ما زالت فلسطين ربةً للشعر والإلهام كتلك التي يخاطبها هوميروس في بداية الأوديسة، كأنّ كلّ شاعر وشاعرة من أبنائها هو إمّا عوليس الأسطورة يرتحل من منفى إلى آخر وقلبه مشدود نحو إيثاكا الموعودة وبينيلوب المنتظرة ليست سوى بيارات الأرض وليمونها وزيتونها... وإمّا هاجر المتعبة تحت الحصار والقنابل تقول شعراً لتنبت زهرة الحب من تحت الركام: هي «الشعر الفلسطيني: أنطولوجيا الشعر الفلسطيني اليوم» صدرت أخيراً عن «دار بوان» الفرنسية (2022) بنصوص اختارها وترجمها للفرنسية الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي أشار إلى أنّ شعراء فلسطين «أينما حطّوا الرِّحال، في رايكجافيك أو استوكهولم أو برلين أو باريس أو ميلانو أو غزة أو القدس أو حيفا أو الخليل أو الناصرة أو نابلس أو رام الله أو في بلدان الجوار العربيّة أو بلدان الخليج، سواء كانوا أحراراً أو يخضعون للقيود المفروضة عليهم أو داخل السجن، فَهُمْ يمنحون في كتاباتهم الشّعور، بَل الإحساس القوي بالعيش داخل كيان لم يعودوا في حاجة حتّى لتسميته: فردوسٌ مفقود، بلدٌ من وحي الاستيهام، أرضُ عذاب، أرضُ حربٍ مُسترسِلة، مقبرةٌ شاسعة، قدسُ الأقداس، عطور، ألوان، جمال الحجارة والأشجار وإبداعات الإنسان... التي لا مثيل لها. وهي في لغتنا: فلسطين! حيث «الأرض بتتكلّم عربي» كما تقول الأغنية». الشاعر المغربي ياسين عدنان الذي شارك هو الآخر في جمع هذه الأصوات الشابة في الأنطولوجيا وصفها بأنها باقة «تُشكِّلُ أصواتُها ما يمكن المجازفةُ بتسْمِيته «جيل الألفية الجديدة»، إذ تضمُّ اللائحةُ شعراء لهم صيتٌ عربي وحضورٌ دولي. لكنّ بينهم أصواتاً ما زالت قيد التَّخلُّق، وأخرى لا يتجاوز حضورُها الشعري صفحات الفايسبوك. لكنّ العِبْرة بطراوةِ التجربة وقدرتِها على فتح الشعرية الفلسطينية على أفق جديد». من النصوص بصيغتها العربية الأصلية التي ستصدر قريباً عن «منشورات المتوسط»، كانت لنا هذه الباقة في «كلمات» تحيةً للأرض التي صداها في حناجر أبنائها وبناتها برائحة ترابها المشتاق للنور والانعتاق والحرية من البحر إلى النهر

ستصدر الأنطولوجيا قريباً باللغة العربية


1- رجاء غانم (فلسطين ــ دمشق)
ضوء خافت

بقدمين حافيتين
مشيتُ الطريق المُؤَدّية إليك
بقدمين صغيرتين
لا تشبهان أقدام النساء
في هذه البقعة الجغرافيّة من العالم
بقدمين وحيدتين عاشقتين
قرّرتُ المضيَّ إليك
كنتُ مريضةً بالحُبّ
وببلادٍ طردَتْني
من كلّ مدنها وشواطئها
وبعصفور مشاكس
أُرجِعه كلّ مرة إلى قفص الروح
كنت مُحمّلة بورقِ تبغٍ كثير
وأغانٍ لم يعد يسمعها أحد.

2- أشرف الزغل (فلسطين ــ الولايات المتحدة)
شهيد

أنت وحيدٌ جداً يا صديقي
الذي في الصورة
هناك مَن يقفُ أمامك وخلفك
لكنّك وحيد
وحيدٌ جداً
وهذه ليست أغنية
كنتَ تأكل العالم
بفمك المقعَّر باتجاه السماء
فمكَ الطَبَق
المُعَدّ لطعام الآخرة
الآخرة التي كنت تتحدّث عنها
كأنك تتحدث عن أولمبياد
أنت فيه اللّاعب الأكثر براعة.

