توقّف قليلاً أيها الهارب بغيومك التي علّمتنا فرح الزوال، فعلبة رسائلك ممتلئة، أنت الذي كنتَ بيننا بكل جلال العابر، أنت الذي أردت لكائنات الفردوس أن تكون دائمة التجدّد رغم أبديّتها لئلا يكون المطلق مملاً: «كل ما أدريه هو أني، وأنا الهارب من موت الأشياء هنا، لا أريد أن ألقى موتها هناك. ولكن أيضاً لا أريد أن ألقى عكسه، عكسه وحده، محنّطاً في جموده، فاقداً جاذبية العابر. أقل ما آمله من الفردوس أن يجمع في كائناته، في هوائه وألوانه وأعماقه، مسافتَي الزمن والأبد». هي رسائل من أجيال وجدت في «لن» مانيفستو للرفض والحرية والعشبة الهوجاء التي تنتهك نظام الكتابة والعالم ولا جمال للحديقة إلا بها، وفي «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» ينابيع الحب والشعر وربّات الإلهام التي طاردوها طويلاً، وفي «خواتمك» عنب العالم القديم وفضة تسيل من القمر، أنت الذي قال محمد الماغوط عنك يوماً: «الحرب قد لا تبكيني، أغنية صغيرة قد تبكيني، أو كلمة لأنسي الحاج (27 يوليو 1937ــــ 18 فبراير 2014)». أجيال من الشعراء كنتَ قد خاطبتهم في رسائلك الأخيرة بما يشبه الوداع، وها هم ولا سيما جيل الشباب منهم، يبادلونك التحية والحب في ذكرى رحيلك الثامنة، فاهرب من موتك قليلاً لتنسل بين مسافتي الزمن والأبد وافتح رسائلهم لعلك تجيب عن السؤال الذي رميته علينا ككرة من اللهب: «ماذا صنعتَ بالذهب، ماذا فعلتَ بالوردة؟».


شعر الطواويس البيضاء
سمر دياب *

عزيزي أنسي
لو أردتُ أن أحيل شعرك إلى مصدر صفات خام لقلت إنّه شعر الطواويس البيضاء، التي لا تحتاج أن تطير كثيراً لتبهر، بل يكفي أن تقف وتستعرض حقيقتها. أشعر أنّ كل شيء في قصائدك أبيض. التمرّد والايروتيك والحب والألم، الغنائية هناك أيضاً بيضاء، ربما لأنه لون التأسيس، أبيض قصيدة النثر التي قدّمتها إليّ على طبق من فضة، حين تعلقت عيناي في سن مبكر بغلاف كتاب عليه كلمة بخط أحمر عريض. عدت بالكتاب بكل حماسة فتنة المراهقة المحبة للغة العربية وتبحث عن شعر جديد، تعرفه لكنها لا تعرفه. وجدت «لن» وكان الأمر كمن عثرت على كنز.
يدخل القارئ إلى قصائدك ليحتفي معك بثورته، وغالباً ما يخرج متصوّفاً. إنها تلك الثورة التي تجعلك تزهد بكل شيء سوى بالحلم والفكرة، حيث الرقة تدافع بضراوة عن ذلك المختبر الشعري العنيف، والغرابة هناك ليست هدفاً وتمايزاً، بل وسيلة لتحريك ماء آسن أغرق الشعر.
يُحسب لك أنك استطعت أن توازن بين ذلك التخلي المدوّي عن «نظام الشعر» وبين التمسّك ببنيان شعوري متين أبقى على طراوة القصائد وحماها من التخشب والسقوط، رغم أنها وحيدة. في اختلاف مراحل كتابتك، كانت ثمة عاطفة مفتوحة على مصراعيها، تستقبل الجموع لكن من بعيد، فهي من نفسها ولنفسها، وبقي طيف ماورائي يحوم في قصائدك ويمسك روحانية الشاعر بحرص، ولعل ذلك ما يجعل شعرك يحمل غواية التأمل.
أعود إلى قصائدك كل حين، كلما ملت إلى تبني مشاعر الخلاص الفردي وكلما أطفأني الحاضر واحتجت شعلة البدايات، ورغم أني لا أعرف أين تخبئ النار في شعرك وأين تخبئ الوردة، لكنهما هناك، في مكان ما، حاضرتان على الدوام، وكلتاهما بيضاوان.
إنّ الشعر هناك يشبه حلماً حارب وانتصر.
* شاعرة لبنانية (إسبانيا)

