كتاب جديد صدر للباحث التونسي محمد سويلمي المتخصّص في الشأن الديني والفكر الإسلامي. في «النساء في خطابات الفقهاء: قضايا العورة والجسد» (الدار التونسية للكتاب) يطرح الباحث قضية الجسد بين التمثّل الاجتماعي والتمثّل الفقهي. يكشف الكتاب عن تموقع النخب الدينية في النسيج الاجتماعي واستحواذها «على مسالك المعنى والنفوذ في شبكة السلطة» وانشدادها إلى الماضي في قراءة أرثوذكسية للتاريخ. ويعتبر أنّ قضية الجسد في المجتمعات العربية الإسلامية، تطرح بعمق محنة النساء ومعاناتهن «لأن الفقيه لا يزال محكوماً بذهنية بطريركيّة ترى النساء خطراً محدقاً باستقرار البناء الاجتماعي وتهديداً لديمومة النسق الثقافي».

يُترجم هذا الكتاب جهداً كبيراً في استنطاق المدوّنة الفقهية وتفكيك بنية التفكير في تمثّلاتها للجسد. قسّم الباحث عمله إلى أبواب ثلاثة، خصّص الأول للجسد والعورة والخطاب. في هذا الباب، تناول «الجسد وإدارة المجتمع» كما سمّاه باعتبار «الجسد» مفهوماً اجتماعياً وثقافياً أيضاً، وهو غير «الجسم». يرى أنّ الجسد صنيعة ثقافية لسياقات واستراتيجيات معلومة تتبنّاها المجتمعات، فهو يخضع لما سمّاه كليفورد غيرتز في كتابه «تأويل الثقافات»، لآليات النحت الرمزي في دورته البيولوجية والاجتماعية.
فالجسد يختزل ثقافة المجتمعات و«أجساد العالم هي في نهاية الأمر ثقافات العالم» على حدّ تعبيره. وبالتالي، فلكل جماعة ثقافتها الجسدية بما فيها من رسوم وشيفرات خاصة. في هذا الفصل، تناول حقيقة الجسد وتاريخية المفهوم والبناء والضبط الاجتماعي، فيما خصّص الفصل الثاني لـ«العورة وصناعة المفهوم» حيث يستعيد مفهوم العورة في النصوص التأسيسيّة وتمثّل الفقهاء لها ودلالتها المعجمية.
يرى سويلمي أنّ مفهوم العورة «ثمار جهود مضنية ومتعاقبة طمست الدلالات الأولى للعبارة القرآنية وأكسبتها هويّة مفهومية جديدة». يُذكر أنّ «العورة» وردت أربع مرات في القرآن في سورتَي «النور» و«الأحزاب»، وهي موزّعة بين المفرد في سورة «الأحزاب» والجمع في سورة «النور»، ما ينفي عنها معنى وحدة الدلالة وفق الباحث. في هذا السياق، يرى سويلمي أنّ الدلالات المسمّاة قرآنية هي حصيلة مجهود تأويلي غيّب محضنه الثقافي الأول؛ وأسقط عليه منظوراً قرائياً جديداً لطمس لحظة «القرآن المعاش»، وأحلّ محلّها لحظة «القرآن المدروس» بسبب بسط الفاعل الديني على المفاهيم الرمزية التي تعبّر عن المكان والزمان والمجتمع. وبالتالي، فإنّ دلالة العورة ــ كما تمثّلها الفقهاء الذين اشتغلوا بتفسير القرآن ـــ مختلفة عن حقيقة النص القرآني كما وردت فيه.
ويقول في هذا المنحى «إنّ كثيراً من المفسرين مارسوا الافتئات على الدلالة القرآنية مسقطين خلفيّات ثقافية ونفسية؛ بما يجعل هذه الرؤى تعكس مستوى وعي الجماعة التي أبدعت تلك اللغة»، في إحالة إلى ما كتبه نصر حامد أبوزيد في كتابه «أنتروبولوجيّة اللغة». كما يذهب سويلمي إلى أنّ مرويّات السنّة التي «ارتسم فيها هاجس الحدّ الجسدي للعورة والتنازع فيه، هو خلاف ناجم عن تقديرات فقهية تبحث لها عن مبرّرات حديثيّة».
مفهوم العورة تشكّل في سياقات ثقافية ضمن نموذج اجتماعي له سلطة رمزية ضاغطة. يستحضر الباحث الأحاديث النبوية الموضوعة والمنسوبة للنبي حول تحريم الحمّام مثل «شرّ البيوت الحمّام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات». حديث تمّ القدح فيه حتى في السرديات الأصولية نفسها. يكشف هذا الحديث المختلق عن طبيعة المجتمع البدوي المحافظ الذي لا يقبل ظواهر جديدة مثل الحمّام، وهو ما يؤكد الخلفية الثقافية والسياق الاجتماعي لتمثّل الجسد.
