يظهر لي بودلير الآن في هذه اللحظة من عام 2022 على صورة المتلاطم الأبدي «البحر»، هو الذي قال في إحدى قصائده من «أزهار الشر»: «كن حراً كالبحر». وإنني إذ أستعيده هنا بالتفاصيل واليوميات والأشعار، فلأنّه بالفعل يتلاطم في جسدي كموج أزلي تلاطم أعمى المعرة وأبي حيان التوحيدي وفان غوغ وحافظ والحلّاج. والحال أنه يصعب فصل يوميات هذا الشاعر ومسوداته عن مشاريعه التحويلية الكبرى. فقد ترك لنا عدداً من الكتب أهمها ديوانه الشعري الموزون «أزهار الشر» أو «أزهار العلّة» وأفضّلُها... صدر للمرة الأولى عام 1857 وكان عمره 36 عاماً بعدما رفضه عدد من الناشرين. صدر من ستة أقسام: السأم والمثالية/ لوحات باريسية/ الخمرة/ أزهار الشر/ التمرد/ الموت... كتب كمستطرق (flâneur) يستعرض الواجهات والشوارع بحاسته التشكيلية السوداء: بالطبع قصائد «السويداء» تفتقد للوزن والإيقاع الذي كان يتقنه بودلير واستعمله في قصائد «أزهار الشر»، وجاء ذلك مرتبطاً بفكرته عن الحداثة، وترك من خلال ذلك ما يشبه العاصفة التي ما زالت تدوّي على امتداد الكرة الأرضية: «هل يمكن أن نكتب شعراً بالنثر؟» كان يرى في يومياته ضرورة الشعر في النثر، ويمكن فهمه أكثر بالاستعانة بما نشر من أعماله بعد وفاته. تلك الشذرات والملاحظات والمواد الأولية لأفكار ومشاريع دوّنها كيوميات، وكان يعدّها لكتابين وفصلين «صواريخ» (Fusées) و«نظافة» (hygiene). أما الكتابان فهما: «قلبي في عريّه» أو «قلبي عارياً» و«أحقاد« كان كشف عنهما الستار لأمه من خلال رسالتين أرسلهما لها، إحداهما في أول (أبريل) 1861 يشير إلى أنه سيضمّن كتابه الموعود «كل أحقاده»، والثانية في 5 حزيران (يونيو) 1868 «كتاب أحقاد ». ورغبته في أن يوجّه إلى فرنسا طاقته الحقيقية على الوقاحة. يكتب: «بي حاجة إلى الانتقام كحاجة الرجل المنتهك إلى حمّام». لكنه لم يُصدر في حياته أياً من الكتابين، بل أضاف ملاحظات ويوميات تحت عنوانَي «صواريخ» و«قلبي عارياً». لم يكن بودلير في نظري حين طرح فكرة قصيدة النثر وكتب نصوص «سويداء باريس»، إلا ذاته في ما هي عليه من تهاتر كل شيء والولع بالتدمير للبناء والضدية في كل شيء، ولم يخطر بباله إلغاء الوزن وابتكار طريقة لاوزنية للشعر، إلا من باب نرجسية داندية وسَمَت حياته وكتاباته، إذ إنه ابن الإيقاع ونقيضه والتكامل في التضاد غايته وفحواه. يرى الناقد الفرنسي جان كوهين في كتابه «بنية اللغة الشعرية»، وهو ألسني بنيوي، أنّ أثر بودلير ليس قوياً في فرنسا، وأنّ الوزن هو السائد. ويرى موريس شابلان في مقدمة «مختارات من قصيدة النثر» أنها «نوع لم يجرؤ أي منظّر أن يعلن قوانين لها». حتى إنّ سوزان برنار في كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم» تعلن أن قصيدة النثر «مسألة شخصية». بالطبع ت. س. إليوت في دراساته عن الإيقاع والموسيقى، يقول بضرورة وزن خفيف يقترب إذا ابتعدنا، ويبعد إذا اقتربنا. ويجعل أوكتافيو باث الإيقاع مسألة ميتافيزيقية، وأحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «قصيدة النثر القصيدة الخرساء» (دبي الثقافية، نوفمبر 2008) يرى أنّ قصيدة النثر «ثمرة من ثمار الصمت» (يعني الخرس) وأنها «خلية وحيدة أميبا بدائية لا هي ذكر ولا أنثى» (ص 66) وحجّته خلوها من الإيقاع الذي هو صوت اللغة في الشعر. لكنّ محمود أمين العالم يرى أن «النقلة الحقيقية في الشعر العربي لا تتمثل في الانتقال من الأوزان الخليلية التقليدية إلى التفعيلة، بل في استخدام الصورة استخداماً جديداً بنائياً ثم بدأت تجربة التطور في الإيقاع والنغم مع تطور إيقاع الحياة ذاتها، فلسنا في زمن البداوة والصحراء حتى نستوحي إيقاعاتنا من الوقع الرتيب لخفّ الجمل على الرمال، فالإيقاع ليس قيمة ثابتة مطلقة إنما هو نسق يختلف باختلاف الأوضاع» (قصيدة النثر، ص 119). بودلير بفكرته ونماذجه عن قصيدة النثر حرّك مياهاً في الشعرية وارتباطها بالصوت والإيقاع لا تزال دوائرها تتسع حتى اليوم... ولعل نظرات متعددة إليه كمتمرد أو متماوج أبدي برزت بعد موته: كتب فيه بول فاليري كتاباً واعتبر الإيقاع للشعر كالرقص من المشي ويقصد بالإيقاع الوزن. وكتب فيه جان بول سارتر كتاباً حدّق إليه فيه ككائن وجودي «رجل عاكف على ذاته»، «ينظر لكي يرى نفسه تنظر» وأنّ «بينه وبين الأشياء تندرج شفافية دبقة (translucide)»، هو رجل بدون «فورية»: يقصد أن العالم ليس شيئاً بالنسبة إليه بل هو صورته هو الداخلية عن العالم وهي نرجسيته الوجودية. السأم المحض من العالم الذي يتحدث عنه فاليري لدى بودلير هو «الطعم الذي يحسه الشخص بنفسه لنكهة الوجود» (بودلير لجان بول سارتر/ غاليمار). رفض بودلير أن يكتب أي شيء أو أي حوار مع منتقديه في ما يشبه مقدمة طبعة «أزهار الشر» الثالثة. لا فائدة البتة من أي حوار أو رد... وفي الوقت الذي يثوي فيه بصمت في قبره الكئيب المتواضع، تعلو ضوضاء في العالم حول قصائده وغاياته: يرى عبد القادر الجنابي في مقال له (موقع إيلاف) أن ما بقي من بودلير قصائد النثر في «سويداء باريس» وما بقي من رامبو إشراقات النثر لا «المركب السكران»، وما بقي من بول كلوديل المدّ النثري في كتابَيه «معرفة الشرق» و«الطير الأسود في الشمس الطالعة» ومن ماكس جاكوب «كوب الزار»... لتتمجد قصيدة النثر التي أنكرها أدونيس ثلاثاً قبل صياح الديك وقال فيها أنسي الحاج في آخر أيامه: «الشعر هو كل أشكاله» وهجاها حجازي حتى الموت.

* شاعر لبناني