لا يمكن الحديث عن ليبيا الستينيات والسبعينيات، من دون الوقوف عند تجربة محمد فرحات الشلطامي (1944 ـــــ 2010) حتى بعد مرور 12 عاماً على رحيل شاعر الثورة والتمرد. قصائده محاولة تأريخ رافقت تاريخ ليبيا نفسه طيلة حياته، بل إنها لا تقف عند زمنها، بل تتعداه. سيرته متصلة بسيرة بلاده، بشكل وثيق، منذ استقلالها ونهضتها، إلى عسكرتها وردّتها. ما زال شِعره يُسمع صداه عند زملاء مدرسة «الأمير» المسائية في الستينيات، ورفاق الزنازين في السبعينيات، وأجيال الثمانينيات والتسعينيات وما بعدهما. لقد كتب أساساً إلى «من لم يولدوا بعد» ولكي يكون شِعره «وقوداً لأيام لم تأتِ بعد».
استهدى بالسيّاب وكتب لـ «جيش من البؤساء»
من قاع قبري أصيحْ
حتى تئنّ القبور
من عالمٍ في قاع قبري أصيح:
لا تيأسوا من مولدٍ أو نشور!
(بدر شاكر السياب)


ما مصير طفل يُولد في بنغازي المدمّرة جرّاء الحرب العالمية الثانية، ويفقد والده قبل أن يكمل الخمس سنوات، ويعيش في فقر مدقع؟ الإجابة ليست مأساوية، فمحمد فرحات الشلطامي، سيصبح أحد أهمّ شعراء ليبيا المعاصرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق. سيُدين للفقر الذي علَّمه بسرعة، ويرى في سماء مدينته الحرية، ويعرّف نفسه في قصيدته المهداة إلى روح عمر الخيام، قائلاً: «ما كنت بالخرز الملوّن والهاً / «قاوم» ستصبح صرختي وشعاري/ أنا ثائرٌ باسم الجياعِ، غداً ترى/ جيشاً من البؤساء في أشعاري» (قصيدة «رباعيات جديدة»).
هو صورة الشاعر المقاوم، الذي أصبح كذلك، تحت تأثير إنشاد والدته وهي تطحن القمح، وحكاياتها عن شِعر خالها المنفي قسراً إلى سجون إيطاليا خلال حقبة الاحتلال الفاشي لليبيا. قرأ باكراً إيليا أبو ماضي، والشابي، وبقية جماعة «مدرسة أبولو». وأثناء انتدابه للعمل في مكتبة بنغازي العامة، تعرف إلى أعمال ثيربانتس وكازانتزاكيس وبيكيت. لكن اللحظة، التي وقع فيها بين يديه ديوان «أنشودة المطر»، سيصبح بدر شاكر السياب أستاذه المُلهم. مع ذلك، لم تكن أولى محاولاته حداثيّة، بل شعراً شعبياً أنشده في أعقاب العدوان الثلاثي على قناة السويس عام 1956، وهو المنحاز بطبيعة الحال إلى مصر: «إيدن والمستر بينو/ والكف خذوه/ وما زال الروس إيدقوه». أبيات على ضآلتها، تعكس فرحة الطفل الصغير بصفع رئيس وزراء بريطانيا ووزير خارجية فرنسا، أنطوني إيدن وكريستيان بينو، بعد تأميم القناة وفشل العدوان، مع أمله بتدخل الاتحاد السوفياتي لاحقاً.