طارق الغصين ــــ «من دون عنوان» (من سلسلة «بورتريهات شخصية» ـــ 2003)


3- أنس العيلة (فلسطين ــ باريس)
الأمّ الراحلة

الرّفوةُ في ساقِ بنطالي القديم
بقيت إرثاً حيّاً
ليديكِ الماهرتين
بخياطةِ التمزُّقاتِ الصغيرة
التي غالباً ما تفاجئنا في الملابس التي نُحبّ!

كنتِ جالسةً أمام نافذةٍ مُشرَعة
على هواءٍ أليفٍ يأتي من بحرٍ لم يعد لنا
تُمرّرين الخيطَ في ثقب الإبرة
بيدٍ خفيفةٍ ترتعش

وتتحدّثين بصوتٍ مُتعَب
تسمعه مرّةً
فيسكنُ الجسد إلى الأبد

كم استغرقتُ في النظرِ إليكِ
بأنفاسٍ طويلة
وبعينين واسعتين
تُعانِقان الوقت
الذي كان يأتي وقع خطاه
من ساعةِ الحائطِ القديمة

4- جمانة مصطفى (فلسطين ـــ الأردن)
اسمي الثلاثي

اسمي الثلاثي
وُلِد في الحقل
في بلادي القديمة
جدكِ وُلد في حقل التبغ
كانت النساء بأذرع سوداء
وأكتاف بيضاء كاللّفت
كان زمناً طيباً
هكذا تقول جدتي
هكذا تُقَال الحكاية

الشمس التهمَتْ جلودنا يا جدتي
والتهم الرجال شبابنا
ثم جاؤوا لنا بأولاد نهمين
لا يفطمهم إلا تدلِّي النهد
وجفاف القلب
ومع هذا
كان زمناً طيباً

كنا نلد في الحقول
كنا نُخصِّب التراب بدم النّفاس
كنا ندفن الحبل السّري
فيربطهم بها
وكانت الأرض تقبل قرابيننا

صرنا نلد في المشافي
وظلّت الأرض تطلب دماً
أكلت آباءنا
وأزواجنا
وأبناءنا
ولم تشبع

نحن من دلّ الأرض
على طعم الدم يا جدتي
نحن المذنبات
هكذا تقول جدتي
هكذا تُقال الحكاية

5- نجوان درويش (فلسطين)
في المستعمرة

كيف ننفق أعمارَنا في المستعمرة؟
كلّ ما ألمحه حولي «بلوكات» من الإسمنت
وغربان عطشانة

الحرية تمثالٌ طيني
يتشقّق تحت شمس الساحل
والأغاني لا تعرف
أفضل شيء ألّا تعرف
المُنتظِرةُ في الرواق
أن صغيرها ميّتٌ
في غرفة العناية الفائقة

ماذا نفعل في بلادنا
التي أصبحت مستعمرة؟

6- مازن معروف (فلسطين ــ أيسلندا)
كولاج

لم يعد لي أعداء على هذا الكوكب
لذا
سأمضي
حاملاً سُعالاً في حقيبتي
وبعض الفراشات
التي توفيت هذا الصباح
مُسامحاً الأصدقاء على محبّتهم لي
أمضي نحو كوكب آخر
حيث بالخوف
نتأكد أنّ في الجيبة
قلباً مضطرباً
نُصَوْبِن به أكفَّنا في الصباح
قبل امتطاء الراحة المريضة
باتجاه ساحرات
يمشّطن شعورهن بنافذة مكسورة
تطل على كوكب سابق
لا أعداء فيه.

7- رولا سرحان (فلسطين)
لي كلُّ ما أرى

وحدي كان لي عيونُ القمحِ الخضراء
لي كلُّ ما أرى

وحدي كان لي شتاءٌ وقت الماء
لي كل الفصولِ هنا
وحدي كان لي صوتُ الأرض تُبطِلُ الصحراء
لي كلُّ التاريخ أتى ومضى