ما زلت أنتظر أن تردّ على رسالتي
مروان علي *

عزيزي أنسي
كان ذلك في بداية الثمانينيات وأنا أبحث بين الكتب في المستودع الكبير لمكتبة «دار اللواء» لصاحبها أنيس حنا مديواية في القامشلي حيث عملت لسنوات قليلة خلال فترة دراستي الثانوية، وجدت أعداداً قديمة من مجلة «مواقف» و«الكرمل» وكتاب «لن».
لفت انتباهي العنوان بقوة. لم أنتظر وصولي إلى البيت، في الطريق كنت أقف وأقرأ من المجموعة. وحين وصلت إلى البيت الطيني في أطراف قدوربك قرب الحدود التركية، كنت قد التهمت المقدمة التي صدمتني وفتحت لي أبواباً في علاقتي بالقصيدة الجديدة وصار هذا الاسم (أنسي الحاج) حاضراً بقوة ودليلاً لي في قراءاتي. قرأت كل ما كتبتَه، أقصد ما استطعت أن أحصل عليه من كتبك ونصوصك وخواتمك ومقالاتك وأنا في قرية كردية نائية. أَمِنَ الممكن أن يقع قارئ في غرام مجموعة شعرية؟ هذا ما حصل لي مع «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (ليس هذا فحسب، بل صرت أقارن أي نص يقع تحت يدي وعيني دون دراية برسولتي وشعرها الطويل وينابيعها وجبالها).
عزيزي أنسي،
كم تمنيت لو أنك كنت كردياً، تمشي في شوارع القامشلي وتحت أشجار الحديقة العامة، تجلس وتقرأ لنا بالكردية قصائدك ثم تمشي لتشرب قهوتك في مقهى «گربيس» وقبل أن تصل إلى طاولتك التي لا يسمح النادل السرياني لأحد بالاقتراب منها خصوصاً الشعراء الشباب، تمر قرب مدرسة القادسية، حيث أجمل بنات القامشلي، ثم تأخذ طريقاً مختصراً عبر حارة الأرمن وتتأمل النوافذ والجميلات والشرفات في سوق اليهود.
حين وصلت إلى بيروت في بداية تسعينيات القرن الماضي بالصدفة وجدتك تمشي في شارع الحمراء. شال أحمر ومعطف كحلي طويل كنت في طريقك إلى امرأة... ربما غادَرَتِ الكتابَ الذي أُحِبُّه (الرسولة بشعرها..) فوحدَها تستحق أناقة الشاعر وعطره.
كتبت لك رسالة طويلة قبل سنتين وأرسلتها بالبريد المضمون إلى عنوانك في بيروت. حدثتك عن سوريا التي تحبها وعن حالها الآن وعن الحرية التي كنّا نريد لها أن تنقذنا فدفعتنا بكلتا يديها نحو الهاوية. صديقي وشاعري، لا زلت انتظر أن ترد على رسالتي التي لا بد أنها وصلت إليك. لا تضيع الرسالة حين تمضي إلى شاعر كان باباً من أبواب بيروت الجميلة رغم كل شيء.
* شاعر سوري (ألمانيا)

طب مقاماً في الوطن العميق
محمد الشركي *

العزيز السامق أنسي الحاج
في ذكرى إبحارك الكبير إلى عمق «الأيام الآتية» أبعث إليك باقة زهور برية من هذه السواحل. فاليوم توقد شمعتك الثامنة في عمرك الماورائي الطويل إلى ما لا نهاية. هناك حيث شاء لك «الذهب» و«الوردة» أن تكون، لأنك عرفت ما تفعله بهما حين سافر بهما قلبك إلى أقاليم ليلهما النورانيّ. وهناك حيث نبت البريق البدائيّ لـ «خواتمك» الفاخرة. لقد كنت وستبقى الأنيق الروح الذي تورط في مكنون العالم بما هو ألم عميق وفرح سحيق. أما الموت، فما هو سوى أرض بدايات أخرى للشاعر الذي يرتقي سلّم دمه العالي ليقفز ويركض فرحاناً ما وراء أسوار النهايات. طب مقاماً في الوطن العميق الذي تسهر عليه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع».
* الرباط