ابن الستينيات
تزامن بلوغ الشلطامي حافة العشرين مع أحداث مفصلية في تاريخ ليبيا، ليس أقلّها تخرّج الدفعة الأولى من الجامعة الليبية (كلية الآداب والتربية) سنة 1959، وبدء تصدير النفط سنة 1961، وإلغاء النظام الفيدرالي وإعلان الوحدة سنة 1963، وصولاً إلى اندلاع تظاهرات الطلاب في كانون الثاني (يناير) 1964. حدث أثر عليه، فكتب قصيدة «أبيات حزينة»: «وأزجّ في صدري الأسى المكبوت/ والذكرى الحزينة/ كالليل يجترُّ الصدى المشروخ/ في صمت المدينةْ/ الحرُّ ثار لكي يحقق باليد العزلاء/ خلاصهْ/ كانت هناك له رصاصهْ». لم تغادر الفاجعة وجدان الشاعر. بعد مرور شهرين على قمع التظاهرات بالرصاص الحيّ، كتب: «أغنية قصيرة عن يناير»: «لمن تدقّ أيها الناقوس والصغار/ ضاعوا بلا أثرْ/ غابوا بلا خبرْ/ يقال إن ساحراً غريب... مدّ/ إصبعه/ وتمتم الصلاة للحديد واستخار/ فغاب من صغارنا الحفاة أربعة/ من يومها وكل شيء حركته الريح إلا قلوعنا/ وكل قطر في السحاب جفّفته الريح/ إلا دموعنا».
ألقت الحادثة بظلالها على مناحِ الحياة السياسيّة كافة. قدم الملك إدريس استقالته قبل أن يسحبها، واستقالت حكومة محي الدين فكيني، وشرع مجلس النواب في مفاوضات إجلاء القوات الأميركيّة والبريطانية، وصدرت صحف مستقلة جديدة. كان 1964، عاماً مفصليّاً، انتقلت فيه ليبيا من نشوة الاستقلال، إلى مرحلة أكثر نضجاً وجدلاً، وكذلك الشلطامي.
كانت الستينيات أيضاً، منهلاً فكرياً وسياسياً بالنسبة إلى صاحب «تذاكر للجحيم»، الذي انتمى لسنوات إلى «حركة القوميين العرب»، ثم عمل سنة 1965 محرّراً للعقود في مكتب القيادي البعثي محمد فرج حمي، الذي كان بمثابة المرشد له في بداياته، قبل أن يُعدم في سجون القذافي سنة 1980. «إن الذي تقوله ليس شعراً، بل منشورات ضد السلطة»، بهذه العبارة لخّص حمي شِعر الشلطامي، ومنها استوحى الشاعر عنوان ديوانه «منشورات ضد السلطة»، الذي لم يصدر إلا بعد أكثر من ثلاثة عقود.
في خامس أيام حرب الأيام الستة، تزامناً مع خطاب التنحي لجمال عبد الناصر، كتب الشلطامي قصيدة «بطاقة»: «قُلْ ما تشاء.../ واكتب بخطّ التاج ما نحت الشقاء/ فينا، وقُلْ/ متخاذلون/ جبناء ماتت في عروقِ قلوبهم/ هِمَمُ الرجال/ أنا قد هربت/ وتركتُ أحذيتي ورائي/ وتركت خلف الجسر/ صوت إذاعة الشرق القتيل/ قُل ما تشاء، أنا عميل/ متخاذل، حافٍ/ يجرّ وراءه عاراً جديد/ قل ما تريد/ لكنما أنا لن أموت/ أبداً لتركب جثتي للنصر.../ لا... لن أموت». مثّلت هذه القصيدة أحد أبرز ردود الفعل الشعريّة تجاه «النكسة»، مع ما كتبه نزار قباني وأمل دُنقل وصلاح عبد الصبور.... وأودت بصاحبها إلى غياهب السجن، للمرة الأولى، وطُرد من وظيفته في قطاع التعليم. بيد أنّ تجربة السجن، بين آب (أغسطس) 1967 وتمّوز (يوليو) 1968، كانت ذات أهمية بالغة بالنسبة إلى الشلطامي؛ أتاحت له رؤية المجتمع في صورته الطبيعية، واتسعت مفردات قاموسه، وتعايش مع أخطر المجرمين.

