في روايتها «ثمارُ الشجرة المُسكِرة» (2018) التي صدرت بترجمتها العربية عن «دار فواصل» (ترجمة مريم عيسى)، تعرض الكاتبة الكولومبية إنغريد روخاس كونتريراس، جانباً من آثار الحروب المدمرة على الإنسان، ولا سيّما تلك التي تترافق مع اضطراباتٍ سياسية أفرزت عنفاً أهلياً واغتيالَ زعامات عرفها الكولومبيون في مطلع تسعينيات القرن الماضي. تُروى الحكاية بصوت طفلة. وعلى مدى 400 صفحة، تتولى أصواتٌ طفولية هشة سردَ ما يحدث، لتحافظ القصة على شفافيةٍ منحتها لوناً بريئاً مشوباً ببعضٍ الهزل حيناً، والألم أحياناً.تتخذ مدينة بوغوتا مكاناً ملائماً لبدء الحكاية، إذ تبدو الأحداث السياسية فضاءً تستعرض الكاتبة عبره ما آلت إليه كولومبيا على إثر اغتيال مرشح رئاستها الليبرالي كارلوس غالان. ومع انتشار عصابات رجل الجريمة بابلو إسكوبار، يتشكّل لدى الطفلة شولا هاجس يشعرها بإمكانية رؤية هذا الكائن الذي أشيعَ عن قصصه المرعبة في كل مكان، مما ينبئ بحساسية فريدة لطفلةٍ لم تتعدّ سنواتها السبع، ومنح صوتها عمقاً مغايراً لباقي أطراف الحكاية.


تعيش شولا ضمن أسرةٍ ميسورة مع أمها وأختها كساندرا، لكنها تختلف عن أختها. إذ إنّها اعتادت فعلَ ما ليس معتاداً، وتمتلك منظوراً خاصاً لكل التفاصيل حولها، وإمكانية التنبؤ بما سيحدث. تتّقد في ذهنها أسئلة كبرى، إذ تحيا مع باقي سكان المدينة أخبار التفجير والاغتيال، ما منحها مع مرور الوقت فهماً مكّنها من تفسير زيارة الرجال لأمها بعد سفر أبيها، أو إحساسها إزاء الخادمة الجديدة «بترونا» التي تشكل خيطاً ينسج مصائر الجميع بحكاية مؤلمة. وعلى الرغم من فرادتها كساردة، إلّا أنها تتشاطر معها الكشف عن الطبقات المعتمة في عالميهما، فالخادمة تظهر ومعها يرتسم المصير المشؤوم. وكونها لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها، فقد جعلها ذلك تجسيداً لما يمكن أن تصنعه الحروب بأقدار البشر، فتبدو طفلةً دفعها العنف إلى النزوح من مدينة إلى أخرى، ثم تلجأ مع عائلتها تحت ضغط العصابات المسلحة إلى أحياء الصفيح. هناك تفاقمت الحاجة، وفُقِدَ الإخوة، وتسلّل المرض إلى جسد الأم المعيلة، لتصبح بين ليلة وضحاها المسؤولة عن العائلة بكل أفرادها. تخرج مذعنة للعمل، ويصبح القصُّ عن أحوالها بمثابة منح الحياة لمن لا أصوات لهم، ولا مصير سوى بالإذعان لقسوة العالم، وللمحيط الذي يغرقها يوماً بعد آخر في الإدمان والتعرض للاغتصاب. وعلى الرغم مما تحمله من براءة المقاصد، فهي تمثل منطلقاً أخلاقياً يدفع للتساؤل حيال نوعية الأحكام التي تطلَق على من يسقطون في مستنقع الجريمة، ومدى أحقية أن يكون للبراءة صوتٌ في قلب كل ذلك السواد المعتم.
