ترجمة وتقديم: سلمى عمار قويدروُلد الشاعر والروائي جان الموهوب عمروش (1906ـــــ 1962) في منطقة تُدعى الصّومَام، وبالضبط في قرية إِغِيلْ عْلِي، في ولاية بجاية شرق الجزائر. ينحدر الشاعر من عائلة جزائرية أمازيغيّة نزحت نحو تونس. والدته هي الشاعرة فاطمة آيت منصور عمروش التي غادرت قريتها تِيزِي هْبِيلْ وهي شابة، هرباً من سوء المعاملة كونها ابنة مجهولة الأب. التحقت فاطمة بمدرسة فرنسية للدراسة، ومن ثم اشتغلت في «مستشفى آيت مْنْغلَّاتْ» كممرضة، وقد اعتنقت الديانة المسيحية خلال تلك الفترة. تزوجت بعد ذلك من أنطوان بلقاسم وهو جزائري أيضاً، وأنجبت منه تسعة أبناء منهم الموهوب. تقول المراجع بأنها فجعت في سبعة منهم توفوا تباعاً، ما جعلها ذات شجن عظيم ميّز قصائدها وأغانيها الموسومة بالأسى والحسرة. أورثت مارغريت فاطمة آيت منصور لابنها جان الموهوب وشقيقته ماري لويز الطاوس عمروش شغف الشعر والكتابة والغناء والاعتزاز بالثقافة الأمازيغية.
بعد الهجرة، تلقّى جان عمروش تعليمه الثانوي في «كلية علوي»، ثم أكمل الدراسة في «مدرسة سان كلو العليا للأساتذة». كان يحلم دوماً بامتهان التدريس، وقد حقّق ذلك الحلم بعد انتقاله للعيش في تونس برفقة أسرته. هناك، ساعده صديقه الكاتب الفرنسي أرمان غيبير على نشر مجموعتَيه الشعريّتين «رماد» (1934) و«نَجمة سرِّيَّة» (1937)، ما جعل اسمه معروفاً في الأوساط الثقافية هناك. كما كتب خلال تلك الفترة قصائد ومقالات نقدية في المجلات التونسية، وألقى محاضرات في «دار إِيْسور» في تونس. في عام 1939، صدر له ديوان «أغان بربرية من بلاد القبائل» في تونس العاصمة، وكان عبارة عن قصائد أمازيغية تعلّمها الموهوب من والدته مارغريت فاطمة آيت منصور، وتكفّل بترجمتها من لغتها الأصلية إلى الفرنسية. أما في عام 1943، فقد التحق جان الموهوب عمروش بوزارة الإعلام في الجزائر العاصمة، ثم انضم إلى الإذاعة الناطقة باللغة الفرنسية. وخلال سنة 1944، صدرت مجلة «لَارْشْ» في الجزائر العاصمة، ونشرت تحت رعاية الكاتب الفرنسي أندريه جيد، وإشراف الموهوب عمروش وجاك لاسانيي. وفي عام 1958، أصبح جان عمروش رئيس تحرير إذاعة R.T.F وكانت حواراته مع بول كلوديل، فرنسوا مورياك، رولان بارت، غاستون باشلار وأندريه جيد الأشهر على الإطلاق، إضافة إلى ألبير كامو الذي قيل بأنه كان أحد تلاميذه عندما كان مدرّساً. في عام 1959، قدّم الموهوب عمروش برنامجاً أسبوعياً بعنوان «أفكار ورجال»، لكنه جُرّد من منصبه وبرنامجه في الإذاعة في السنة نفسها بسبب آرائه السياسية. لا بد من أن نذكر هنا أنّ جان الموهوب كان أيضاً وسيطاً بين الجنرال ديغول وفرحات عباس، زعيم الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية آنذاك. لكنّ أحداً من الطرفين لم يذكر هذا الدور علناً. قبل وقت قصير من وفاته، علم الموهوب عمروش بإعادته إلى منصبه في R.T.F، وبعدها توفي في 16 نيسان (أبريل) سنة 1962 في منزله الباريسي جراء معاناته مع سرطان الدم. بقي جان الموهوب عمروش حياً بشعره وكتاباته وبمواقفه السياسية التي عرفت النور بعد تيه كبير عقب وساطته بين ديغول وفرحات عباس. إذ أعلن أخيراً مناهضته للاستعمار الفرنسي وتنصّله من الممارسات الاستعمارية التي كان قبل ذلك في حيرة حيالها. كما اختار صف المثقّفين الجزائريين الذين آثروا الدفاع عن حرية الشعب وحقّه في تقرير مصيره. كل هذا لم يشفع له ليُذكر من طرف الجهات الرسمية الجزائرية التي تنكّرت كلياً لوجوده ولذكراه في تاريخ الأدب الجزائري المكتوب، ولدوره الكبير في إثراء الأدب الجزائري الناطق باللغة الفرنسية. في 21 آذار (مارس) 1977، ذكره الرئيس السنغالي الشاعر ليوبولد سنغور وقام بتكريم ذكراه، إذ قال في خطاب مطول له في داكار: «إنّ كفاح أسرة عمروش فخر لكلّ أفريقيا».