ما بعد النكسة
خرج الشلطامي أخيراً من السجن، ولم يأتِ بالهدية المنتظرة إلى مدينته، أي الحرية؛ لكنه سيجد «الحقيقة»، الصحيفة الأوسع انتشاراً منذ تأسيسها سنة 1964، تحتضنه بين صفحاتها، برعاية رئيس تحريرها رشاد الهوني، إلى جانب أبرز الكتّاب الليبيين، كالمُفكر الصادق النيهوم، والقاصّ خليفة الفاخري، والمؤرخ سالم الكبتي، والروائي أحمد إبراهيم الفقية. كانت قصيدة «من أغاني البحارة» أوَّل ما نشره الشلطامي في الصحيفة. منذ تلك اللحظة، ستجد قصائده طريقها إلى الصحف المحلية والعربية، حتى من دون علمه.
في عام 1970، صدرت مجموعته الأولى «تذاكر للجحيم» ووُزعت مع إحدى أعداد مجلة «جيل ورسالة». ضمّ العدد نفسه حواراً مع الصادق النيهوم، ذكر فيه أن «عبد الوهاب البيَّاتي ونزار قباني قمتان شامختان في الشعر العربي المعاصر، وأنا أحب أن أضيف إليهما محمود درويش من الأرض المحتلة، ومحمد الشلطامي من ليبيا، وأترك الحكم على الباقي للأيام القادمة». أثار تصريح المفكر الليبي حفيظة بعض الشعراء الآخرين، وفق ما يروي المؤرخ سالم الكبتي. في عام 1972، ستطبع المجلة ديوان الشاعر الثاني «أنشودة الحزن العميق».
كأيِّ شاعِر صاحب بصيرة، تنبَّأ الشلطامي، بعد وقت قصير من انقلاب الأوَّل من أيلول (سبتمبر)، بمصيره في قصيدة «أزهار الليل» (مارس 1970)؛ «وطني يا وطني/ يا صليبي قبل أن أخلق/ حرفاً في قصيدة/ بيننا ظلت قوافيك العنيدة/ والشعارات البعيدة/ وأنا أركض خلف الفجر/ من سجن إلى سجن/ لأرى عينيك في كل شفق/ مرة أهرب من وجهي، وألفاً أحترق/ خلفيَ البحر/ وقدامي جحيم، والطرق/ صادرتها المحكمة/ أُمِّمت في أول الليل/ وبيعت في الصباح/ ما الذي أملكه يا قمري/ كادحٌ أقتل باسم الكادحين/ حينما أبكيك إن غنيت أبكي/ لوعة الحزن الذي بيننا/ عوسجاً في وجنة الشمس/ وذلاً وخطايا/ نحن ما مددنا قاماتنا/ أبداً في وجه الريح».
هكذا، سيصطدم بروز الشلطامي في السبعينيات بإعلان الحاكم الجديد معمر القذافي «الثورة الثقافية» سنة 1973، في «خطاب زوارة» الشهير. هكذا، عطّل القوانين المعمول بها في الدولة الليبية، وتعهَّد الحزبيين و«أعداء الثورة» بالويل. وإذا بالشلطامي مجدداً في سجن الكويفية، حيث سيكتب مرثيتهُ في الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي، الذي اغتيل في أعقاب الانقلاب العسكري في تشيلي، المدعوم من الولايات المتحدة وتلاميذ «مدرسة شيكاغو»: «في ليالي الجنرالات الكبار/ عادةً ما تصبحُ الأنشودة الحلوة/ حبل المشنقة/ ويصير المدفع الرشاش والخوذة/ والإرهاب/ خط الاستواء/ ويصير الحبُّ والميلادُ والشوقُ انتحارْ/ في ليالي الجنرالات الكبار» (خمس قصائد إلى سلفادور الليندي ــــ أكتوبر 1973).