وحدي كان لي عواء الضمير يسري كالغناء
لي كلُّ انحيازِهِ المُتّكل الأعمى

ووحدي كان لي تفاصيل اختفاءِ قلبي في الهواء
لي كلُّ حُبِّ العسلِ
لي كلُّ قلبٍ هنا

8- هلا الشروف (فلسطين)
امشِ معي أيها الشعر

امشِ معي أيها الشعر
اثنان حزانى أنا وأنتَ
ومُبتهجان بالحياة وأهوالِها،
وبالحساسين على شواهد القبور،
وبالمسرّات التي تنتهي بالبكاء.
امشِ معي أيها الشعر.
سعيدان أنا وأنتَ
ومُكتفيانِ بإيماءةٍ من شجرة:
«تعالا أيُّها البائسان»، تنادي علينا،
وننكرُ أنَّنا نحن المُنادى،
ثم نجلسُ تحتها،
صديقين حميمين
شاعرةٌ وحدبتُها،
شعرٌ وسراجُه
نفصفِصُ الحَبَّ أسفل الشجرة،
ونجمعُ الورقَ الذي تناثرَ منها أخضرَ يانعاً،
ونصنعُ منه قواربَ للروح
ونجلسُ تحتها وننام.

9- غياث المدهون (فلسطين ـــ ألمانيا)
لو كنا في عالم افتراضي

لو كنا في عالم افتراضي
لنسيتُ أن أتذكر الحرب
ولتذكرتُ أن أنساها، كما ينسى القتلى ملامح الجنرال
وكما يتذكر الشهداء الطريق إلى البيت.
انتهت الحرب، وأصبح جميع من عرفتهم ميّتين، أو مجرمي حربٍ، أو مجرمي حربٍ ميّتين.

لو كنّا في عالم افتراضي
لأطفأتُ الحرب كما تطفئين التلفزيون
ولكنّنا وُلدنا في عالم ابن عاهرة
وحين يولد الناس في عالمٍ ابن عاهرة
يتحوّل الزمن إلى آلةٍ كاتبة
والقتلى إلى قصائد.

10- مروان مخول (فلسطين)
أبيات بلا منزل

يظنُّ الحوت بأنه كبير
هذا الصغير، جدّاً
في البحر
■ ■ ■
كم أنت كبير فعلاً أيها البحر
تلفظنا إلى بلادنا كلّما
غرقنا في حُبّها
■ ■ ■
لأنه وفيٌّ هذا الظلّ
عندما يضعوننا في القبر لن يعود واقفاً
بل بجوارنا سينام
■ ■ ■
كفى!
يقول الموتُ للطّغاة
لقد شبعت
■ ■ ■
أن تكون من فلسطينيِّ الــ48
يعني
أنك أغرب مواطن في العالم!

11- خالد سليمان الناصري (فلسطين ــ إيطاليا)
على قبر بودلير

[عندما سمعتُ هذا الصوتَ، وكنتُ حينها جالساً قربَ قبرِ بودلير، شعرتُ بخفَّةٍ، وابتسمتُ. هذه كلُّها كانت استيهاماتٍ مضحِكَةً. ما الدافعُ الذي جاء بي إلى قبرٍ، وأجلسَني قُربَهُ مفكِّراً بالشِّعْر والشعراءِ؟ هل لأنه قبرُ شاعرٍ؛ أم ربَّما هي حاجتي لأبٍ شاعرٍ، يأخذُ بيدي؛ أو لأكون أكثرَ شجاعةً وأقولُ: منذ أشهرٍ، لم أكتبْ شيئاً! أشعرُ بالعجزِ، وأشعرُ أني أُفْرِغْتُ تماماً؟ مجرَّد غصَّات بين فترةٍ وأخرى، بالكاد التقاطةٌ هنا أو هناك، وغالباً مصدرُها الحَذَاقَةُ أكثرُ من الشِّعْر.]

الشِّعْر! ها أنتَ تدفعُ بي لنَبْشِ القبورِ
وها أنا فرحٌ أبحثُ عنكَ
أراكَ في النبيذِ الرخيصِ على شفاهِ المُشرَّدينَ
أحمرَ قانياً
أراكَ في الورودِ الذابلةِ
في أيدي البائعين الجوَّالينَ اللَّحوحينَ
أحمرَ ذابلاً

في كلِّ مكانٍ أراكَ
لكنِّي كلَّما مددتُ يدي لألمسَكَ
تسقطُ من يَدِي حاسَّةُ اللَّمْسِ.