أُسْرَة عمروش في تونس عام 1922


قِف أمامِي يا بُنيَّ
حتَّى أحفظَ قامَتَكَ في الذَّاكِرَة.
أَوَدُّ الذّهاب لمُلاقاةِ عائلتي:
جمعٌ من الأيادي الحانيةِ
حيثُ سيَّجَنَا النِّسيانُ.

أريدُ المُضِيَّ..
لأجد عائلتي البَشريّة الحقيقية.

تحت الفروع البارزة
لشجرة الزيتون المُسمَرَّةِ
في المنحدرات العارية
لتلك التِّلال الزرقاء
غفا اليأس.

والسَّمَاءُ الصَّارِمَةُ
فوق هذي الجموع الضائعة أبداً
حيث الموت غيرُ المُدْرَكِ البديعِ
تَدْفَقُ نداوتهَا الزرقاء.

لقدِ انسلّتِ الحياةُ الهَشَّةُ
من أزهارِ شجر الخوخِ البنفسجية
وفي قعر الأخوارِ الزرقاء
غنّى ماء الرَّحمة.

أودُّ الذّهاب لألقَى الملائكة، إخواني
حيثُ البلد الأخرسِ الَّذي يَسجنُه قلبي

أرواحٌ..
يا أرواحَ الموتى
تحت الصّخر المخطّط
إنّ الزيتون يَنوحُ فوق رفاتك المنسيّة
لكنّ الزيتَ المُضيءَ لا يمكنه أبداً
أن يمنح الحياة لأعضائك الجافة.
هل تَنسَكِبينَ في السّماء
عندَ السّاعةِ التي يحلّق فيها «البُرْني»*
حولَ المَهاوِي الزرقاءِ؟

يا مسافري القلق الأبدي
هل أنتم من يعبرُ حشود النجوم
التي لا تُحصى في السّماء السّوداءِ
حيثُ سَيُومِئُ لي نجمي ذات يوم؟

أين مكانُه
مكانُ طفلكم المَحتُومِ
طفلكم المسجونِ
في عظامه الآيلة إلى الصخر الأجدبِ؟
أين مكاني
مكانُ ابنكم المُكَبَّلِ؟

أريدُ أن أرتاحَ في كنفِ عائلتي الآدمية
تلكَ التي سُلِّمت إلى كراهيةٍ مُعتمة
آمِلاً أن يحرّرها إلهٌ
على جبلِ زيتونٍ
شبيهٍ بآخرَ ذي جذوع ملتوية في وطني.

أتخلى اليومَ عن هذا المكان
حيث ظننتُ أن قدميَّ ستقفان أبداً.
هذي القبور المُهداةُ لشمسٍ شرِهة
هذي النسوة ذوات الوجوهِ المُخَدَّدةِ،
بأيديهنّ الممدودة...
لا نحوَ هذه السّماء الصافية
بَلِ نحوَ الأيادي المغلقة
لأبناءٍ راحلين عنهنَّ
نحو بلاد الذهب والعمل اليسير.