رحلة إلى جهنم
خرج شاعرنا مجدداً من السجن، ووجد نفسه مطروداً من عمله، بحجة أن أفكاره قد تتسرب إلى الطلبة، ولا يعثر على صحيفة تحتويه بعد إغلاق «الحقيقة» عام 1972. يقرر الابتعاد عن الساحة؛ لكن أحداث نيسان (أبريل) 1976، ستعيده إلى ميادين الاحتجاج السياسي في طرابلس وبنغازي، عندما يردد طلبة الجامعات أشعاره في وجه «الحقد الهستيري» للسلطة العسكرية، التي استحوذت على البلاد في أعقاب انقلاب سبتمبر 1969. وللمرة الثالثة، يدخل الشلطامي السجن باعتباره «كبيرهم الذي علّمهم السحر»، وفق تعبير رئيس المحققين.
في حقيبته، سيجد الضابط حسين سجادة صلاة حمراء، فيستنتج: «ألم نقل لكم إنه شيوعي، حتى صلايته حمراء!». تهمة لا تختلف عما شاع من مثيلاتها في تلك الحقبة، مثل اقتناء سيارة حمراء أو «الاتكاء على عكاز تيمناً بلينين». تهم كانت تنمّ عن هوس وفوبيا تجاه الشيوعيين. هذه التجربة، ستكون بالنسبة إليه «رحلة إلى الجحيم»، يذوق فيها جسده النحيل أبشع صنوف التعذيب إلى درجة الإغماء. «يجحظ المستنطقُ الحاقدُ عينيهِ/ بعينيَّ/ ويُرغي... ويثور/ وتُميتُ الصعقة الهوجاء رجليَّ/ ولكنِّي أغنِّي/ ويغيب السَّوط بعد السَّوط في لحمي/ ولكنِّي أغنِّي/ وأغنِّي/ بمدى ما تصمدُ الأنشودة الحلوة/ في وجه الرّصاص/ لك يا يوم الخلاص» (قصيدة «تحقيق»). لم تستمر الرحلة عقداً من الزمن، كما حدث مع رفاقه، بل انتهت بعد شهرٍ واحدٍ فقط. الفضل في ذلك يعود إلى حملة الشاعر العراقي مظفر النواب، عندما كان مقيماً في ليبيا، من أجل الإفراج عنه، وتهديده بترك البلاد.

قلب أممي
بعد خروجه من السجن، سيكتب عمله الأهم «نصّ مسرحي من طرفٍ واحد» (لم يُنشر إلا سنة 2002): محاكمة تاريخيّة مستمرة منذ أكثر من ألفيْ سنة لسبعة «وجوه من المقت والإجرام»؛ بدءاً من أخناتون وبوذا وكونفوشيوس، مروراً بزرادشت وموسى وداود، وصولاً إلى يسوع، تراوح فيها التهم بين التنوير والسلام تارةً، وبين الدعوة إلى العدل والتحريض على الثورة طوراً. على هذا النحو، لا يستحضر الشلطامي الماضي إلَّا كي ينظر إلى المستقبل. كما أنَّ وقع «النكسة» على نفسه، وتركه لحركة القوميين العرب، لم يجعلاه مُثقفاً انعزالياً، بعدما أصبحت الشوفينيَّة موضةً سائدة منذ سبعينيات القرن الماضي. على العكس، صار شِعره يضج بروح أمميَّة وحس ثوريّ أكثر راديكاليَّة، بما فيه من تناصّ مع القضايا الإنسانيَّة والتحرريَّة في أنحاء العالم: «وطني ليس إلهاً طوطميّاً/ وأنا لن أصبح اليومَ/ وفي ملهاتك المأساة يا قميص عثمان بن عفَّان/ دعياً أمويّاً/ فأنا أحمل في جنبيَّ قلباً أُمميّاً (...) أفرحُ اللَّيلة بالعيد الذي يولدُ/ في كمبوديا/ وأُغنِّي لجلال النَّصرِ في كلِّ سهول/ فيتنام/ وأُقاتل: مرَّةً أخرى لكي تأتي إلى عالمِنا/ الغارق في الهمِّ/ حمامات السَّلام: ثمَّ أهفو/ كالفراشاتِ على قنديل حزنِ الناسِ/ في تشيلي/ وأشتاقُ إلى الثوَّار/ في بيساو كي أشرب نخب البرتغال/ وأنا في البيت محبوسٌ، ولكني أرى/ لشبونة الآن تعود/ هي ذي الآن تعود/ من وراء الزمن الضائع في تاريخها الممنوع/ لشبونة تعود/ تحمل الأزهار في سلّتها الحلوة للشعب/ وللمعتقلين الطيبين/ وأثينا/ حطمت غطرسة العسكر، والأوباش/ وامتدت إلى الشمس يداها/ مرة أخرى لكي تصنع حريتها (...) وبلادي/ أينما تنتصر الحرية الكبرى/ باسم البشرية/ ولأجل البشرية». تلك مقاطع من قصيدة «أفراح سرية»، كتبها في أثينا بداية الثمانينيات، حيث تعرّف إلى مأساة الأرمن، وكذلك الأكراد، وقضية الجبهة الشعبية لتحرير البحرين ونشر شِعره في جريدة «5 مارس» (تاريخ الانتفاضة البحرينية ضدَّ الوجود البريطاني عام 1965).

