في الأيام الأولى من أيلول (سبتمبر) 1926، التقى الشاعر النمسوي الأشهر راينر ماريا ريلكه (١٨٧٥-١٩٢٦) بحسناء فاتنة تُدعى نعمت علوي بك (الصورة) في «فندق سافوا» في لوزان. نعمت هي ابنة أحمد خيري باشا، الحارس الأول لخديوي مصر حسين كامل. قامتها الطويلة وأناقتها الطبيعية ليستا وحدهما ما جذبا صاحب «سونيتات إلى أورفيوس» إليها، بل ما يوحي به حضورها من شفافية رهيبة وقلق روحي، وقدومها من الشرق للتعرّف إلى الشاعر الذي تحبّ... الشرق الذي حجّ إليه ريلكه، وتغنّى به في أشعاره ومذكّراته، ولا سيّما مصر التي ركب البحر إليها في السادس من كانون الثاني (يناير) 1911 ليصل أولاً إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية يركب القطار إلى القاهرة، ثم يبدأ من القاهرة رحلته النيلية إلى مصر القديمة.

مرّ بمنف العاصمة الأولى المجاورة للبدرشين، ثم الأقصر وادفو وأبيدوس، ومن ثم أسوان وجزيرة فيَلة، ومنها عاد إلى القاهرة. فتنت مصر القديمة ريلكه، ولا سيّما أبو الهول الذي كان قد وصفه في شعره قبل أن يراه، وعاد إليه بعدما عاينه في آخر مرثية من المراثي العشر التي بدأها في دونيو في إيطاليا عام 1912 وختمها في العام التالي في باريس: «في نور القمر/ يتجلى ذلك السادن الأبدي/ الذي يحرس كل شيء/ توأم السادن القابع قرب النيل/ أبي الهول النبيل/ الهامة الملكية التي حدّدت بصمت/ وإلى الأبد/ ملامح البشر بمقاييس النجوم».
ومثلما يمسّ طائر برفق وجه أبي الهول كما يقول ريلكه في القصيدة، بحركة أقرب إلى يد المعجزة التي رسمت الوجه الذي يجسّد الزمان في تمثال لتبث فيه الروح، فإنّ وجود نعمت علوي بك يُضيء الأشهر الأخيرة لريلكه، كطائر يحيي روحه. تتحدّث سكرتيرة ريلكه الأخيرة عن صديقة له «يقول إنها أجمل امرأة في العالم، ستأتي من لوزان لرؤيته في برجه. لقد حرص على قطف الورود بنفسه من حديقته، ليضعها في كلّ مكان في منزله. خدش نفسه بشوكة وتدهورت صحته فجأة».
توفي ريلكه بسبب اللوكيميا بعد ثلاثة أشهر، تحديداً في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1926. قصة العشق الأخير والمجهول لريلكه ظلّت طيّ الكتمان حتى كشف النقاب عنها الكاتب إدمون جالو الذي نشر عام 1949 كتاباً بعنوان «الصداقة الأخيرة لراينر ماريا ريلكه». أضاء العمل على علاقته بربّة إلهامه الأخيرة، متضمّناً المراسلات بين ريلكه وبينها، بالإضافة إلى شهادة دقيقة لسكرتيرة ريلكه الأخيرة، جينيا تشيرنوسفيتو، قبل وفاته بفترة وجيزة. المفاجأة السارة أنّ الكتاب الذي لم يلقَ رواجاً حينها، ستعاود «دار أرفوين» الفرنسية طباعته هذا العام بصورة لنعمت علوي بك على غلافه، هي التي اضطربت حياتها كثيراً بعد وفاة شاعرها، حتى لحقت به وهي في الثانية والأربعين من عمرها ليلاقي الطائر ثانية وجه التمثال: «برفق يمس الطائر الوجنة المكتنزة/ وبلمسات خافتة بطيئة يوقع على سمع الميت الجديد/ كأنه يرسم تخطيطاً لا يوصف/ على صفحتي كتاب مفتوح».