ذكرى بعيدة جداً، ولكنها ذكرى حيّة... أستعيدها الآن وكأنني أراها بالوضوح نفسه الذي أرى فيه هذه الفتاة التي تداعب مِن ساعة هاتفها النقّال على الطاولة المجاورة لطاولتي في المقهى.كانت إسرائيل لا تزال في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها.. وكنّا نلعب في ملعب المدرسة الابتدائية، عندما شاهدنا ثلاث أفاعٍ عملاقة، وبأجسام دخانية في أعالي السماء العميقة الزُّرقة. كانت رؤوس الأفاعي تلمع تحت أشعة الشمس، وأجسامها الغيمية تستطيل لمئات الأمتار، لتتلاشى شيئاً فشيئاً عند أذنابها.
لم نعرف أنّ هذه الكائنات العجيبة هي طائرات، فانتابتنا رعدة بدائية كتلك التي يمكن أن تكون قد اعترَت الإنسان الأوّل عندما رأى أوّل شهاب أو عاين انفجار أوّل بركان!
ولم يمضِ وقت طويل حتى وثب المعلّمون إلى الملعب، وهؤلاء أيضاً صُدموا واعتراهم ما اعترانا نحن التلاميذ من خبَل وذهول. لكنّ أحدهم صاح وهو يُشير بإصبعه إلى الأعلى:
• هذه طائرات!
وأردف معلّم آخَر:
• طائرات تجسّس إسرائيلية!
لقد مضى على هذه الحادثة أكثر من نصف قرن. وها هي الطائرة الإسرائيلية لا تزال تحلّق في سماء لبنان. وبعض اللبنانيين يُفاجأ ويمتلئ غضباً في كل مرّة تهدر فيها فوق رأسه، والبعض الآخر ينظر إليها بلامبالاة كما لو أنّها ظاهرة فلكية في سمائنا لا تختلف كثيراً عن باقي الأَجرام السابحة في الفضاء.
سوف يمرّ على هذه الحادثة ما يقرب من السبعين سنة حتى تتمكّن المقاومة في لبنان من أن تدفع إلى سماء إسرائيل بطائرات تجسّس من النوع نفسه لتشكّل قوة ردع في الفضاء، مثل قوة الردع المتحقّقة على الأرض.
في الماضي
في الماضي
كنا نهبّ كالمجانين عندما نسمع كلمة فلسطين
ونهجم
هذا بمسدّسه، وهذا بقلمه
أمّا اليوم،
فإننا لا نفعل شيئاً سوى إدارة تلفزيون المساء ومتابعة هجمات الشباب الفلسطيني العزّل على دبابات الجيش الإسرائيلي، وهجمات رجال السلطة العزلاء على منظمات الأمم المتحدة!