12- أشرف فياض (فلسطين ــ السعودية)
أن تكون فلسطينياً

أن تكون بلا وطن
يعني بالضرورة أن تكون فلسطينياً
أن تكون فلسطينيّاً
لا يعني إلا أن يكون العالم كله وطنك
لكنَّ العالمَ لا يستوعب هذه الحقيقة
شأنها شأن الكثير من الحقائق الأخرى
أن تعتاد الموت
أن تبتلع الألم بسهولة
أن تخسر كلّ شيء
أن تمتنع عن البكاء
أن تكون كائناً مطاطياً وشفافاً ومعتماً
وغير منفذ للضوء.
ولا يمكن رؤيتُك بالعين المجردة
ولا تحت الميكروسكوب
ولا بالمرصد الفلكي
وتشعر بأنك مرفوض من العالم بأسره
وأنَّ مُطالبتَك بحقّك الإنساني رفاهيةٌ كبرى
لا يستطيع العالم توفيرها لك.
أن تتحدّث بكلّ لغات العالم... ولهجات الشعوب الأشدّ تعقيداً..
وأن تكون بكلِّ الألوان
وأن تنتمي لجميع الأعراف
وتتدرّب على كل أشكال الموت
وتمارس كل أشكال الحياة.

13- مايا أبو الحيات (فلسطين)
ماذا لو

كلُّ خروجٍ من البيت
محاولةُ انتحار
وكل عودةٍ فشلٌ
وأنا أخاف أن لا أعود
أخاف انفجارَ العجال المحروقة
تهوُّرَ الجنود
أخاف تعصُّبَ المراهقين
غفوةَ سائق الشحن
وإيجاد ما كنت أبحث عنه
أريد العودة إلى البيت كاملة
لكنني أترك فتاتاً من الخبز
في الطريق
هكذا أستمر بالخروج والعودة
إلى أن تأكل الطيور.

14- كوليت أبو حسن (الأردن ــ فلسطين)
أصدقائي الشعراء

أنتم ضروريون
من أجل اكتمال قصيدتي!

نحن سُلالة القاتل
عمومة القتيل
ورثة الذنب
وتلامذة الغربان
في الأرض الخراب

نحن الناجون من فخِّ الفضيلة
وكذْبَة الخير
الساقطون من جنان الرب
وحملةُ ألويةِ الشَّر في جحيمه
لذا..
نشحذ خناجرنا
وننام
نحلم بأعناق
الأخُوَّة الطرية!

15- رائد وحش (فلسطين ــ ألمانيا)
غياب 1

ألا تزال لكَ تلك العينان الطيبتان
كبيتٍ في الريف؟
ألا تزال بذلك الشَّعر الجاف
إذ يبدو مليئاً بالغبار
بمجرّد أن يمرّ عليه ضوءُ الشمس؟
ألا تزال مؤمناً
كما لو أنّ الله وعدك بالنبوّة؟
ماذا فعلوا بك؟
ما الناقص من صورتك؟
قل لنا
ساعدْ خيالنا لنراك؟

16- هند جودة (فلسطين)
لا سُكَّر في المدينة

أريد أن أخبز كعكةً
ولا سكّر في المدينة!

لا ابتسامات تهطل في الوجوه العابرة
لا شرفات تطلّ على الأحلام
والنوافذ لم تعد إلى أماكنها
منذ آخر الحروب!
■ ■ ■
أريدُ أن أخبز رغيفاً
ولا قمح في الحقول
لا يوجد سوى فزّاعةٍ متهالكةٍ
تُرعب الفلاحين
ولا تخيف الغراب!
■ ■ ■
أريدُ أن أخبز قمراً
ولا فرن يتّسع لاستدارته الشاهقة
لذا قرّرتُ أن ألتهم قلبي
نيّئاً
فلا نار في المدينة!

17- طارق حمدان (فلسطين ـــ باريس)
أسئلة مواطنة

أتخيلُ «روجيه دو ليل» في إحدى ضواحي القدس
محتمياً خلف صخرةٍ
يكتب هذه الكلمات في مواجهة الاحتلال...
هل يمكنُ أن يتحوّلَ هذا النشيدُ
إلى «لا مارسييز» فلسطينية؟
هل يتناسبُ الدمُ مع شعارات اليوم
المطرّزة بالإنسانية؟