حوارات
قصيدته «تتخلَّق من الحدث، من محنة أو فجيعة عامة، وتعكس موهبة فذّة في التعامل مع الواقع واللّغة في آن»، كما يقول محمد المفتي في كتابه «حوارات مع الشاعر محمد الشلطامي» (2003)، العمل الوحيد الذي توافر في المكتبة الليبية ويتناول سيرة الشلطامي بالتفصيل، في ظل ما عاناه من إهمال في الثمانينيات والتسعينيات (لم تصدر دواوينه السبعة الأخيرة إلَّا بين عامَي 1998 و2002)، ما يعكس حالة التهميش الثقافي الواسع الذي طاوله بل طاول البلاد في تلك الفترة. لاحقاً، ألهمت سيرته العديد من الباحثين في نقد تجربته الشعرية وتناول أبعادها الجمالية، كما هي الحال في دراستيْ أمينة هدريز «الشلطامي شاعر الحداثة والحرية» و«الصورة الشعريَّة عند محمد الشلطامي».
هكذا كانت رحلة الشلطامي، الذي أثرى المكتبة الليبية بما يربو عن مئة قصيدة، قليلٌ منها مقفّى، وغالبيتها كتبها تحت تأثير السياب، الذي وجد فيه توافقاً من الناحية الفنية والسياسية، فيما ضاعت محاولاته الشعريّة في الخمسينيات، تحت تأثير الشابي و«مدرسة أبولو» لأنها لم تُدوَّن. وباستثناء ثلاثة مخطوطات لم ترَ النور بعد («أغاني سارق النار» و«بشارة الطير المسافر إلى أهلي سدوم» و«موال بنت الآغا»)، صمدت بعض أناشيده غير المدوّنة في ذاكرة رفاق الزنازين والليل الطويل إلى يومنا هذا.
خلال ستة عقود ونصف عقد عاشها، بين الحرب العالمية الثانية وربيع عام 2010، لحظة وفاته في عمان صباح 24 آذار (مارس)، بعيداً عن وطنه، ومُهملاً من رعاية الدولة؛ كتب الشلطامي عن كلّ شيء تقريباً، بما في ذلك موته. كمن يرثي نفسه سلفاً، أنشد قبل أربعة عقود، في قصيدة «الليل في المدائن الكبيرة»، يقول: «يا قطرات مطر الربيع/ يا محفِّتي/ حين يجيءُ الموت/ لا تسقطي فوق زجاج الليل/ لا تستشهدي/ إلّا لأجل الشمس/ لم يحفروا قبري، ولكنّي/ أنا حفرته/ لم يكتبوا موتي، ولكنّي/ أنا كتبته/ فلتحملي يا قطرات/ مطر الربيع/ حبِّي إلى من سوف يأتون/ ولن أراهم/ قولي لهم.../ قولي لهم.../ كان هنا وظلّ يسكر/ حتى مات بالحبّ/ وكان الليل/ يحلم في مدينة الشطرنج/ بالصباح/ قولي لهم مات كما الدرويش/ في الضباب/ لكنه يُقرِئكم سلامه/ يُقرِئكم سلامه».


