خلال تحضير أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه، أخَذَت الأكاديميّة وفاء أبو شقرا على عاتقها «التعرّف إلى كيفية اشتغال خطابٍ محدّدٍ للجمعة صادر عن رجال دين مُحدّدين»، وفقاً لما ورد في كتابها الجديد «خطبة الجمعة وفوضى المنابر – أزمة الخطاب الديني في زمن الأزمات» (دار الفارابي ـــ 2022). اختيار أبْعَدَها عن دراسة نصوص خُطب «لخُطباء معروفين وذائعي الصيت» كانت تتناقلها وسائل الإعلام منهم: الإمام الخميني في إيران، الفقيه محمد الطاهر بن عاشور في تونس، الشيخ عباسي مدني في الجزائر، والعلاّمة السيد محمد حسين فضل الله في لبنان، والشيخ أحمد ياسين في فلسطين المحتلة، والداعية عبد الحميد كشك في مصر.

توضح سبب استبعادها خُطب هؤلاء، ولجوئها إلى دراسة «خُطباء مُحدّدين» بأنها «قصدت أحياء شعبية حيث ينشط خطباء قد لا يعرفهم سوى جمهورهم المُتلقّي داخل الجامع، فلدى هؤلاء الدُعاة دون غيرهم «الخبر اليقين» لكونهم يعتقدون (وعن حقّ) أنهم يخطبون بعيداً عن أسماع الناس وأنظارهم، وأهمية هذه المسألة باعتقادنا مركزية، إذ باستطاعة خطاب هؤلاء «الخطباء» الذين يشكلون الغالبية الساحقة من أئمّة المساجد في «دار الإسلام»، الاشتغال بحريّة تامة، من دون حسابات سياسية خاصة أو قيود وضوابط ذاتية يفرضونها على أنفسهم، وكلامهم» (ص 16-17). الاستبعاد والتوضيح أثارا لدينا تساؤلات ودهشة. تساؤلات حول ماذا لو أنّ أبو شقرا اعتمدت قراءة وتمحيص خُطب «لخطباء معروفين وذائعي الصيت» كالأسماء التي ذَكَرناها آنفاً، فهل كانت نتائج بحثها وبالتالي استنتاجاتها لتكون مغايرة لما توصلت إليه، وعنونت منه فصولاً في كتابها؟ هل مسألة الاستبعاد من جهة والانتقاء من جهة ثانية خضعت ضمناً لدى المؤلفة لتمايز «طبقي» نخبوي ثقافي ذي قدرة على التأثير أم لغاية منها في النزول إلى درك من «فوضى المنابر» للوصول إلى تأكيد المؤكد في متابعتها؟ أما الدهشة، فسببها ما أنزلته من صفات على خطباء الأحياء الشعبية كاستقلاليتهم، واشتغالهم بحريّة تامة، من دون حسابات سياسية، كأنّهم «فاتحين على حسابهم» بعيداً عن المرجعية التي عَمَلت على توظيفهم، وبدون رقابة ذاتية.
سبعة فصول وخاتمة واستنتاجات، مع المراجع تضمنها كتاب أبو شقرا. في الفصل الأول (إذا نُوديتم للصلاة من يوم الجمعة)، عَرَضت لأهمية صلاة الجمعة (الجامعة)، ومركزيتها في الشعائر الدينية الإسلامية، وللتخصيص الإلهي لها حسب الآية القرآنية، لافتةً إلى «الجدل الفقهي بشأنها»، مع إشارتها «إلى غياب أيّ إشارة إلى خطبة الجمعة في القرآن». وتناولت في الفصل الثاني «مسجد الجمعة أو الجامع» الذي هو في الروزنامة الإسلامية، «فكرة وروح وأفق لا بناءً وهندسةً معماريةً» خلافاً للأديان الأخرى. كما توقّفت عند مكانته، ودوره في تشكُّل الجماعة الإسلامية أي الأمة، وتعدّد وظائفه في عهود سابقة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية، إلى جانب المنبر ومكانته في بثّ الدعوة وما حولها. وعالجت في الفصل الثالث مسألة «إمام الجمعة وخطيبها»، وتكريس هذا الدور «بيد الأنظمة الحاكمة لإضفاء الشرعية على سياساتها». وتوقّفت عند موقف الأزهر من تأييد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم تأييد نقيضه الرئيس أنور السادات «في صلحه مع إسرائيل»، لتطرح سؤالاً حداثوياً/ جدليّاً: هل بإمكان إمام الجمعة استقطاب جمهور بات يتعرّض لحظويّاً لوسائط المعلومات والمعرفة؟ جمهور تتفاوت مستويات تلقيّه، وخطيب تحوَّل من دور الإمام إلى وظيفة تتبع السلطة السياسية؟ وظيفة من طينة تُغّيب هدف الخُطبة وتلوينها بالرمادي ما أمكن، فيحتل مثلاً الحديث عن عذاب القبر، حيّزاً يتخطى عذاب المصلي/ المُتلقّي وهمومه الاقتصادية والمعيشية وحريته كإنسان. وتعرض في الفصل الرابع لـ «جمهور خطبة الجمعة»، واصفة أداء فريضة صلاة الجمعة بمصطلح علم الاجتماع «الهابيتوس الديني»، متوقّفة عند إشكالية التلقّي عند هذا الجمهور، ما جعلها تفرد الفصول الثلاثة الأخيرة لمناقشة «خطاب خطبة الجمعة».