مرحباً فرنسا
ها أنا أخرجُ من قاعة البلدية
مُثقَلَ الكتفين
أحملكِ كطفلٍ في أولِ مشيته
يحملُ جبلاً من الأسئلة
قد أرمي بعضها عندما أتعب
قد أحتفظُ بالباقي
أو أتخلّى عنها كلها
إلا سؤالاً واحداً
سيظلُ يقرعُ كمطرقة حدادٍ
في رأسي الصَّلب:
ماذا يعني أن تحصلَ على بيتٍ
بعد أن تُحرَمَ من بيتك؟

18- أسماء عزايزة (فلسطين)
أسطورة

اشتقَّ العربُ لفظة «أسطورة» من اللفظة اللاتينيّة Istoria، أي تاريخ. وكان ذلك أذكى ما فعلوه.
كان التاريخ كلباً مُقيّداً إلى شجرة. فمرّ الناس وأشفقوا على حريّته التي يسيلُ لعابها من الجانبين. تمتموا كلماتٍ ومضوا. مرّ آخرون وطبطبوا على ظهره، فنبحت نواياهم وفزعوا. مرّ آخرون وركلوه كأنّه حجر عثرة، لكنّه لعق أقدامهم وكانت حلوة على لسانه. أما الكلب، فلم يكن يفكّر سوى بالطريقة التي يستطيع فيها أن يكون هو الشجرة وأن يكون المارّون مربوطين إلى جذعه.

19- داليا طه (فلسطين)
أنت

في لحظاتٍ قليلةٍ من عمُرِكَ
شيءٌ ما سيهزُّك
ويذكِّرُكَ بموطِنِكَ الأول
مرأى التلالِ مثلاً
ولكن هذا سيأتي في وقتِه
الآنَ أنت هَشٌ ومُذهِل
أنتَ لا تملكُ عُمُراً بعْد
الجميعُ يتفرَّسُ بك
هذه ليلتُك الأولى على وجهِ الأرض
والأجواءُ تشبهُ أجواءَ العيد
ولهذا يفكِّرُ بك الجميعُ كهديَّة
ولكن إذا كرَّرْنا هذه الجملةَ كفاية
هذه ليلتُك الأولى على وجهِ الأرض
سنكتشفُ أنك في الحقيقةِ مسافر
كمَن وصلَ نزُلاً للتَّو
في الخارجِ عاصفةٌ
لكنَّ أبوابَ النُّزُلِ دائماً مفتوحة
ولا تُغلَقُ أبداً
وسوياً
أنتَ والعاصفة
ستدخلان.

20- نداء عوينة (فلسطين)
الآبقات

قُم، أيها العتم، أرح ذراعَك من يديّ وصدرَك من نحيبي.
قم، لا تعتنق أحداً سواي.
أنا النساء اللواتي لا يذكرنا أحدٌ، أنا النساء الخائفات... ذوات الغوايات الكثيرة، يقضين الليل وحيدات، يَعْدُدْنَ عشاقهنّ البؤساء، ويخبئنهم في صندوق من الذكريات اللئيمة. لكنني حين أطارد حبّاً، لا أرى سوى الرجال الذي يبتسمون من أجل الحبيبات الحزينات، ثم يضاجعوهن في آخر الليل، لأنهم خائفون من القول إنهم حزانى.

21- أمينة أبو سفط (فلسطين)
قصيدة

أخذتُ من الشجر
جنونَه وهو يُهجَر
من البيوت ذاكرتها
وهي تُترَك
من الصُّور
خلودَها وهي تُلتَقط
من الليل
هدوءَهُ وهو يحُلّ
حدثتُكَ بهذا دوماً
عن أشياء قاسية
صنعتني
عن كلّ كلمة فارغة
ملأت فمي
ثم خَرَجت منه
كفقاعة
فالتبسَ الأمرُ عليك
إن كنتُ أتحدَّثُ أم
أغرَق!