قصائد مختارة

* الجُوع
(أبريل 1968)


عامٌ وعامُ وأنا،
أنتظر الإقلاع
جمدتُ بين السجدتين،
بُحْتُ بالأشجان
أبحرتُ بالزورق في دوامة النسيان
آهٍ وآهٍ أفلت اللسان
وفكت الأصفاد عنه هذه الأشجان
ويلي أنا الظامئ والبئر بلا قرار
العهرُ والجبنُ
وذلُّ التيه، والفرار
أين؟
وهذا الكون تحت قدمي ينهار
جلت مع السمسار
رأيته يسروع في الحانة والأسواق
يعرض للتجار
المومسات الحور
والمداد والأوراق
أذكر أن يومها سألت دون خوف
هل تحبل الحروف؟
على ضفاف هذه الغدران في الربيع
أذكر أن يومها الحتوف
جربتها في الجوع والصقيع
في ساحة الإعدام
في مراكز التوقيف

آهٍ وآهٍ أفل اللسان
وبحتُ بالأشجان
أبحرت بالزورق في دوامة النسيان
وقلت للسمسار والسلطان والتجار
فلتجعلوا الموت بلا مقابل
وتوِّجوا الشيطان
غداً غداً ستنضج السنابل
آهٍ وآهٍ أفل اللسان
وبحتُ بالأشجان.
***

* أبيَاتٌ صغيرة
(يوليو 1968)


يافا وعيناك الحزينة والدموع،
والمبحرون بلا قلوع
والموقدون بليل غربتنا الشموع
والزاحفون على حقول الموت
كالقدر العنيد
قنديليَ الوهاج
يومض ليل البعث المجيد
فالقهر، والأمل الصريع
في ساحة الإعدام،
والموت المحدِّق، والصقيع
ماذا؟ وأنت مع المساء
تتألقين على هضاب الحزن
كالقمر البديع
قلبي يقول بأن في مدن الضباب،
والثلج والدم والخطيئة والسراب
التافهون هناك
والكتل القميئة والذباب
سقطوا وإنك في رتاج السجن
أغنية المآب
يافا وبين عيوننا
والشمس يغلق ألف باب
فنظل نحلم في ظلام القبو نحلم،
لا نفيق
فأراك حقل الحنطة الحاني
أراك ببندقيَّة
في كفِّ فلاح تمرد ذات فجرٍ، والرقيق
عصفوا كما الإعصار
وأراك بحراً
في عيون حبيبتي الزرقاء،
بحراً من عقيق
وأراك خلف قساوة القضبان
والقبو العتيق
كالواحة الخضراء يأكلها الجراد
والجدب والمتآمرون عليك،
يا قمر الغريق
مدي يديك فربما سحق الطغاة
والساقطون
بأن شعبي سوف ينهض،
كالحريق
كالموت كالطوفان كالدم،
كالحريق.

* تذاكر للجحيم
(يناير 1970)


وتخضَّل عبر الأسى
والدموع التي ملأت،
جفنة الخمر،
من ذا يحطِّمُ
قفل المدينة؟
يرى وجه قاتله الميّت الحيّ
خلف القناع،
وخلف وجوم العيون الحزينة.
يحدثني الصوت
أنّ السيوف
التي مزقت هامة الشّمر
عادت لتستلّ قلب الحسين
وأنّ الذئاب التي افترست
قاطع الدرب،
عادت لتفترس العابرين.
رفيقي السيوف الذئاب المدينة
تحدِّق عبر العيون الحزينة.

عقم الحجارة، والعيون
عادت بلا فجرٍ تحدق
والضحية والجناه
في عتمة الملهى،
وصوت النادل السمج
«الخيوط من ذا يحركها فيكسب»
والمقاعد والشهود
والليل، والقمر المعلَّق في المدينة،
والكلاب
تعوي وأحذية الرجال الجوف تعبر، والضَّباب
أبداً سيحضنك الضباب.

ويهزأ عبر ثقب الباب سجّاني
غداً في هذه العتمة
غدًا في حزمة (الشوفان)
تحرق دونما رحمة
عذابك قبل بدءِ الموت يقتلني
أنا من أجل أن تبقى
عيونُك في جبين الشمس
أقتلُ دونما رحمة
لماذا الليل والعهر،
وأحذية الرجال الجوف
تعبر هذه الزحمة

اقتلني وامسح خنجرك الدامي
في وجه الشمس
ولتكتب اسمي
في قائمة المشبوهين
ها أنذا أكشفُ أوراقَك أقلبها
فالدنُّ المكسورة لن تملأ،
والسيفُ الذهبي
كالحربة يقتُل،
والميتة في سجن القيصر
كالميتة تحت سنابك خيلك.