حدود من العصافير
سالبي بغده صاريان *

عزيزي أنسي
ورقةٌ خضراء صغيرة ترتعشُ جوارَ لوحة زيتيّة مُعلّقة على الجدارِ أمامي.
تقولُ الخضراءُ جدّاً:
« أرفضُ هذه الرّاحة» . تهمس لها اللوحة النديّة جوارها: «في بلادي... حيثُ الحدودُ عصافير... لا تنتهي الحدودُ بينَ ...بينَ ..» وتصمت ..
تتأمّلني خلسةً من خلف الكتُب وأنا أفتح علبة خشبيّة مُطعّمة بالصّدَف جلبتُها معي من حلب إلى فرنسا، كي تبقى الينابيع منسدلة منسابة من بيتي هناك إلى بيتي هنا، تماماً كشَعرِ جدّتي الأحمر الطويل.
في العلبة المُصدّفَة خواتم مُرصعة برائحةِ أصابع أمّي، وخواتم مُنكّهة بزيت الكتّان والتربنتين وحفنة ورود مُجفّفة و...
ـ «ماذا صنعتِ بالذهب، ماذا فعلتِ بالوردة؟»
تقولها بحسرة وتمضي للغرفة الأخرى الصامتة جدّاً، تملؤها بضوء فيروز، لأنكَ «خُلِقتَ خائفاً... لأنكَ تخافُ العتمة، فتُشعلُ ضوءاً فيه»!
أُغلِقُ علبةَ «جماهير الخواتم» بسرعة.
أعرفُ أنّكَ تخشى الجماهير لأنها قطعان تدهسُ الأخضر واليابس من الروح، وتعشقُ الشعب، فقط الشعب!
أغلقُ العلبةَ وأفتحُ زجاجةً خبّأتُ فيها نحلة أحضرتُها من غابةِ قريةٍ فرنسية صغيرة، أُطلِقُها على صفحاتِ «لنْ»، لأنّها تستحقُّ «الرّاحة المُستحقّة»!
أسألكَ للمرّة الأخيرة:
« ما هو الحُبُّ؟» لكن أرجوك، لا تقُل كما دائماً، أنَ الموتَ خيالُ الحياة، والحُبُّ خيالُ الموت، إلى أن يسقطَ العصفور!
لا تقُلها لأنَّ الحُبَّ خيالُ صوتكَ يا أنسي.
الحُبُّ هي تلكَ العصافير التي غَرَسْتَها كزهراتٍ في أصيص، جوار بعضها البعض كحدودٍ بينَ وجهكَ ووجهها! وعلّمْتَنِي أنْ أضعَ فتاتَ خُبزٍ في كلّ مكانٍ حولي كلّما اختنقتُ، كي تتبعثر الحدود وأعبرَ إلى الضوء معكَ في كلماتكَ.
الورقة الخضراء الصغيرة على الجدارِ تحملُ اسمكَ أسفلَ «أرفضُ هذهِ الرّاحة».
«أنسي الحاج».
* شاعرة سوريّة (فرنسا)

لقد نجوتَ من الزمن بأعجوبة
لوركا سبيتي *

عزيزي أنسي
نحن خسرناك زمناً ومسكناً ولكنك لم تخسر شيئاً حتى الآن، فالمزيد من العمر في هذا الوقت سيتساوى مع الصفر... أنسي الرقيق، لقد نجوت من هذا العالم بأعجوبة، كما تحاول الطبيعة أن تفعل الآن وفي كلّ لحظة، النجاة، منا نحن الأشرار، قاطعي رؤوس الأشجار والمتحوّلين لفأس يلمع من فرط العتمة. أتذكّر حين قلت لي مرة: الحياة لعبة قمار والرابح من لا يدمنها؛ كنت دقيقاً في هذا الوصف وعارفاً ما لا نعرف، وأتذكرك جيداً كيف ترتبك قبل البوح وكيف تتحول إلى كائن جدّي حين تحاول الإجابة. أخبرتني عن الخوف وتحدثت عنه بوضوح كأنك تستدعيه لتصارعه. أيقظته فيّ حينها وحمّلتني سلاح الراكض إلى حتفه لأعيه جيداً وأواجهه بدوري. لا أعرف لماذا كنت أراك طفلاً بوجهك الأبيض ونابيك المشاكسين وشعرك الأملس ونظارتك العالمة. كنت أحدّثك برقة وأشد على الحروف وأعيدها كأني فعلاً أتحدث إلى طفل وأحاول إفهامه ما أقوله. ذاك الطفل الذي حمل إلى أمه ورقة نعوتها وحمل باقي عمره كل ذنوب هذا العالم المرتكب.
* شاعرة لبنانية