يقول سويلمي إنّ مفهوم العورة لدى المؤسسة الدينية كان «موضع مماحكة أصولية». هذه المماحكة تعود إلى اختلاف في التقديرات الثقافية والاجتماعية، بل إنّ كتب الحديث عملت على «تقنين» مفهوم العورة، و«الواضح أنّ البنى الثقافية والذهنية مارست ضغوطاً منقطعة النظير على المدوّنة الحديثة، فسرّبت إليها حزماً من الأعراف والممارسات والمعتقدات التي جهدت الجماعات المسلمة على ازدرائها وتوظيفها». وهو ما لا يحدث إلا وفق «شرعية الملفوظات النبوية». فتمثّل المرأة في صورة سلبية «يستجيب إلى الأكوان الرمزية لفترات التأسيس ولا مناص من تأييدها عبر سلطة المؤسس الأول ألا وهو النبي لإكسابها السلطة والوجاهة». كما يرى أنّ الأحاديث الشيعيّة تصف المرأة بالنقصان في علاقة بفكرة العورة. وهذه الأحاديث توسّع مجال العورة وتمنحه وجهةً جندريةً. وتلتقي التعريفات الشيعيّة مع السنية في الجهاز المفاهيمي نفسه في «جعل اللغوي دعامةً للفقهي ومنطلقاً. فالعورة هي القُبل والدُبر، سمّيت السوأة عورة لقبح النظر إليها وكل شيء ستره الإنسان أنفة وحياء فهو عورة».
في الباب الثاني من الكتاب، يتناول الباحث الخطابات الفقهية المعاصرة ومحنة النساء، مشيراً إلى أنّ الفقيه نجح، في مشروعه السلطوي، في توظيف مفهوم العورة كحامل لإكراهات جندرية. أمّا الباب الثالث، فخصّصه للخطابات الفقهية المعاصرة في النساء، فيبيّن أنّ سطوة الفقيه يستمدها من موقعه كسلطة تتحكّم بالمخيال والذاكرة وتفاصيل الحياة اليومية، «فهو يغترف من روافد عدّة تمنحه السّلطة والمعنى كأن يتوصّل بالروافد النصيّة من قرآن وأحاديث منسوبة إلى النبي أو المعصومين». وهذه الروافد تحظى بصدقية عالية تجعل لها سلطة رمزية يستمد منها الخطاب الفقهي سلطته.
«العورة» وردت أربع مرات في القرآن، ما ينفي عنها معنى وحدة الدلالة


بعد استنطاقه للمعجم الفقهي؛ يرى سويلمي أن «الثقافة الإسلامية لا تملك مفهوماً واضحاً ونهائياً حول الجسد. فهو متداخل مع مفاهيم أخرى مثل الجسم والبدن والجثّة. ويذهب إلى أنّ الإشكال لا يتعلّق بـ «المفهوم» بحد ذاته، بل في السياقات المعرفية التي يتنزّل فيها. لذلك نجد أنّ المفهوم يختلف من القرآن إلى الأحاديث إلى المعجم الصوفي والفلسفي، وهو ما يؤكد «أن مفهوم الجسد - وأي مفهوم - منتوج معرفي وثقافي». والأمر نفسه نجده في الثقافة الغربية وفق الباحث.
ويرى محمد سويلمي أنّ الخطاب الفقهي المعاصر شهد تطوّراً راعى فيه تنويعات الفضاء مثل المسجد، والحمّام، والمدرسة والشارع، وهي التي تحدّد الممنوع والمسموح. والملاحظة التي يقف عندها أنّ «الممنوعات تكاد تكون محصورة في الجسد الأنثوي». واعتبر أنّ الفقيه فعّل مفهوم العورة في خطابه لجموع المؤمنين انطلاقاً من سلطته الاعتبارية. كما يرى أنّ أنظمة الخطاب الفقهي لها جملة من الاستراتيجيات المتشابكة. فالتبخيس مثلاً هو لون من الإقصاء يستهدف الذات المرفوضة. كما أنّ التهويل يستهدف النيل من أي سلوك خارج عن النموذج الاجتماعي والسلوك الجمعي.
ورغم التماسك الظاهر في الخطاب الفقهي، فإنه يخفي تقاطعات وتناقضات حتى بين أصحاب المذهب الواحد في السّنة والشيعة على حد سواء. ويتساءل: «إذا كانت الخطابات الفقهية المعاصرة بهذه التناقضات البنيوية والإحراجات التشريعية، فمن أين تأتي فاعليّته (أي الخطاب الفقهي) السلطوية؟ وكيف حاز هذه الحظوة الرمزية؟»
ويخلص إلى أنّ مفهوم العورة الذي يتبنّاه الخطاب الفقهي المعاصر ليس مفهوماً فقهياً، بل هو مفهوم ثقافي واجتماعي. وبالتالي فالإشكال الأساسي ليس في مفهوم العورة في خطاب الفقهاء، بل في البنى الذهنية والثقافية والاجتماعية، ولا يمكن مواجهة تمثّل المؤسسة الفقهية للعورة والجسد إلا بتفكيك وخلخلة البنية الرمزية والنظام المفاهيمي للمجتمعات العربية الإسلامية.