من ذا يحطم باب غربتنا
في الليل يسحق ذلَّها العاري
يا موسماً مدت لكل فمٍ
شفةً تفجّر جوعها الضاري
أفعى يراقصك الحواة، سدى
فغداً سيطفأ رمحك الناري.

* المحضر
(أبريل 1970)


وأنا أقسم أنّي،
لم أرَ القاتلَ لكنّ القتيل
كان كالدوحة في الشمس،
وعيناه سحب
وعصافير وبحر ونجوم
كانتا تجرَحُني
كانتا تجرَحُني
كلما أذكرها تجرَحُني
مثلما تصعد في حلقي سكاكينُ اللهب
كلّ ما أذكره
قال لي في لحظة النّزع ــ تُراها باكية ـــ
أنا لا أعرفُ عن من كان يحكي
إنما قال غداً
حينما تغسلُ في الطلِّ المندَّى شعرَها
تحت أحلى قمر
حينما تطلقني من أسرها
نغمةٌ من وتر
آه يا قلبي،
وغاب الصوت موالٌ حزين
وأنا أقسم أنّي
لم أرَ القاتل في لحظتها
_ أيها الشهاد هل كان القتيل
عندها يحمل في كفيه شيء
_ لست أدري، فالذي أذكره
أنه كان مهيباً كالجبل
والذي حيرني
جرحُه كان بِحاراً وحقول
وابتهالاتٍ حزينة
جرحُه كان مدينة
تتمطى ساعة الصبح
مقاهٍ وبيوت
وتلاميذ كما الفلّ،
وشمسٌ وضجيج
وأنا أقسم أنّي،
لم أرَ القاتل في لحظتها
_ هل تعرفت على المقتول يا هذا؟
_ تعرّفت عليه
عندما حدثني،
قال إن المرء شخصان، فإما ميّتٌ
نعشه نعلاه، أو حيٌّ يموت
فوق صلبانِ المدى المشبوب
في ساعة شوق، ينتحر
- وحزنت
لم يعد في غرسة الحزن
التي أحملها
زهرة بيضاء، أو غصن ندي
كنت قد جرّدتها منذ سنين
باقة في أثر باقة
_ يقفل المحضر، ولنمضِ إذن
ربما كان القتيل
هذه المرة شعباً أو وطن.

* مذكرات
(23 مايو 1970)


وأنا مستسلماً أنتظر الموتَ،
وقلبي
لم يزل يكتبُ في صخر بلادي
لمدى عينيك يا نجم السفر
حبُّنا لا بدّ أنّ يزهر،
والليل البهيم
خلفه تمتدُّ أضواء الصباح
وليكن، لا بدّ من أن يعتم الليل،
وأن تعوي الرياح
مرة في كل سهل وجبل
سوف نمضي فوق كفِّ الموت
يا هذه الجراح
بطلاً إثر بطل

عُدّتي في ساحة الحرب
قصيدة
وأغانٍ قالها العمال في كل بلد
«يسقط الفاشست» وليمضِ الزمن
يا مسوخ الهتلريِّين القساة
البغيّ الميت العينين يستجدي بغيّة
ربِّ كم تحرق قلبي هذه النار الخفيّة
والخيول البربريَّة
لم تزل تركض في الصحراء
ما زال الغزاة
أبداً يأتون في كل زمان

حينما أينع شوك القهر،
في وجه الزمن
حينما أوقد كفُّ الليل قنديل المحن
حينما جهّز لي السلطان أسلاك الكفن
حينها ازددت التصاقاً بالوطن
عبرت من قبل الشمس
وأفلاك السماء
وملايين من الجرذان والخيل،
وقُطّاع الطرق
ثم ماذا؟
لم تزل تحلم بالريح
السفينة
آه يا هذه السنين الفاجرة
لم تزل تحلم بالريح السفينة.

