في تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً من أربعاء ذلك الأسبوعِ، سكن الجنيُّ السيدَ مودّت. ولأي أحد أن يتصوّر مدى دهشة السيد مودّت بعد حدوث هذه السانحة! مع العلم أن تقاسيم وجهه كانت، في العادة وبصورة طبيعية، توحي بالبهجة والانبهار. في تلك الليلة البهية المقمرة، كان السيد مودّت وثلاثة من أصحابه قد وضعوا فرشهم على بساط البستان الأخضر. كان القمر بدراً مكتملاً أسبغ على المكان كله جواً شاعرياً وأرخى بظلاله الموهمة وأضاء حوض الماء ببريقه، وكأن الخلود كان في طور التشكّل. كان الفضاء مزداناً بموجة لطيفة وباردة يلفّه جوهر نوري لا مرئي. تتبدّد في الجو، من بعيد، همهمات غير مفهومة ثم تنزل على الأرض كقطع الضباب. اقترح أحد أصدقاء السيد مودّت، وكان أصغرهم سنّاً ودائماً ما يتولى القيام بالأعمال وكان يريد أن يكون مفيداً ومؤثراً، أن ينقلوه على وجه السرعة إلى المدينة، ويطلبوا مساعدة عرّاف أو طارد جنّ أو أي متخصص، أو على الأقل أن يعرضوه على طبيبها.
صراع الجن والإنس في منمنمة من مخطوط لِـ «شَهْنَامَةِ» الفردوسي (القرن السادس عشر)
أركبوه سيارة جيب وباشر الصديق الشاب نفسه قيادتها، وكان يعمل سكرتيراً في إدارة. خرقت سيارة الجيب سكون ليل البستان وخلوته واستدارت حوله ثم انطلقت تشقّ طريقها الطويل صوب المدينة. رموا به، في حالة ضمور وهزال، على مقعد السيارة الخلفي، وجلس الثلاثة في المقدمة على مقاعد زنبركية وثيرة، ولم يطق أحدهم الالتفات إليه للاطمئنان على حالته. كانت الطريق، بانحناءاتها ونتوءاتها المتعددة ومنعطفاتها الكثيرة، تبدو بلا نهاية، هذا في الوقت الذي توجهوا، أثناء الغروب، بقلوب ملؤها السعادة وخالية من أي غمّ أو كدر يبتغون الطرب والفرجة، وقطعوا طريق المدينة صوب بستان السيد مودّت. ولأنهم كانوا يعلمون أنهم سيصلون، في نهاية المطاف، وسيُحرمون من نشوة النزهة والركوب، كان ينتابهم إحساس بالضيق والانزعاج. والآن، قد تملّك الثلاثة الصمتُ المطبق وباتوا محدقين بالجادة يتأملون لعب القمر في المنحدرات والمرتفعات وسرعة اختفاء ظلال الأشواك والصخور والروابي الترابية وارتفاع أصوات الحيوانات الليلية المباغتة، وينسبون كل ذلك إلى علل الميتافيزيقيا والعالم الآخر.
وصلوا إلى المدينة فشغّل السكرتير الشاب الأضواء الأمامية. اجتازوا شوارع المدينة الفارغة والغاطّة في النوم، وكانت مليئة بالمظاهر الغريبة التي تطفو على سطح المدن النائية فقط خلال الساعات الأخيرة من الليل. اندفع أحد الثلاثة، وكان بديناً للغاية وعيناه تبدوان غائرتين في وجهه السمين المدوّر، وقال:
— حسناً! ها قد وصلنا إلى المدينة. نزحنا نصف ليلتنا وجئنا إلى هنا، أريد الآن أن أعرف عمن تبحثان؟ أتظنان أن هناك فائدة؟
أجابه الصديق الآخر الذي كان يجلس بينه وبين السائق:
— هذا واضح! نبحث عن طارد الجن.
انفجر السمين هادراً بصوته الفجّ الغامض:
— لا يمكن العثور على هذا النوع من الناس هذه الأيام. لو انتظرنا حتى الصباح، وبحثنا في الحواري القديمة قد نصل إلى نتيجة. أما الآن فلن نجلب لأنفسنا إلا الإرهاق.
ردّ عليه السائق:
— الأمر مستعجل، لا نستطيع الانتظار. وصلنا للتوّ متعبين، ما أهمية ذلك؟ قد يكون الأمر غير مهم لك، أنت الذي تفكر دوماً في نفسك، لكن نحن لا نستطيع تركه على هذه الحالة. إنه أمر مخجل ! أتنصّلت من الصداقة بهذه السرعة؟!
ركنوا السيارة على جانب من الشارع حتى يقرروا ماذا سيفعلون. أجاب الرجل السمين:
— تنصّلت أم لم أتنصّل، لا شأن لأحد. لنأخذه إلى طبيب ما دمنا نعدم حيلة.
كان لصوته طنين مثل طنين طبل يُقرع من بعيد.