22- هشام أبو عساكر (فلسطين ـــ تركيا)
شذرات


مكعّب روبيك
في يدٍ غاضبة
هذا العالم.
كلّ يومٍ أحلم أنني
أحرّكها
لأعرف فقط
كيف ينجو الرّب من لعبةٍ
اخترعها بنفسه؟

23- حسن مخلوف (فلسطين)
في الثلاثين

‏ما الذي يجعل شابّاً في الثلاثين
يفرغ من أعماله
ليُفسِّر ضجرَ سمكةٍ
في حوض ماء واسع!
أذكرُ في صغري
عندما كنتُ أنام في مطبخ المنزل
على أريكة منزوية
- لأن البيت يشبه حوض ماء ضيق -
لم يكن يزعجني الأمر
كان خيالي رحباً
كنتُ أرسم على كراسة الرسم
غرفاً واسعةً لأنام بها
اليوم
وبعد عشرين سنة
أصبحت لديّ غرفٌ كثيرة وواسعة
لكن أصبح كُل ما يزعجني حقاً
أني فقدت موهبتي في الرسم.

24- رزان بنورة (فلسطين)
سينما كبيرة

أنظرُ إلى هاتفي
في كل مرة
أسمعُ فيها رنين الهواتف
لكنَّ شاشتي سواد
في غرفة الطوارئ
هناك عشرات الجرحى والمتألمين
وهناك أيضاً مرافقوهم

هذه سينما كبيرة هنا
دون دفع النقود
أشاهد كل هذا
بينما أُرافقُ

- هذا عظيم -
ألمي.

25- إيناس سلطان (فلسطين)
لولا أني كنت وديعة

تكلمتُ عن المحاكاة في الحياة
وعن الأساليب الجديدة
في وصف ما تفعله الحياة بنا

«جَلدَتْنا القحبة».
وعن سرقة الأعمار منا
وعن كيف لامرأة ميتة
أن تتحرك بهذه الطَّبيعيّة
بين الناس

قلتُ:
لربما أنا وحيدة
لأنّي لم أنجب أطفالاً
فأنجبتُ طفلاً رقيقاً

كبر
قلّدني كثيراً
حتى صار وحيداً مثلي
وندمنا معاً
«إلهي
لا تجعلني آسفة
ولا تسحبني إلى الداخل
كثيراً»

26- يحيى عاشور (فلسطين)
غزَّة في الحصار

مرةً نظنُّ
أننا في مركبٍ
والعالم كله من حولنا سمك

وفي مرةٍ أخرى نرى
أننا لسنا سوى غابةٍ
والعالم كله من حولنا قنَّاصة.


شبه معجزة

عبد اللطيف اللعبي*
يكفي أن يُنْطَقَ اسم فلسطين (التاريخ، الأرض، البلد، الشّعْب، عدالة القضية، الكفاح من أجل الحياة، والآن الكفاح من أجل البقاء) ليحضر الشّعرُ كضيفٍ من تلقاء نفسِه. ونادراً ما نَجِدُ في تاريخ الأدب اسم بَلَدٍ، والأمر يتعلّق هنا بفلسطين تحديداً، يستحيل في حدّ ذاته شِعريّةً.
إنها معركة داود ضدّ جالوت على نحوٍ معكوس! هذا الأخير، خلافاً للأسطورة، يعرف أكثر فأكثر كيف يُناور، ويُغَدّي السّراب، ويربح المسافات، حقيقةً ومجازاً، لأجل حشرِ الخصم في طريق مسدود وإغلاقِه عليه بعد تجريده من مِقلْاعِه. ويبدو أنها استراتيجية مربحة إذا اعتبرنا الصمت الذي يلفُّ لسنوات عديدة مصير الشعب الفلسطيني.
هذا ما يبرّر في نظرنا هذا العمل ويُضفي عليه طابع الاستعجال. فالأمر يتعلق بالضبط بوضع حدٍّ لهذا الصمت والتنديد عالياً بإنكار الحق وبتنظيم فقدان الذاكرة، وكذا بمنحِ الصوت من جديد للّواتي وللّذين يعيشون اليوم في ظلمة الطريق المسدود، وهم غير مرئيّين تقريباً ولا يُسْمَعون على أي حال. وهنا يقرأون ويكتبون ويحبّون ويحلمون ويسافرون بعيداً ويفكّرون بحرية.
إن الحقيقة تُلزمنا أن نقول بأنّه في اللحظة التي هَمَمْنا فيها بالقيام بهذا العمل، كنّا بعيدين عن تَخَيُّل ثراء وفرادة المنجم الشّعري الذي كنّا مقبلين على استكناهِهِ. وكلَّما توغّلنا داخل المنجم، أثارَنا تعدّد الأصوات المذهل الذي ينبعث منه. ثُمَّ، لِمَ لا نُقرُّ على التَّوّ، ومن دون إرادة النَّيل من السّادة الذكور، أنّ الأصوات النّسائيّة هي التي كانت تقود الأوركسترا وتقلب الطاولة بكسر أكثر التابوهات انغراساً في الذهنية العربيّة الإسلامية المحافظة، وهي تتحدّث بصراحة عن الجسد، والرغبة وأنواع الحرمان، وبإعطائها رؤيتها، غير المسبوقة طَبْعاً، عن الجنس وأحاسيس الحبّ.
إنّ الشعراء، النساء أو الرّجال، الذين أعطيناهم الكلمة هنا منتشرون في كل بقاع العالم أو محشورون داخل سجون بسماء مفتوحة أو مغلقة (غزة، الضفة، القدس الشرقية)، أو يعانون داخل «إسرائيل» من تمييز عنصري (أبارتايد) لا يعلن عن نفسه، أو مُجَمَّعون منذ عقود في مخيمات خَصَّتْهم بها مختلف بلدان الجوار (الأردن، لبنان، سوريا)، أو منفيون في بلدان الخليج من دون أن يتمتعوا بأيٍّ من حقوق المواطنة.
بالنظر لهذا الواقع المعيش، كان من الممكن أن نتوقّع شعراً متشظّياً، غير متجذّر في واقع محدّد، من دون وشائج ملموسة تربطه بأرض ومجتمع وثقافة واستمرارية تاريخية، وهذه كلها نواقص تضع في خانة الإشكاليات كلّاً من شعور الانتماء والاعتراف والمطالبة بهوية خاصّة. والحال أن الأمر غير ذلك تماماً.
تلك إذن هي شبه المعجزة التي تفوّق هؤلاء الشعراء والشاعرات في تحقيقها.

