«الأشرعة البعيدة: مختارات من القصة القصيرة الإريترية» (منشورات تكوين/ الكويت) مجموعة أنطولوجية تتألّف من 16 قصة قصيرة هي ثمرة برنامج تدريبي في الكتابة الإبداعية أشرف عليه الروائي حجي جابر خلال عام 2020 برعاية من «منشورات تكوين». «لعلّ من الطريف القول إنّ فكرة هذا الكتاب انبثقت من قديم في ذهني فقط لأني كنت أرتبك حين يطالبني الصحافيون بأن أعدّد لهم أسماء إريترية تُكتب بالعربية، فكنت أذكر الأسماء نفسها وأنا أعلم أنّ منهم من توقّف أو خفت نتاجه. لم يكن انحسار الأسماء هذا لقلّة المبدعين، بقدر صعوبة العثور على الخريطة الموصلة إلى النشر العربي، في ظل توزّع غالبية الإريتريين على المنافي البعيدة منها والقريبة». يشير جابر كذلك إلى اعتماد معايير صارمة في جديتها لغربلة المشاركين في الأنطولوجيا والرؤية خلف المشروع: «آمنت «منشورات تكوين» بالمشروع من اللحظة الأولى وتبنّت المسابقة التي فرزت الأعداد الكبيرة من المتقدمين إلى نحو أربعين اسم شخص انخرطوا في برنامج تدريبي عام 2020، واستمر الفرز إلى أن انتهى عند الأسماء الواردة في هذا الكتاب، والتي تُنشر للمرة الأولى».

تقاليد الكتابة القصصية بالعربية ــ اللغة الثالثة في البلاد ـــ بدأت مع مجلة «الحداثة الإريترية» التي نشرت قصصاً قصيرة لعبد القادر الحكيم في تسعينيات القرن الماضي. بعدها بفترة طويلة نسبياً (2010)، برزت مجموعة مميزة للقاصّة حنان محمد صالح المولودة في أسمرة والمهاجرة إلى السعودية. مزجت الكاتبة الشعر بالقصة في كتاب «المرأة، إنسانة من الدرجة الثانية» وقّعته في حينها في «معرض بيروت للكتاب» وضمّنته الإشكالية الصعبة لحقوق المرأة وكينونتها في المجتمع العربي البطركي بهيمنته الذكورية. ظهرت في كتابتها تأثيرات للشاعر السعودي غازي القصيبي، والأديب المصري أنيس منصور، والأديب اللبناني جبران خليل جبران. علماً أنّ أولى الروايات الإريترية المكتوبة بالعربية كانت «صالح أو رحلة الشتاء» للمناضل محمد سعيد ناود، نُشرت في بيروت عام 1979 وتناولت سيرة العائلات التي انتقلت من شمال البلاد وغربها إلى السودان في موسم الحصاد. ناود اعتُبر وجهاً من وجوه الثورة الإريترية في وجه النظام الإثيوبي، وأحد مؤسّسي «جبهة تحرير إريتريا» التي بزغ نجمها في مدينة بور سودان عام 1959. كما شارك في الحركة المناهضة للاستعمار في السودان، البلد الذي أقام فيه ما بين عامَي 1944 و1956. كذلك، حرّر كتاباً سياسياً عام 1971 بعنوان «قصة الاستعمار الإيطالي لإريتريا». بعدها، كرّت سبحة الروائيين الإريتريين أمثال أحمد عمر الشيخ في «نوراي» و«الأشرعة» و«أحزان المطر» و«الريح الحمراء»، وأبو بكر حامد كهال في «رائحة السلاح» و«بيركنتايا: أرض المرأة الحكيمة» و«تيتانيكات أفريقية»، وانتهاءً بالروائي الإريتري الأشهر اليوم، حجي جابر، الذي تُوّج عام 2012 بـ «جائزة الشارقة للإبداع الفني» عن فئة الرواية، عن روايته «سمراويت». عرفناه في أعمال محترفة مثل «مرسى فاطمة» و«رغوة سوداء» و«رامبو الحبشي» و«لعبة المغزل»، وهو ما سمح للسرد الإريتري أن يحجز مكاناً في المشهد الثقافي العربي ويحتفي به النقاد، بثيمات هي غاية في الأصالة والراهنية ولغة تتجرّأ على استخدام المخزون اللغوي الثري في البلاد من لغات محلية ينطق بها السكان إلى جانب العربية مثل التيغري والتيغرينيا والساهو.
