بعد حوالى نصف قرن على صدور الطبعة العربية الأولى من كتاب «المسرح وقرينه» (دار النهضة العربية ــــ القاهرة ـــ 1973) للشاعر والمسرحي الفرنسي أنطونان أرتو (1896-1948)، أعادت «الهيئة المصريّة لقصور الثقافة» طباعة الكتاب/ المانيفستو بترجمة سامية أسعد. إنّه بلا شك أشهر أعمال أرتو، ضمّ مجموعة من النّصوص النّقدية والنظريّة التي نُشرت عام 1938. يمكن اعتبار أرتو رومانسي المسرح الفرنسي، ليس في معنى الانتماء إلى مدرسة فنيّة أو أدبية، لكن في العلاقة التثويرية مع المسرح وضرورة إقحامه في الحداثة وكسر مركزيّة النّظرة الغربية إليه. علاقة في توتّرتها وقابليتها للاستلهام والتطبيق من الأجيال اللّاحقة، شبيهة بتلك التي قامت بين لوتريامون أو رامبو مع الأدب. وضع أرتو إطاراً لنظرية مسرح القسوة عند تقييمه تجربة مسرح ألفريد جاري السوريالي، وأراد أن يعرّف المسرح فيها تحت علامة «الشعر في الفضاء». شيء أقرب إلى السحر أو العرافة، يسعى إلى ابتكار «نوع من اللغة الفريدة في منتصف الطريق بين الإيماءة والفكر».

اكتشف أرتو مسرح بالي الأندونيسي عام 1931 أثناء فعاليات «المعرض الاستعماري الدولي» في باريس، غير آبه بدعوات رفاقه السورياليين لمقاطعة الفعالية «الاستعمارية» في فينسين. في تلك اللحظة، اكتمل تصوره للثقافة الغربية، كثقافة مثقلة بالمادية وإيديولوجيا التطور التقني. ترافق هذا التصور مع شعور عارم بالسخط وعدم الرضى: هذه الأزمة الروحية لحضارة مادية عظيمة هي بالضبط ما أطلق عليه أرتو اسم «اليأس المعاصر». اكتملت وقتئذ رؤيته الثورية في «المسرح وقرينه» التي تعتزم إعادة تأهيل لغة جسد الممثل الذي سيصقل بالأصوات والأنفاس المنتظمة والتشنجات والترويج للاستخدام الموسيقي والتشكيلي لمساحة المسرح. لا ملائكية على الخشبة عند صاحب «فان غوغ منتحر المجتمع»: المسرح مثل الطاعون، يسحق الأعضاء الحيوية، يكسر مفاصل الجسد، ويعيد إليه هذه الحركات المفككة والزاوية التي تنشر في فضاء المسرح «العمارة الروحية» للغة.
هذا هو السبب الذي يجعل المسرح الحقيقي دوماً مسرحاً للقسوة: هو لا يلامس العاطفة والموت فحسب، بل يقيس نفسه قبل أي شيء في مقابل واقع الإنسان ذاته، ويتجاوزه. في مواجهة المسرح النفسي الذي كان لأرتو بمثابة الآفة المزعجة، وفكرة مسرح الترفيه التي مقتها هي الأخرى، ومحتجّاً على طحن الكلمة الأدبية والشعرية وفصلها عن مجال تأثيرها الحيوي عند ترويضها مسرحياً وبالتالي ضياع المقدّس، يجعلنا أرتو نكتشف قوة المسرح الذي يجد تجسيداً له في كل طاقة الأساطير التأسيسية أو التراجيديات القديمة. هكذا يصبح المسرح مرة أخرى «حقيقة يمكن للمرء أن يؤمن بها». قرأت فرنسا أرتو عند صدور «المسرح وقرينه»، لكنها اقتاتت على بريخت. استجاب الأخير لبرامج المسرحيّين المنخرطين سياسياً وغيّر معطيات العمل المسرحي في الوقت ذاته. إن كانت ثمة عقلانية سياسية في أعمال بريخت، مستندة إلى الماركسية التي بدت حينها قادرة على الاستجابة لآفاق التحول الاجتماعي، فقد أفلت أرتو من الانتماء الايديولوجي والالتزام بنهج سياسي واضح. حَذرُه من حصره في زاوية إيديولوجية أو أدبية، كان السبب في أن طرده بروتون من الحركة السريالية. سيصير أرتو الرومانسي المنبوذ... ولن توضع أفكاره النظرية قيد التطبيق إلا عندما عبرت الحدود إلى بلدان أوروبا الشرقية السابقة على خلفية خيبة الأمل السياسية من الاشتراكية. كان لقاء غروتوفسكي الحاسم مع شعرية أرتو إحدى المساهمات الرئيسة في تحوّل المسرح الحديث. الهزّة التي انطلقت من تلاقي رؤية العملاقين، ستكون لها ارتدادات عظيمة وراء «الستار الحديدي». حثّ نبي مسرح القسوة على تخريب الجماليات الرسمية، وكذلك على رفض التفاؤل التاريخي الذي نشأ في دين الدولة. ارتدادات تلقّفتها الحركة الهيبية الأميركية التي وجدت في رؤية أرتو للمسرح طريقة للتواصل السحري بين الممثل والمشاهد عبر اللّجوء إلى «الممارسات المقدسة» واختراع جسد جديد وعرض قائم على المناولة لا الفصل. كل قوة أرتو كانت في فعل الكسر، هو الذي بشّر بـ «المسرح الذي لا يتسمّر في اللغة والأشكال، يهدم الظلال الزائفة، لكنه يمهّد طريق ولادة أخرى لظلال يجتمع حولها المشهد الحقيقي للحياة. أن نكسر اللغة لنلامس الحياة، هو أن نصنع أو نُعيد صناعة المسرح؛ والمهم أن لا نعتقد أن فعل الكسر يجب أن يبقى مقدّساً أو محظوراً».