تشغل فكرة الموت بال شولا، تحدس بها في كل الأمكنة. تتابع نشرات الأخبار بصمت، وتشهد كيف يتسلل الجفاف إلى البلاد، ويحدث التعطيل الكبير، فتُفقد المياه، ويعكّر غياب الأب صفاءَ العائلة مع انتشار الفوضى، فتتضاعف مسألة التفكير في الموت: «أردتُ حقاً أن أعرف عن الموت، لكنّ أحداً لم يخبرني». تتابع برعبٍ مكتومٍ مصير إسكوبار، وتراقبُ ابنته على الشاشات متسائلة عما يمكن أن يحدث لو كانت عوضاً عنها. لكن مجيء بترونا ونشوء صداقة خفية ومتينة معها، يفتحان الباب لتسلل العنف إلى الأجواء. تجلب بترونا إلى الأسرة المحمية بأسوار أحياء الأغنياء، ما خفي من منازل الصفيح، من عيون متربصة بجسد الطفلتين كساندرا وشولا، ومراهقين مدمنين، وأرواحٍ متعطشة للانتقام من واقعٍ مرير. تنتقل علاقة بترونا بأحد شبان العصابات إلى داخل منزل الأسرة. وعلى الرغم من توطد صلاتها بالفتاتين، إلا أنها تبدأ بالسقوط في عالم الجريمة، وهو ما لم تستطع فهمه أو تفسيره طفلة بمثل عمرها، ولا تصحو على مدى بشاعته سوى في نهاية القصة، إذ تجد نفسها بين أكوام القمامة، بعد تعرضها للاغتصاب، وخطف والد شولا، وهرب الأسرة خارج البلاد.
تعاني شولا وعائلتها آلام الفقد واللجوء، من فنزويلا حتى أميركا، تتحول إلى بترونا أخرى، تساعد أمها في محال الحلاقة. تستمر في بعث الرسائل عبر الراديو لأبيها المختطف، وتكبر على الشوق والذكريات، ليتحول صوتها المشتبك بالأحكام والتفسيرات إلى صمت داخلي. تتزاحم الأسئلة لكنها تكتنف السكوت وتأبى النسيان وسط واقعٍ بدأ في مكان بعيد على أنقاض آخر. يلتحق الأب بالأسرة بعد سنوات طويلة، وتفقد بترونا ذاكرتها في مشهد لتعويض ونسيان ما حدث، إلا أنّ الأحلام تقلّص المسافة بين الذكريات والواقع، فتصحو مجدداً على حياة ملؤها الألم والرغبة بالرحيل.
تعرض الكاتبة الكولومبية جانباً من آثار الحروب على الإنسان


تبقى الشجرة المسكِرة عالقة في ذاكرة شولا، وهي شجرةٌ ذات ثمارٍ سامة ورائحة مخدرة زرعتها أمها في حديقة منزلهم القديم لطرد الفضوليين، لكن صورتها تلاحقها. إذ تجدها مزروعة في شوارع المدينة التي لجأت إليها، تبحث عن أصلها في المكتبات الأميركية في محاولة لتلمّس أشيائها وذكرياتها، وكرمزٍ لهيمنة اقتصاد المخدرات والكارتلات على الحياة في كولومبيا. تمنحها الشجرة المهاجرة قدرها، لتصير من الأشياء الوحيدة التي تذكّرها بما فات، مع انعدام قدرتها على إيجاد الأجوبة لأسئلتها عن الاغتيال والموت والرحيل، تتساءل: هل حقاً ذاك العائدُ أبي؟ لتنتهي على صورة الإنسان المحطم، الذي تشظّيه الحروب وتخلصه السياسة والعنف من ذكرياته وأحلامه. «كنتُ الوحيدة التي لديها تفاصيل الحكاية. كنتُ الوحيدة التي تعرف أن بترونا تعيش في منزل الرجل الذي خانها، وأنها اختارت الاحتفاظ بالولد، وأن هذه الحياة الجديدة كانت شيئاً عليّ أن أعوضه لها، والأمر الوحيد الذي يمكنني فعله هو مواصلة الصمت حيال ما أعرفه، ففي النهاية من أنا لأحكم؟ فكرتُ: النسيان نعمة».