذه المشاعر المربكة، تتزاحم الأسئلة، ويتمسك بالرغبة لفعل «المعصية». يحلم بارتكاب ما لم يقم به فرد من أفراد القرية، ويتشبّع فضولاً لمعاينة الخطايا عن كثب. وهنا يظهر الوازع الديني، والتسلط الاجتماعي في كبت سلوك الأفراد، فالطفل يحلم بمضغ قطعة اللحم المحرمة، وقد أعجبه مذاقها، فلمَ يُحرّمُ عليه؟ تختلط المبادئ، وتجري أحاديث سرية مع نفسه: كيف سيحبه الله إن لم يتب؟ وكيف سيشعر بالتوبة إن لم يتذوق ما هو محرم؟ إذن يُجمع على ارتكابها مع تزايد شعوره بالضغط إزاء نمو مشاعر غير مفهومة تجاه ابنة العائلة المسيحية. هكذا تنتصر الرغبة في تجريب الممنوع، وتظهر محنة البشر في رسم طرق خلاصهم الذاتية، وصنع فهمهم الخالص لما منعوا عنهم وأحجموا عن ممارسته. لذا، يتسلّل خفية إلى الجيران، ويجلس على مائدتهم، ويشهق حين يأتيه الطبق: «نسيتُ مها، نسيتُ الحب، كنتُ أفكر في مذاق أول قضمة من الخطيئة» في مشهد يصورُ محنة الإنسان الأزلية مع الموروث، وأزمته في التعاطي مع المحرمات.
تتناوب القصص بعد ذلك لتعالج صراع الكائنات على الطعام، كما على الوجود. الفقر في القرية، وببعض من الهزل، يصورُ في قصة «السحلية» دور الخرافة في ترسيخ الوهم، إذ تعالَج الحوادث فيها بالتعويذات، وتخرج أصوات الحيوانات منها، وهي تعايش ظلم بشرٍ أدخلوها عنوة، ليس فقط في يومياتهم المضنية، بل في قصّ معجزاتهم ونبوءاتهم. إلا أن الواقع غالباً ما ينتصر على الخرافة، فالهدهد والنمل والسحالي وغيرها من كائنات اعتادت العيش إلى جانب البشر، باتت تدرك أن لا وجود لها إلا على حساب الآخر، كما لو أراد الكاتب عبر فكرة التوحش تلك تفكيكَ العلاقات في عالم البشر أيضاً. فلكل جوعٍ ساكت ثمنه من الآلام، ولكل معجزة، كما للطفل الذي حلم بالنبوة، سبيلٌ لكمّ أفواه الجوعى، وسدِّ رمق المساكين. يخرجَ الفقر كملحمةٍ، وينبذَ صوتُ الطفل الأعراف السائدة، بكثير من الرقة في بعض المشاهد، وبشيء من العنف أيضاً. يعرض الكاتب دور الموروث في تكوين سلوك الفرد، ليقول بأفعالٍ تهبط إلى ما هو أقسى من عالم الحيوانات الغارقة بالغريزة. فالطائفية لا تقل خطراً عن اقتناص نمرٍ لطريدة أضعف منه وأدنى في سلم الكائنات، والغطرسة عنف موازٍ لتمزيق تمساح لما يسقط في مياهه، كما أن مطاردة مجموعة أطفال أشقياء لسرب من فراشات ونزع جوانحها وتعذيبها، شبيه بمطاردة كلاب شاردة لرجلٍ عاجز وكفيف كما في قصة «الأعمى». وكما هو حال الجدات اللواتي كدنَ يتسببن بالعمى لأحفادهن جراء إيمانهن بتطهير الملح للأعين، هكذا تشيع عدوى السلوك بين العالمين، وتتناوب القصص والأصوات لتصل إلى مقولتها الكبرى: هل من إمكانية لردم الهوة بين الكائنات؟ ومن المسؤول عن كل هذا التوحّش؟ يبدو نسج القصص سبيلاً لوصل ما تقطّعت أوصاله بين البشر أنفسهم، بلغة مدهشة تصيغ أنواع السموم العالقة بحيواتهم، وتهجو علاقاتهم التي سطّرتها الخرافة، كما في قصة المرأة التي علمت أنها ستلد قطاً، حيث تخرج الفنتازيا في تقبّلها لكائن مهمّش وغير مرغوب به، بل تدافع لهدم كل ما شيد من حواجز بين طفلها والآخرين، كأنما تريد ردم ما ارتفع بين البشر من حولها، بتحليل فني منظم، وتفكيك لبنى اجتماعية هشّة، وأنساق راسخة في ذاكرة جمعيةٍ ملأتها الأساطير بالوهم.
يصوّر في قصة «السحلية» دور الخرافة في ترسيخ الوهم


أما في قصته الأخيرة «تراب أبيض مقدّس»، فيحمّل البشرَ مسؤولية ما يحدث من انهيار أخلاقي، إذ تبدو مجموعة أصواتها كجوقة متناغمة لتقول بإمكانية البقاء، عبر الجمال والحب، فالحكايات التي تقف ككوابيس بين البشر وما يريدون تحقيقه، تشي بنقص كبير في حساسيتهم إزاء عالمهم، إنها تصنعهم على صورة كتل مغلفة بالوهم، وتدفع القارئ للتساؤل حيال حكم الإنسان العالمَ لقرون طويلة؛ أما آن أن يغير نظرته وعلاقته بالكائنات من حوله؟ قد يبدو الأمر كما لو أن الكاتب يقصّ حكايات بأصوات حيوانات وأطفال، ويقول بالغريزة والفطرة، إلا أن الخفي، هو قوله الواضح بدور الخيال في صناعة حياةٍ يحكمها الحق والجمال، وعالمٍ بعيد عن قسوة الآباء، لا يفكر أفراده بالسوء، بل ينثرون الخير، باستلهامٍ فني مطلق لشخوصه، ليس في شكل أمثولات ومواعظ، بل بصورة عالمٍ حجزت قصص الأحلام حيزاً كبيراً من تكوين كائناته. «قلوبنا عضلات صلبة ودماء، لكنها في نقاء الثلج. حياتنا رمادية، لكنّ عقولنا مشمسة، ننام باكين، لكننا نستيقظ مشرقين. نوزع الابتسامات على أنفسنا وحيواناتنا، لذا أرجوك أيتها الفراشات، كفّي عن التفكير في قوة آبائنا، لا تفكري في السوء، وانثري خيرك في كل مكان».