* من توطئة الشاعر المغربي للأنطولوجيا


قصائد زمن إلكتروني

ياسين عدنان*
عاش الشعر الفلسطيني زمناً اتّضحت فيه الفكرةُ ونضجت الرؤيةُ وصَفَتِ العبارة، واختار الفلسطينيون أن يستأمِنوا شعراءهم على كلّ ذلك. وفعلاً، هجسَ هؤلاء بما في ضمير شعبهم فتعلّق بهم، ومعه جمهور الشعر العربي، وتوَّجُوهم شعراءَ قضيةٍ وأمراءَ كلام. ثم هلَّ جيلٌ لاحقٌ بأصوات غدَتْ نبرتُها أكثر خفوتاً، فعكفوا على بلورة تجاربهم الخاصة بإصرارٍ هادئٍ على تحرير فلسطين من البلاغة أولاً، ما دام تحريرُها من الاحتلال أمراً صعب المنال.
شعراء هذه الأنطولوجيا يكتبون بلا أوهام. هكذا ببساطة، ومن دون أن يدَّعوا الانخراط في مشاريع كبرى. حتى صورة الشاعر لا تُغريهم، كما أنّ لقب «الشاعر» لن يُفعِمَهم بالزهو في فضاءات عيشهم الواقعية منها والافتراضية على حدٍّ سواء. أمّا البلد، فالقصيدة أبسط من أن تدُلَّ عليه.
هي علاقاتٌ ذاتيةٌ مع الشعر والبلد والفكرة والروح والجسد. كلٌّ يبوحُ على سَجيّتِه، بتلعثم أو بصخب. وكلٌّ يكتب جسدَه، بشراسةٍ أو بخَفَر. وكلٌّ يستحضر القضية بطريقته، بسخرية أو بغضب. لكن المؤكّد أنّ ذهاب هذه الأصوات جميعها إلى الشعر، يصدر عن إيمان صادق به وبالحاجة إليه.. وعن طاقة متوتّرة ومؤثّرة. إنها قصائد ينشرها أصحابها طازجةً على الفايسبوك أحياناً. قصائدُ زمنٍ إلكتروني لا يشبه الزمن القديم. فلسطين فيها متعدّدة، حدودُها متلاطمة مثل موج لا يحدُّه ساحل. والشهيد فيها لم يعد الرمز المُحنَّط في أكفان ورقية، ولا عادَتْ ذكراهُ دافئةً في القلوب كما في الأغاني القديمة.

* من مقدمة الشاعر المغربي للأنطولوجيا