وإذ تتوقّف أبو شقرا عند صعوبة «التعرّف إلى أثر خطبة الجمعة وتأثيرها في جمهورها»، معلّلة الأمر باستحالة حصر خُطب الجمعة التي تُبثّ في مساجد العالميْن العربي والإسلامي، إضافة إلى «أمر أكثر صعوبة» يكمن في إيجاد عيّنة وازنة وممثّلة لهم، بسبب رفض جمهور المسجد الإجابة عن أيّ أسئلة علميّة تتصل بدينه وشعائره. وهو ما واجهته لدى محاولتها توزيع استبيان في إطار تحضيرها أطروحة الدكتوراه. نرى أنّها في مهمّتها لتحضير الدكتوراه، اقتضى وقتها «رصد مئات الخطب وقراءة عشرات الخطب المُترجمة، ومقابلة ما أمكن من أئمة وبخاصة اللبنانيّين منهم. وعدا الاثنتين وسبعين التي شكلت نواة أطروحتي (نواة هذا الكتاب) فلقد سجّلت واستمعت إلى الكثير من خطب الجمعة» (ص377)..
تراجع قدرة خطيب الجمعة على التأثير في جمهوره


وسواء غابت جداول نتائج رصد هذه الخطب من صفحات الكتاب لصعوبة اختيار عيّنة كما أشارت المؤلفة، ومثلها في معرفة النسب المئوية لتَوَزُّع الموضوعات التي تمّ التطرق إليها خلال سنوات إعداد البحث، وأولويات هذه الموضوعات وتلك، فإن قراءة أبو شقرا المعمّقة لمئات الخُطب أتاح لها استخلاص عدد واسع من مميزات/ ثغرات هذه الخُطب، وفق منهج أكاديمي/ علمي سَبر بُنية وآليات وأنواع ومضامين هذه الخُطب، تمحيصاً وتنقيباً وخلاصات، مع سياق تاريخي لموقع وتأثيرات خُطب الجمعة مذ ألقى النبي محمد خطبته الأولى.
من الخُلاصات قولها: «يمكننا الجزم بأنّ مضامين الخطبة (تقصد محتوى الخطبة المعاصرة) لم تتأثّر كثيراً بعوامل البيئة والزمن» (ص449)، واستنتجت عدداً من العناوين حول إشكاليات تشكّل الخطاب الإسلامي ومنها «تعدّده، وتشعّبه وكثرة اتّجاهاته»، إضافًة إلى شرحها أسباب تراجع قدرة خطيب الجمعة على التأثير في جمهوره، منها إخفاقه في اختيار الموضوع، وضعف كفاءة الخطيب ومؤهّلاته العلمية، وضعف شخصيّته، وماضوية الخطاب أكثر ما يتطرق فيه إلى قضايا آنية ملحّة.
طغى الجانب الأكاديمي/ النظري على نص أبو شقرا، وهذا بديهي في سياق إعداد أطروحة الدكتوراه بإسقاط منهجية العلوم الإنسانية ودور وسائط الإعلام والتواصل على قراءة قضية لطالما خضعت لقراءات متعدّدة ومتفاوتة، ومتشعّبة، تبعاً للواقع المُعاش، ما جعل المضمون يشهد التكرار في الخطبة وتالياً رتابتها وصنميّتها، فاستنتجت أنّ «محافظة المسلمين على شكل فريضة الجمعة (خطبة وصلاة) ومضمونها لا ترتبط بالدين بقدر ما ترجع إلى تحويلهم العادات إلى مقدّسات»! مع ذلك، تبقى صلاة الجمعة فريضة عند المسلمين سواء كانت عادة أو مقدسة؟ أما مضمون الخطب، فلا بأس في قراءة الواقع السياسي وطبيعة الأنظمة الحاكمة ومستوى الوعي الجمعي للشعوب.. فهي المرآة! وما تشريحك يا د. وفاء لفوضى المنابر وأزمات الخطاب سوى التعبير الحيّ لأزمات هذا الواقع.