إِنِّي أُبحِرُ اليومَ نحوَ تَلٍّ آخرَ
حيثُ بلدٍ لم يُرَ بعدُ بنظراتٍ بشريّةٍ
تحت شجرةٍ ذات أذرعٍ طويلة...

كنظرةِ أمٍّ.

وداعاً يا موطن مولدي


*البُرني: اسم عامي لنوعٍ من الطيور الجارحة الصغيرة التي تعيش في شمال أفريقيا
■ ■ ■
إنّ كلماتي تطفو في داخلي
كالفقاعاتِ القُزحية التي ستخبو
فوقَ الميَاهِ الحزينةِ..

لم أبُح بشيءٍ كانَ لي
لم أُسِرَّ بشيءٍ كانَ منّي

آهٍ، أخبِروني بأصلِ الكلماتِ
التي تُغني في جوفي.

لم أقوَ على ابتداعِ صورٍ
لم أجمعْ كلماتٍ من السّحر


أيُّ يدٍ كانت توحِّدُ الأشياءَ
في فَنَاءِ ذاكرتي
لتُفجِّرَها بغتةً
في فاكهةِ حبٍّ غريبٍ.

تُراها كانت يدَ ملاكٍ في داخلي
حاضرةً وغائبة؟

هل كانت يدَ اللهِ الذِي يَرْعَى مُنتهاي؟

من سيخبرني عن قَدَرِ كلماتِ هذا المجهولِ؟
أي رسالةٍ كانت تحملُ؟

تُراني كنتُ الرّسول؟
■ ■ ■
اِندَكّي أيّتُها الجبالُ
التِي فَرّقَتني عن ذَوِيَّ
دَعِي الطّريقَ مُسَرّحاً أمام ناظِرَيّ

نحو بلد والدي الحبيبِ.

إني أَجْهَدُ بلا جدوى لِأُتِم الكتابَ
وقلبي سجينٌ هناكَ
فسلاماً وتحيةً يا وطني.

عينايَ جابتَا عوالِم
ونظري عاصفةٌ من ربيعٍ
داخل جَلبَةِ الثلوجِ الذائبة

أُمّاهُ، آهٍ يا أمّاهُ الحبيبة
إنّمَّا المَنفَى محنةٌ مَدِيدَة.
■ ■ ■
أُمّاهُ!
قرّري عَنّي:

هل عليّ الرّحيلُ؟
أم وجب أن أبقى؟

إذا ما رحلتُ؟
يغدو البحر مكسوراً
إذا ما بقيتُ؟
يبتلعني النَّهرُ.
■ ■ ■
تُراني سأحظى بوقتٍ للكتابة وللبكاء؟
هل سأغنمُ حياةً للرّوحِ وزمناً للخَلْقِ؟

هل سأملِكُ ثانيةً قوةَ التّصرف والعطاء؟

يَنْسابُ بُكَائِي مِن بين ضحكاتِكم

وحيداً، يُدمَّى جُرحي في داخلي.

استحالَ بيتي وحشاً ضارياً
وصرتُ أهيمُ بلا راحةٍ عبر الطرقاتِ.

أَتَوسَّلُكَ، يَا إِلَهَ السّمَاواتِ
مَهِّدِ الدُّروبَ تحتَ خطواتي...
■ ■ ■
قَصَصْتُ أَلَمِي على من لم يتعذَّب قَطُّ
فأَخَذَ يضحك على حالي.

حَكيتُ وجعي لمن خَبَرَ الألم
فانحنى نحوي
وانهمرت دموعه قبل دموعي.
لقد كانَ ذا قلبٍ جريحٍ.
■ ■ ■
كلُّ شيءٍ يموتُ
كلّ شيءٍ يَضمحلُّ
لتستمر الحياة.

* من ديوان «رماد» الذي كتبه بين الأعوام 1928-1934