* ابتسم
(مايو 1976)


إن يكن يَعتمُ في القبو،
الظلام
وتموجُ الريحُ في الأفق،
وينهارُ المدى
تحت أقدامكَ في الليل وتبدو
شرفاتُ الليل كالقار،
ويشتدّ على قلبك وقع العاصفة
وانطفت أضواءُ هذا الكون في العين،
وذابت
في هباء الأرصفة
وبدا الكون كأن لم يعرفك
وغدت تُنكرك الأعينُ،
من رهبتها
وسرى اسمك كالتّهمةِ في
كلّ مكان
وبدا حارسك الأبله موتوراً غبيّاً
فابتسم للأعين البُله،
فقدت صرت نبياً.

إن بدا في الليل ظلُّ الحارس الأبله
كالطود، وعضّت
لحمَ زنديك القيود
وحصى الحارسُ أنفاسك في السجن
وروّى
دمك الدافئُ أقدام الجنود
وتعرّت
بين أضلاعك آلام الجراح
فابتسم للجرح وأمضِ
ضاحك العينين والروح، هذا
من تباشير الصباح.

إن بدا حملك تنهدّ الجبالُ
من رؤى وطأتِهِ الكبرى، وفاضت
في سكون الليل عيناك،
بأشياء الحَزَن
ثم لم يسمعك الكون الذي نام
ولم يسند رأسك،
وانطفى البارق في العتمة مرتاعاً ورنّت
في المدى الموحش آهات الشجن
فابتسم للحزن في الليل،
فقد صرت وطن.

* قصيدة عن الفرح
(أغسطس 1982)


أنت متَّهمٌ بأنَّك كنت
تضحك
في الشارع الخلفي للأفق المسرَّج بالظَّلامِ
وكنت مٌبتهجاً، وتضحكْ
وَيَداك في جيبيْكَ،
والفرحُ المُصَادرُ في عيونك
بادياً
كالخنجرِ المسمومِ،
كالكتبِ المهرَّبةِ الغريبة
ضبطتكَ شرطتُنا الأمنيّة في الشَّوارعِ
مُتلبِّساً بجريمة الضَّحكِ الذي
يُنبي عن الفرحِ المفاجئِ والمُصَادر...

كُنتَ مُنهمكاً،
وحين رأيتهم
واريت ضحكتَك الجريمةَ في الظَّلامِ
بحجَّةِ النُّكتِ السَّخيفةِ
عن جُحَا
لكنَّ مُخبرَنا الأمين
قبس الإله وكاشف النيَّاتِ
رمز حضارة العرب الجديدة
لا تهرب الأفكارُ منه، فجئت
مقبوضاً عليكَ بتُهمة الضَّحك الذي
يَسْري كما يسري التَّسوّسُ
في نفوس النّاسِ،
كالصَّدأ المعطِّل للمسيرةِ،
فاعترف بالجرمِ
وامنحنا التَّفاصيل الدَّقيقة
عن هويَّةِ ضحكك المشبوهِ
في البلد الحزين
بيِّنْ لأعضاءِ النِّيابة بالتَّفاصيلِ
التفاصيلِ الدَّقيقةِ
عن عناوين أصدقائك
والذين يحرّضونك
كيف تحدِّق
ضاحكًا للأفق مبتهجاً
كأن أصابع مشبوهةُ سوداءَ
قد شرعت تدغدغُ
من وراء حذائك الجلديِّ رِجلك
كي تقهقه مستهيناً بالظلام
وبالقوانين التي تستهجنُ
الفرحَ المفاجئ
منْ حرَّضَ الشَّفتينِ
والأسنان في فمك الغبيِّ
لكي تمارس في الخفاءِ الضَّحكَ
والتَّحديقَ
للأُفق المسرَّج بالظَّلام

ولذا سيعدمك الجنود
في أوَّل الشهر الجديد
لكي تكون على مدى الأيامِ
أفضل عِبرةٍ للضَّحكِ
والفرحِ المفاجئ.