في «الأشرعة البعيدة» أول ما تظهر إشكاليات الهجرة واللجوء كما في القصة الأولى «أيام عادية لشاب في الحادية والعشرين» لسامي المراد المقيم في فرنسا. يحضر طيف الأم في الطرف الآخر من العالم كملاك حارس «تجلس على سجّادة صلاتها المهترئة، رافعةً كفَّيها نحو السماء، تنهض وتمشي بخطوات أثقلها الهرم. تأخذ قدحاً خشبياً صغيراً تملؤه بالزيت، تنفث عليه تعويذاتها، وبيديها ذات الجلد المتراخي تصب الزيت على رأسه وهي تتمتم بصلواتها، تمسح له وجهه بالزيت المبارك، تدلّك له جانبَي رأسه، تخلع عنه ملابسه، تواصل دهن جسده النحيل، تمسّد له أطرافه ثم تغطيه بوشاحها الأبيض الخفيف». ومن الغربة الى الغرائبية وفلسفة القسوة في «مخترع القسوة» لفاطمة حسين المقيمة في السعودية. نقرأ «نحن الثيران قد نولد أقوياء، لكن الإنسان اخترع القسوة التي تحوّل القوة إلى توحّش»... والانتقال الخاطف بين الواقعي والمتخيّل في «متاهة الأفكار» لمريم منصور المقيمة هي الأُخرى في السعودية.
قصة تتخللها أسئلة مقلقة حول معنى الحرية: «لا يعلمون أن الحرية كلمة لا تندرج في قاموسنا كبشر، يصل الحال بك إلى أن تناقض نفسك لكي ترضي جانباً فيك يتقبله العالم الخارجي، نحن بُرمجنا على أن نكون هكذا!»، أو أجواء إكزوتيكية كالتي تظهر في بداية قصة «خيانة» لعاليا محمد صالح: «هناك جملة تتكرر بداخلي دون توقف، لها مذاق لاذع كيخنة اللحم بالبهارات الهندية الحارقة التي كانت تعدّها أمي. «على المرء أن يقرر حياته». الليلة ستكون البداية الدرامية كأفلام أودري هيبورن الكلاسيكية، حيث تتخطى البطلة كل المصاعب وتصنع قدرها الخاص، الليلة سأبدأ رحلتي نحو السلام بعيداً عن كلمات أمي البرّاقة: لقد أنعم الله عليك يا لين بهذا الرجل الذي صلّيت لله لياليَ عديدة حتى تجديه»... إضافة إلى عناوين أخرى مثل «ظل السراب» لأحمد أنور و«التائه» لنجاة شفا موسى، و«شماعة الأمل» لأحمد شيكاي، و«مغمضة العينين» لريم تركاي، و«نداء تحت القصف» لياسين أزاز وغيرها من الثيمات التي تتوافر على قدر كبير من الراهنية والقلق والدياسبورا والغرائبية، بحيث كما تقول الأديبة المغربية عائشة البصري في تقديمها للأنطولوجيا: «تتوافر حكايات الكتّاب الشباب على خيط ناظم مفاده «أن أوطان الغير لا تصنع السعادة».
تتعدّد الأمكنة والأزمنة والأصوات لكنها تلتقي بانتمائها إلى ما بعد الحداثة


قصص مختزلة ومكثّفة، مفعمة بخيالاتها وأساليبها وسردياتها وحبكتها وشخصياتها. تتنوع الحكايات، وتتعدد الأمكنة والأزمنة والأصوات، وتتفاوت الكتابات باختلاف التجارب والمواهب، لكنها تلتقي بانتماء جلّها إلى ما بعد الحداثة. يقود بعض القصص أبطال بمعالم واضحة، يسرون بخطى ثابتة، وآخرون أقرب لصفات «البطل المخالف للعُرف»، لتردّدهم، وعدم سيطرتهم على ذواتهم، وتحرّكهم في عوالم الحلم واللاوعي واللامعقول، حيث كل شيء ممكن. يتنقل القارئ بين من يخلط بين الحقيقة والخيال، ومن يغيب عن الوعي ليستيقظ من النوم لمجافاة الأوهام، وعاشقة لحبيب لا وجود له، وميّتة لا تدرك أنها تُوفّيت منذ مدة، ومن يكره ذاته الثانية الغائبة، ومن يرتكب جريمة كي يكتب قصة، ومن يعيش قصصاً لا وجود لها في الواقع. اختلاط الأحلام والأوهام بالواقع يغوص بجلّ القصص في أجواء سريالية غرائبية ممتعة. هي إبداعات شبابية واعدة وقد اكتسب القصّاصون تقنيات الحبكة الروائية ونحت الشخصيات، والمَسك بخيوط السرد، وتوظيف الحوار، ولعبة التشويق والإثارة، بدايات تحمل في أشرعتها عدداً من الأقلام الأنيقة، بثرائها اللغوي وفنّ القص، من شأنها أن تُنعش الآمال في المستقبل، وتُثري الأدب الإريتري العربي»، لتلتقي في الرؤية مع حجي جابر الذي يبدو واثقاً من عثوره على الجواب الشافي لسؤال البداية: «الآن ربما سأجد فرصة لأنوّع في إجاباتي وأنا أعدّد أسماء المبدعين الإريتريين، على أمل أن تنتفي الحاجة إلى هذا السؤال، فتغدو الأسماء لامعة معروفة للجميع. وهذا بالضرورة يُلقي بالكثير من العبء على الكتّاب الشباب هنا ليواصلوا المشوار، فما هذا الكتاب سوى البداية، أو هكذا ينبغي».