كنتَ تنتمي لعنب العالم القديم
ميس الريم قرفول *

عزيزي أنسي
كان بإمكاني أن أقول لك بأن يوم وفاتك هو بعد أربعة أيام من يوم الحب، لكن أنت الذي تحب الكلام أكثر ما قد يعنيه هذا.
في يوم من الأيام، وقعت على خاتمتك فوق الصفحة الأخيرة لجريدة «الأخبار»، كنت مراهقة وصرت امرأة، تلف خواتمَ من سرٍ على خصرها، خواتم واسعة.
حين كنت تشرف على ملحق «النهار»، كنت صغيرة جداً، حتى أني لم أكن نطفة، وحين صارت في بيتنا صفحتك الأخيرة، صارت النطفة حبة عنب محلّاة تخرج مرة في الصيف من كل سنة، تخلع حجابها على الجبال، هذا اليباس الأصفر، أزيز النحل والدبابير بصوتها الحادّ وإبر تدق رأسها داخل القشرة الشفافة للثمرة، رائحة للسُكَّر، لا هي جنس ولا هي موت ولا هي صلاة، كنت أتجمع فوق الكرسي، حين يأتي الظل منكمشاً في إحدى الزوايا، مختبئة، كيف دخلت تلك الجريدة إلى منزلنا؟ بين بيروت وطرطوس والقرية، حطت القصيدة على السطوح، سرقتني ووزعتني بين حلم الليلة الكحلية وحلم اليقظة المشرق الأصفر والعسلي، مثلما كنا نسمي ذلك النوع من العنب.
كيف يصير العنب ذا بعد فلسفي؟
تجلس فتاة خجولة، كان شعرها طويلاً في يوم من الأيام، تنأى عن الجميع في القرية، يكبرون ويلملمون معهم أيام عمرهم مثل خيط داخل إبرة. كانت حبات القمح تنام على الإسمنت، وشمس حزيران تنقر رأس كل حبة حتى تُخرج منه الماء. كانت الدنيا صفراء، يكفي أن تغمض عينيك وتنسى ذلك الاسوداد الذي ورثناه عن التربة داخل البؤبؤ، أو ذلك الاخضرار الذي رماه الزيتون في نزوة منه علينا.
كيف دخلت الكلمة ذلك الخرم من أذني، كان القرط ملتهباً يشدني نحو لمعة الذهب، وكانت الخواتم حلقات حول بطن الشجرة، كيف كنت نائمة فصحوتُ، أو صاحية فنمتُ، كيف حملتني تلك الكلمات نحو ظلمة داخلي مثل امرأة تشدني من شعري لأسقط عن السطح، وكلما وقعت، عشت في تلك الصرخة التي بلا صوت، فم مفتوح للأبدية، سماء منقوشة بالبيوت، قُلبت النجوم على الأرض، تعثرت بإحداها ومن يومها ينزف الجمال من مكان ما داخل دمي، يسحبني إلى ذلك المكان.
كلمات كأنها نزلت من حنفية منخورة، علمتني المشي على ذلك الإيقاع، كمن تمشي في نومها، وحين تفيق متعرّقة، ترى وجه الإله، ترى امرأة بشعر طويل، ترى عناقيد عنب يموت على صدرها فتهبّ لملاقاة الحياة بثوب مفتوح، بجرأة، من دون خوف، ثمة اتصال مع مكان ما خفي، وثمة خاتم يدور ويدور ويدور، من دون أن يقع.
عنب العالم القديم، والعنب الأميركي، هذا ما عثرت عليه حين بحثت عن أنواع العنب في ويكيبيديا. كنتَ تنتمي لعنب العالم القديم، بينما كنت كالأطفال أسميه أسماء تشبهه: أخضر، بيض حمام، زيتوني. أبحث أكثر يظهر لي في إحدى الصفحات أن له أسماء من نوع قطرات القمر، وكرات القمر، انتابتني رغبة كبيرة بأن آكل من قطرات القمر رغم أننا في السابع عشر من شباط، يوم عن ذكرى ابتعادك، ورغم أنني أحاول أن آكل الفواكه في مواسمها. تقول زوفا في إحدى قصائدك، يبرز لي نهد جبلي من هناك، وأستشعر لعنة الألفة، تلفني مثل سترة صوفية، وأقول لنفسي كأني أنظر في عينيك، وقع كثير من الماء الساخن داخل عاصفة مطرية من الليالي الفائتة، دخلت نباتات الزوفا داخل ذلك البخار، وشممت رائحة تخرج من مساماتي فعرفت بأنك بعيد وبأني هنا، ما زلت أمرر الإبرة.
* شاعرة سورية- (فرنسا)

