تُجيد الطبيبة الروائية السورية سوسن جميل حسن استقراء نفسيّات شخوص أعمالها الروائية، فتدخل في أعماقهم درساً، وتصويراً، وتفتيتاً، وتفكيكاً لخطوط زمن عيشهم، ولعيش المحيطين بهم، وللبيئة الاجتماعية بكل حمولاتها وطقوسها التي أرست، ورسّخت تلك الملامح العريضة والرفيعة لهذه الشخصية وتلك، حتى لتبدو كأنها اختصاصية في حقل علم النفس. بعد خمسة أعمال روائية وأبرزها «النبّاشون» (دار الآداب)، صدرت أخيراً روايتها «اسمي زيزفون» (منشورات الربيع/ القاهرة) التي غابت من صفحتها الأولى فقرة الإهداء، وهي العادة التي دَرَجَت في استهلالات مؤلفات الأدباء والكتّاب، فكلمات الإهداء بمثابة العنوان الثاني للعمل/ المؤلَّف، كما أنه يشي بدلالة ما يبغي المؤلِّف الإفصاح عنه، وإن كانت جهيدة/ زيزفون الشخصية المحورية في هذا العمل، قد أفصحت عن مكنونات أوجاع روحها العابرة لعقود من الزمن. زمن عركته وعركها ولم تترك للدموع لحظة انحباس.


زيزفون المولودة باسم جهيدة الذي سَعَت لمحوه، قررت أن تكتب ذكرياتها بعد «الموت الغشّاش» أو الغيبوبة التي أصابتها، وبعدما «التهمتني حياة لا تشبه أي حياة كغيري ممن حولي» (ص251). ذكرياتها هذه إنما هي ذكريات مجتمع بأفراده، ومعتقداته، وسلوكياته، التي تفرض على القارئ مقارنتها بأي مجتمع آخر عربي أو عالمثالثي، ولمَ لا يكون غربياً حداثوياً، بافتراض أن أبطال الرواية هم من طينة البشر؟
هذا التشابه في بيئة زيزفون المجتمعية/ الاجتماعية بكل عبء التاريخ عليها، نجده في سواها: فعندما أصابت الغيبوبة زيزفون، راقب المحيطون حولها مَوْتَها. وعندما صَحَتْ أكثَروا من نفاقهم بسلامتها! إنها ازدواجية المرئي والخَفيّ في السلوكيات. تتحدث زيزفون عن تعب والدتها بهموم البيت وأمور الدكانة، والعناية بخمسة أطفال وأب لم يرض أهله عن زواجه بها لأن «عائلتها من عشيرة غير عشيرة والدي»، ليبرز هذا الرفض المتبادل في سنوات الحروب حيث تتأجّج الكراهية، فيصير الآخر «من غير ملّتنا»، فتحضر الأساطير والشق اللاإنساني لدى مفسّري الدين وفقاً لأحقادهم ويحضر معها تكفير الآخر، فتذوي النفوس على إيقاع الحماية والاحتماء مهما كان ثمنها وبدائلها.
تبدأ حكاية زيزفون مع افتراء طاول أخلاقياتها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وأجبرها على الخضوع لأسطورة يقينية تسود المجتمع وتتعلق بمزار أبو طاقة لكشف الكذب من نقيضه. بعد اجتيازها الامتحان «قدحتْ شرارة السؤال في قلبي قبل عقلي»، و«أنا زيزفون التي خلعت عنها جلد جهيدة، نعم حرقت المزار أبو طاقة في تلك الليلة الخريفية». ذاك الحريق رغبت الروائية سوسن حسن - كما يبدو - أن تمزجه بحرق العادات الرابضة على الصدور التي أضنت بعض شخوص أبطال روايتها مثل سعيد الغارق بوحدته وإنسانيته والمُتّهم بالجنون، لكنه لم يكن يبغي سوى حريته وتطور قيم المجتمع... أو منير الهائم في البرية مع ديكته والمصنّف عند الناس أنه ناقص عقليّاً لكنه «يريد أن يرتشف الحياة على طريقته»، ليكتشف هؤلاء قدرته على الوفاء وكتم الأسرار والصمت، نقيض ما يكونونه عادة في تبجيل المتوفَّى وكانوا «يرفعون بالميت مهما كان إلى مراتب لا تخطر على البال من النزاهة والخلق الحسن... وبعد انتهاء فترة العزاء يتحرر المحيطون من سطوة الموت ويعودون إلى دوامة حياتهم، فيفرغون حينها لنبش سيرته وفضح المخبوء» (ص125). كما تسلّط الرواية الضوء على سلطة القوة، وقوة المتوارث، كتوريث البنات وما تعتبره بعض المجتمعات المتديّنة شكلاً أنه عار اجتماعي (وما زال)، وهو ما حصل مع والد زيزفون تجاهها، مع أنها صارت الأم الثانية في البيت بعد وفاة أمها المبكر، ومثلها في الإشارة إلى الفوارق الطبقية والنظرات المختلفة في تقييم هذا وذاك، «فأنا جهيدة عاملة الخدمة، وهنّ الطالبات الجامعيات» أو العنصرية التي تشوب نفوسنا بتسمية بائع الفستق على الكورنيش البحري بفستق العبيد لأن «سحنة باعة الفول لا تشبه سحنة أهل المنطقة» (كم تبدو متخفّفة هذه العنصرية إزاء ما تمارسه بعض شرائح مجتمعات الغرب المتقدم؟! وأيضاً في سياسات بعض حكوماتهم من دون إعفاء مجتمعاتنا من هذا المرض).
تحكي الرواية عن بيئة معيّنة في المجتمع السوري


يحتل الموت ومعناه وحضوره مساحة في صفحات الرواية «كأن الموت يمتلك قدرة خارقة على إضاءة الماضي، موت من نحبّ؟ هل لأن استحالة اللقاء تمنح الحياة معهم هذه الهالة الساحرة، وتُحيل الذكريات بكل شجنها إلى حالة تُشبه الأحلام المستحيلة؟» (ص209)، كما يحتل غياب الوعي روح هذا العمل الروائي من «انهيار سقوف الناس، سقف الوعي وسقف الضمير وسقف الأخلاق»، ومثله في الغثيان من الفاسدين وحديثي النعمة.
صحيح أنّ «اسمي زيزفون» تحكي عن بيئة معينة في المجتمع السوري، وقد حرصت سوسن حسن على كتابة بعض الكلمات بلكنتها المحلية (مَيْموتوا يا خيتي)، لكنّ الأصح أنها رواية مليئة بصورة المجتمعات الأخرى، لأن «الأمر الوحيد المؤكد أن لدينا فائضاً من الدموع ومن أسباب البكاء» (ص271)، وهناك «غول اسمه كورونا، هكذا يسمونه، يقولون إنه بارع في حصد الأرواح والتسلّل إلى الأبدان من حيث لا تحتسب، وإنه عادل في توزيع موته» (ص289-290).