اندفع الصديق الآخر:
— هذا أفضل من لا شيء. يجب التحرك بسرعة لأن الطبيب الوحيد الذي يعمل إلى الصباح هو الدكتور حاتم، وهو يخلد إلى النوم بعد الساعة الواحدة ولا يقبل مريضاً بعد ذلك.
تحركت سيارة الجيب وانطلقت، فيما تساءل السائق:
— كيف يعمل حتى الصباح ولا يقبل مريضاً بعد الساعة الواحدة؟ لم أفهم.
أجابه الصديق الآخر، الصديق «المجهول»، الذي لا نعلم أي شيء عنه، ولن نعلم عنه مستقبلاً:
— كل واحد له طريقته في التعبير. أنت تتحدث عن التعقيد، لكنّي لن أفكر أبداً في التفسير والتأويل. دعني أوضّح كلامي، لو أنك، إلى الآن، زرت عيادة الدكتور حاتم، كنت ستنتبه إلى إعلانه الذي يقول إنه يستقبل المرضى إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فقط، وبعد ذلك الوقت يخطر الجميع شفهياً أن النوم والاستراحة من حق أي إنسان، ولا ينبغي إزعاجه بلا داعٍ. ومع ذلك، استقبل، مراراً، الكثير من المرضى الذين ارتادوا بيته بين الساعة الواحدة وبزوغ ضوء الصباح وعالجهم.
أطلق السكرتير الشاب بوق سيارته لاهياً، وقال:
— إذن نحن نتعامل مع إنسان يقدم تضحيات، إنسان يُغلب أمام واجبه.
سأل المجهول بصوت خفيض:
— هل تعتبر معالجة المرضى واجب الطبيب أم حقه؟
— سأجيبك: «كل شخص له طريقته في التعبير».
— لا أحد منكما رأى الدكتور حاتم أو يعرفه. ألا تظنان أن هذا سيجعل حكمكما ورأيكما ناقصين؟
رفع السائق الشاب كتفيه أعلى:
— الكل غدا متفلسفاً، لكن أيّ حكم تقصد؟ نحن لا نريد محاكمته أو تزويجه ابنتنا، لو استطاع إخراج رفيقنا من هذه الورطة فالأمر منتهٍ وكل واحد سيكون قد أدّى واجبه.
قال المجهول:
— لكن أنا تنتابني أحاسيس أخرى، كأنّ أموراً ما ستحدث الليلة، حوادث تخرج عن دائرة الواجب والحق والعلاج وهذه الغائلة التي أصابت، للتوّ، السيد مودّت.
أطلق البدين العنان لقهقهة مجلجلة وقال باندفاعه المعهود:
— حسناً، حسناً! هذه الليلة ليلة عجائب. لو لم تكن مخموراً لقلت بأنك عُلِّمت الغيب. الآن، وقد حُلَّت عقدة لسانك وبات يقطر حلاوة كبلبل، اقرأ لنا مستقبلنا. تعال، هذا كف يدي!
أمسك المجهول بيد البدين المدوّرة والثقيلة وأنكس رأسه وأخذ يتفحصها في الضوء والعتمة، محدّقاً في خطوطها الكثيرة والعميقة:
— سوف تصاب بسكتة!
وغير قاصد، ضغط السكرتير الشاب على الفرامل ثم رفع رجله، فارتجّ الجميع. ابتلع البدين ضحكته وسحب يده من يد صديقه:
— قلت لك مئة مرة إنني أنزعج من هذه الدعابات. أعمى الله بصرك ! أنصت إليّ الآن، أنا أفكر في العيش مئة سنة، بهذه السمنة وبهذه الصحة، آكل وأتنعم، وأتزوج المزيد من النساء، وأصيِّغ وأتلذذ. وإن شاء الله سوف أكفنك بيديّ هاتين.
اندفع السكرتير الشاب مقاطعاً كلامه:
— ألا يكفي هذا؟ أتفكران فيه بهذه الطريقة؟ ليتكما تدركان قذارة هذه الدعابات وفظاظتها. إذا كنتما تنويان الإمعان في ذلك، فمن الأفضل قول ذلك لأني سوف أغادر.
دمدم البدين بكلمات غير مفهومة وقال المجهول:
— هو الذي أراد ذلك، لكني أعتذر.
رمق السكرتير الشاب الاثنين بنظرة وافترّت شفتاه بابتسامة. انغمس المجهول في صمت مطبق إلى آخر الليل ولم ينبس بكلمة. لم يشاركهما الحوار ولم يكن يرد على أسئلتهما.
انطلقت سيارة الجيب مسرعة في الشارع الوحيد المزفّت وسط المدينة، بينما مصابيح الشارع الصغيرة والخافتة رسمت، على امتداد مسافة بعيدة، بقعاً مستديرة صفراء اللون على الإسفلت. على جانبَي السيارة، كانت البيوت الصغيرة والطوابق العلوية المنطفئة تفرّ مختلطة بالعتمة. وحدها هرهرة محرك الجيب تكسر خيوط الصمت المطبق، بينما تجفل هاربة من أمام السيارة مجموعة كلاب شريدة وهزيلة.
(*) صدرت حديثاً عن «منشورات الربيع»، القاهرة.