من أنسي وإليه
محمود وهبة *

عَزيزي أُنسي
ما زالَت صورَتُكَ تسكُنُ البيتَ
تُحرِّكُ الظّلالَ
وتعبثُ بِخُيوطِ الذّاكِرة.
■ ■ ■
أريدُ أنْ أقولَ
إنَّ شاعراً مَجنوناً كانَ خَليقَ هَذهِ المَدينَةِ
كانَ ضَوْءاً خافِتاً في دَيجُورْ
حَجَراً في دَربِ الجُلْجُلَة.
■ ■ ■
مِنْ عليائِكَ
حدِّقْ الآنَ في الصّورةِ وابتَسِمْ
حدِّقْ بعيداً ولا تَخَفْ
الهُوَّةُ ليسَتْ بعيدةً
والبيوتُ مفتوحَةٌ على الماءِ
الرّيحِ
الشَّجرِ
على السَّحابِ المندَثِرْ.
■ ■ ■
رَيثَما يمُرُّ الوَقتُ
وتَنْزاحُ الغبْرةُ عن وَجْهي
سأؤَجِّلُ دَمْعَتي
وأقرَأ قصيدَةً لَكَ
«أخَافْ»
«غُيومُ يا غُيومُ
عَلِّميني فَرَحَ الزَّوالْ».
■ ■ ■
عَزيزي أنْسي
يقولونَ إنّكَ الأنْقى
وأنا
بكاملِ وَجْدِي
أصدِّقُ ذلكَ.
* شاعر لبناني

صنعتَ قصيدتك بحساسية الطفل العابث
عامر الطيب *

عزيزي أنسي
هذه اللحظةُ لن أتحدث عنكَ كرائد للقصيدة الحديثة، فالريادة مفهوم مختلف عليه أولاً ثم إنه مفهوم يتعلق بقصب السبق في مرحلة زمنية ما، ما يأخذ الشعر إلى جهة ماراثون غير محبب فيما الشعر كنشاط داخل اللغة وخارجها يود التفوّق على زمنه. ومن هذا المنطلق فإنني معنيّ بعلاقتك بالزمن في نصك وفي موقفك الثوري ضد التراث الشعري وغيره. إذ يمكنني اعتبارك ظاهرة شعرية لها سمة الرسوخ والخصوصية، وفي حقل اللغة الشاسع والمبهم، الكثيف والممتد، فإنك شاعر ينتمي لقصيدته التي تشبه الصرخة المفاجئة أكثر ما ينتمي لخطابات قصيدة الحداثة وبياناتها وصراعاتها مع الأشكال الشعرية السائدة.
لقد صنعتَ قصيدتك بحساسية الطفل العابث والمسؤول من دون انتباه للتلقي العربي الراكد، معيداً للشعر صوته المجنون والملعون في آن، راسماً لوجودك صورة المتصوف العارف والمدني الخارج بقدر ملموس ضد أي أمومة وربوبية من نوع ما. ولعل هذا ما دفع أدونيس في ما بعد لاعتبارك الشاعر الأنظف بين مجايليه، فالنظافة وهي تلزم كل شاعر يأخذ كتابته على محمل الجد والحرص، تعني ألا يبدو الشاعر صدى للتراث الغابر أو للحداثة المستنسخة.
إن أردتُ وضعَ ملمح لك الآن، فيمكنني تعريفك بالشاعر الذي أراد أن يصنع من النثر شعراً، أن يدير ظهره للشعرية العربية بتعريفاتها المألوفة. ولكي تحقق هذا الهاجس الشعري، كتبت قصيدتك من دون انتماء مفضلاً الخواتم الملغزة والمنفلتة على المشاريع الشعرية الكبرى.
الآن وفي ما مضى، لو استطعتُ أن ألتقيك وجهاً لوجه، سأقول لك لست صاحب مشروع. إنك فتى كتابة وسيم، عقلاني صارم وعاطفي لاذع في آن. شاعر بالمعنى الأعرق للكتابة، الكتابة عما نحلم به لا عمّا نعنيه فحسب.
* شاعر عراقي

