لا يمكن للحرب أن تحدث فقط في الخارج. هكذا يمضي الروائي الفلسطيني الشاب محمد جبعيتي نحو الداخل والأعماق في روايته الجديدة «عالم 9» (الآداب). هنا نحن أمام عالم روائي يمتلئ بندوب الحرب، في مكان وزمان غير محددين، لكننا نعلم أنهما في هذا الواقع. هنا انزياح نحو سرد مختلف عن الديستوبيا المعهودة التي تصف أحداثاً مأساوية، بل ذهاب نحو سيكولوجيا الضحية التي هي هنا امرأة اسمها 9 والاستماع إلى هذيانها الداخلي الذي من خلاله نطلّ على العالم من حولها.تتداخل سرديتان في النص الروائي، كأن اللغة هنا أيضاً تتّكئ على قطبين للتوازن، بين ابنة وأمّ، الأم اسمها 3 والابنة هي 9. تعرّضت الأم للاغتصاب أثناء الحرب الأهلية، فذهبت إلى مدينة بعيدة اسمها «يس». هناك تتعرّض البنت أيضاً إلى الاغتصاب والعنف والتمييز العنصري، لكنها تكتشف الرسم وتحاول من خلاله فهم نفسها والعالم وتكوين رؤيتها الخاصة له. يحدث ذلك عن طريق سلحفاة تتعرف إليها، لتصبح هي نفسها سلحفاة. وهذا يذكّر بمسخ كافكا الذي تحول إلى حشرة. هذا التحول ينقلنا إلى عام آخر غرائبي، ويحاول أن يناقش فكرة الحرية التي هي تحول مستمر في الذات. تقنعنا لغة محمد جبعيتي أن هذا السرد الحميم ما هو إلا رحلة داخلية ونفسية لا تقل أهمية عن ذلك اللجوء القسري إلى مدينة أخرى وعالم آخر.


الأسماء هنا هي أرقام، باستثناء شخصية الرجل الوحيد الذي يحمل اسم «ألف»، ربما لكي يختلف عن الشخصيات النسائية، أو يجسّد رغبة الكاتب في الهروب من الأسماء الاعتيادية، والقرب من هذا العالم الذي يجرّد هذه الضحايا من إنسانيتها. ولكن أليس ذلك ظلماً لها؟ تحاول الرواية أن تجيب أيضاً عن هذا السؤال عبر تلك اللغة التي تذهب بعيداً نحو إنقاذ الروح وتعريتها. هي الهشاشة التي تعيد إلى تلك الأرقام وجودها، وجرحها المكشوف الذي يمنحها اسماً آخر. قد تكون الأسماء المضاعفة 3 و6 و 9 مجازاً على مضاعفة ألمها، وقد يكون فقط لتحفيز التفكير في علاقتها ببعضها وبالمستقبل الذي يحمل أسئلة الماضي وآثاره وتداعياته. كأن هؤلاء الضحايا هم نسخة واحدة، لكن بندوب أكبر وبطرق أخرى للهرب والخلاص.
العالم المتخيل هنا موجود بقوة، يحاول أن يحاور العالم الواقعي من أجل إيجاد منفذ ما أو مصادفة لحماية الروح كما هي مصادفة السلحفاة تماماً. ولعل هذا الحضور هو محاولة لرؤية الخروج إلى العالم كما هو الخروج من الخزانة. فالعزلة التي تطوّقنا في الداخل تطوقنا في الخارج. وهنا ربما تختلف 9 عن 3، فالضحية الأم لا تجد طريقها الداخلي الحقيقي في الخروج بينما الابنة التي تتعلّم الرسم من السلحفاة، تتحسّس خروجها أكثر، ويختلق الكاتب أيضاً شخصية مختلفة هي 6 ويترك لنا فسحةً كبيرةً لتأويل مكانها الحقيقي من السرد. فوجودها الغامض هو بمثابة فاصلة بين شخصيتين أو عالمين مختلفين. يبدو أن الضحايا هنا تبدأ بالبوح لا كي تصف عوالمها الداخلية فحسب بل لاكتشاف نوافذ ما لا يعطينا الكاتب سوى ملامح عنها.
لا نشعر هنا أننا نتعاطف فقط مع الضحية، بل نفكر معها في ما تفكر به، ونحن نتأمل رحلة 9 نحو مدينة «يس»، ما هو إلا انتقال فقط ويصبح اللجوء حالة سيكولوجية لا سياسية فقط. واللجوء هنا نختبره بصوت امرأة مغتصبة استطاع الكاتب أن يتحدث بصوتها والوصول إلى مشاعرها وهي في عالمها الخاص. لا يبدو أن تلك المغامرة التي يقدم عليها الروائي صعبة بالنسبة إليه، فنختبر معه معنى أن تكون امرأة. هنا يبدو أنه يتحد معها لينظر معها اإى عالمها الغرائبي والمتوحّش.
اللجوء هنا نختبره بصوت امرأة مغتصبة


في الحوار مع السلحفاة، تتعمق العزلة أكثر، فنشعر أن اللجوء إلى كائنات أخرى هو أيضاً جزء من خيار سردي وروائي، فالرواية عالم قائم بذاته، والعزلة جزء مهم لفهم هذا العالم. هكذا يبدو أن مشروع محمد جبعيتي يحتضن الفانتازيا التي تحاور الواقع في مشاكله وأزماته من دون الوقوع في فخ الشرح وسرد المآسي. فالأحداث متداخلة جداً وليست متراتبة وهي تحاول أن لا تبدأ في مكان لتصل إلى مكان آخر، بل تتماوج وتتداخل لتصل إلى مكان في مخيّلة القارئ الشخصية. كانت هناك غرائبية أيضاً في روايته السابقة «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور»، لكن تلك الغرائبية كانت أيضاً تقرأ الواقع بعين أخرى، أو كأنها دعوة الى نص يحفز التفكير في الواقع بطريقة مختلفة. مع ذلك، فلا تغيب الألفة عن عالم 9. نشعر أنّ عالماً يكتظ باللاجئين والضحايا، عالماً يشبهنا ويضع الفن أمامنا كنافذة وحيدة للخلاص، لكن من دون استسهال تلك العملية الإبداعية الشاقة. فاللجوء القسري هنا يجعلنا ننظر إلى العالم كأنه مكان لا ملاذ فيه سوى اللجوء إلى الذات، ومعرفة تعبها الداخلي ومحاولة الخروج الواعي إلى الحرية التي يبدو أن الطريق إليها فني جداً.
حساسية جبعيتي العالية تجاه اللغة، تجعل الرواية تميل إلى عالمها الخاص، فتظهر المشاعر كأنها مركبات حقيقية لعالم الرواية، فيصير الخيال أيضاً عالماً موازياً لتلك الانكسارات، فتأتي عبارة «لم تنته» التي كتبها الروائي في نهاية العمل، إشارة إلى أن لا نهاية مغلقة حتى في الواقع، وهي وجهة نظر الرواية التي لا تصل إلى نقطة محددة، بل تستدعي أحداثاً أخرى في المخيلة.