ماذا يفعل الصارخ في عزلته؟
دارين حوماني *

عزيزي أنسي
ازددنا وحشة في غيابك، لا بل ازددنا يتماً، وأما أنت، كيف يمكن تأويل وحشتك الآن، تحدثت في كتابك المنشور بعد غيابك عن الإقامة في الخوف، فيها من الاستسلام ما فيها من التحدي ومن الانتحار ما فيها من النحر، هذا هو التوصيف الدقيق لعالمنا، وهو محزن لأنه حقيقي، الإقامة في الخوف، وأنا أدرك جيداً أن إقامتك في الموت أقل خوفاً وقلقاً.
قد يتوجب علينا استعادة قراءتك يا أنسي مراراً لنكمل ترتيب رأسك في الصورة، «هذا الرأس الحيّ فقط في سجنه، الميّت بين الأحياء!». لا يزال ثمة أمكنة مختبئة فيه متكورة في العتمة قد يمكن التقاطها من بين كلماتك. نحن الآن هنا نملك كل أسباب الموت، وأنتَ ماذا تفعل هناك في عزلتك؟ هل تعيش الهدوء الذي بحثت عنه طويلاً؟ ألا يكفي ما كتبته بنفسك عن نفسك المقيمة وسط عالم متوحش مخيف، فتساءلت بحدس شاعرٍ أشبه بعرّاف «ماذا يفعل الصارخ في عزلته؟ يبحث عن عزلة أعمق! لماذا؟ لأنّه لا يريد أن يخرج، بل أن يُمعنَ في الدخول! يحتاج إلى ما يُلهي، ولكن في أحشاء الزاوية، تحت معطف أبيه، بعيداً عن المشاركة. لا يحمل مشروعاً إصلاحياً، ليس ثائراً ولا قائداً، إنّه لاجئ. أعصابه عارية تحت أنياب العالم. هو: الفيلسوف، الشاعر، الفنّان، المرهف، المتوتّر، الآرِقْ، الهارب من نفسه، الواقف على مَشْحرة روحه، المذعور الجبين، الملهوف على مقبضٍ يحميه من الوقوع. لا يبحث عن خير العالم، بل عن وقاية من شرّه، ولا عن خلاص البشريّة بل عن يوم بلا رعب».

* شاعرة لبنانية (كندا)


في يديك ميزان قصيدة النثر
أنطوان أبو زيد *

عزيزي أنسي
في الرسالة الأخيرة التي تركتها، قبيل رحيلك، وخصصت بها الشعراء من جيلك، والذين تتلمذوا على يديك، أو تقرّبوا منك، أو عملوا معك واستناروا بمواقفك وشملهم تأثيرك، ذكرتني مشكوراً، ونبّهتني فيها إلى عدم إغفال موقع لي في سجلّ شعر الثمانينيات، ليس إبرازاً أو تقديماً على آخرين، وأنت لم تتوانَ عن ذكر كلّ من كان فاعلاً في ساحة الشعر، في أنبل رسالة وداع، وفي خير انتصار لأخوة الشعر. وإنما لاعتبارك أنّ في منبع الشعر ميزاناً لا كالموازين، وأنّك مؤتمنٌ على غدِ قصيدة النثر، وأنت من آبائها اللبنانيين الخلّص، ولا ينبغي لك أن تغفل غصناً من أغصانها، أو ورقةً من شجرتها الباسقة.
ولئن كنتُ، قبل الثمانينيات، وفي بداية عهدي بالكتابة الشعرية، مفتوناً بالعوالم السريالية، والصوفية، وبالتجارب الشعرية الغربية (الدادائية وغيرها)، فإنّ ما حملني على درس تجربتك، وسبر أبعادها، إنما كان أسئلتي الكبرى حول تحدّيات قصيدة النثر، الصغرى والكبرى، وحول أبعاد الثورة الأسلوبية التي شرعت قصيدة النثر في خوض غمارها، على يديك، لتخليصها من بحران النظم وتأليه صيغ الفصاحة الدهرية، إلى شطّ الشعر الخالص.
أنسي الحاج، لم تتوانَ، من حيث أنت، عن إرسال أشعّتك، من عالم الشعر الذي اصطنعته لأجيال قصيدة النثر، تاركاً لهم ولنا النشيد الباقي.
* شاعر وروائي لبناني