«اكتبي الشعر أولاً/ قبل أن تأخذي مقاس ضغطك/ قبل تعليم أطفالِك الدّروس اليومية/ وقبل أن تبدئي التّفكير/ بالرؤوس الملفوفة بالسّواد/ قريباً ستتوقف الحضارة/ عن تَنشق الشّتاء/ وسنقبع بلا معنى/ داخل عالم إلكترونيّ/ يفصل بيننا صحنٌ طائر ووهم عميق». يُعبّر هذا البوح عن محنة البشر، وهم يخوضون غمار الحضارة من دون جناح أو تعويذة. إنّها أيضاً حال النساء اللواتي تدعوهن دارين حوماني، شاعرة هذا النّص، كي يكتبن الشّعر قبل الاهتمام بالدروس اليومية لأطفالهن أو بفتاوى رجال الدين... هي التي تتنبأ بانتهاء المعنى من الحضارة بعد انهيار التكنولوجيا، لننعزل بحثاً عن أرواحنا المفقودة داخل هذا الوهم الثقيل، الذي قد يكون الجسد أو الروح، أو الحياة نفسها وهي تنقص كل لحظة... هذا عِوضاً عن وطنها الذي ضاع منها، حين منحت صوتها الشّاعري للطغاة، ترثو دارين الأشجار التي بُترت أعناقها، فأشعرتها بالهزيمة والضعف، لكن أكثر ما آلمها فراق مكتبتها التي لا تسعها حقيبة السفر.

كتاب «أشجار غير آمنة» (دار النهضة العربية) هو عنوان المجموعة الشعرية السادسة لدارين حوماني. نحن أمام مونولوج داخلي، موجع، حقيقي، مستتر أحياناً، فاضح في الدهاليز، شاحب ومضيء، يُشبه بيروت الجريحة. أمّا وباء كوفيد ــ 19، فيبدو أنّه أصاب عالمها بالتوحّد وأصاب اللّغة نفسها بالعدوى.
الحب بالنسبة إليها مرتبط بغريزتَي الموت والحياة والبقاء ونزعة التخلص من الزوائد، التي قد تكون رجلاً أو مشروع قبر. كذلك، يبدو جلياً سخطها على رجال الدين، ومشروع الوجود برُمته، وحنينها الزائد إلى طفولة تنعكس عَمودياً في البُرك الضوئية: «رغم كل احتمالات السقوط/ سيعثرُ الله على أطفالي/ داخل البرك الضوئية/ وسيُعيدهم لي/ قبل الهروب الأخير».
نص دارين مفتوح على جميع الاحتمالات والأسئلة. قد لا تجد لها إجابات دامغة تُنعش قلبها الذي تآكلته الحقائق الرمادية على حدّ قولها: «الحقيقة كثيرة عليّ/ إنها رمادية/ ولها لحية مُخيفة/ لمَ أخرجتني من بطن أمي/ هل كان ذلك ضرورياً».
ليس لدارين سوى الكتابة، فربما هناك يكمن البرزخ الذي تبحث عنه على امتداد صفحات الكتاب. تتجلى في نصوصها القصيرة، أفكار مُكثفة، فالموسيقى «تنجز ما يصعب على عمر كامل إنجازه لإصلاح مرض صامت» و«القطيعة يتوجب أن نشرع بها/ عوضاً عن التأسف المستمر/ على حياة نعيشها ليست لنا».
مونولوج داخلي موجع يُشبه بيروت الجريحة


كذلك تطرح دارين سؤالاً وجودياً عن الله: «ألا يشعر بالخيبة أيضاً من البشرية؟!» السؤال الأصم تنقله من الصفحة 9 حتى 117، حيث تختتم الكتاب بعبارة: «هل يُمكنك أن تكتب الآن وتُحبّ/ وتَقبل الآخرين/ مُتجاوزاً القلق والألم والإِنسان». تتساءل في مكان سابق: «ما العالم؟ ما الوجود؟ ما الزمن؟». تهرب دارين من الموت إلى الحياة حيث الزمن السائل يحيي بالموسيقى والألوان والقصائد، وقد تكون الأحلام تعويضها عن رحيل الأب والرجل الخائن. فالكلمات شغفها المضحك المبكي في زمن رديء التعليب «يقول العصفور: لم آخذ حصتي من الماء/ المياه عكرة/ تقول النحلة: لم آخذ حصتي من الزهرة... الزهرة مُقفلة». لكن تبقى «الأشجار أشيائي الخاصة/ الكتب أيضاً فُتحات المزمار».
في ممرات دارين حوماني المُظلمة تقول: «أحبك/ كما تُحب آلة التصوير/ أن تأخذ صورة...». في الممر نفسه تبحث عن ساعة والدها فوق الفراش، عن أطفال لم تلدهم... شاعرة مثلها مُصابة بلوثة الشعر والحب والجنون وعدم التصديق، تبحث في قبر أبيها الذي ينظّفه كلّما شعر بالملل، وفي محادثات الأموات عن معنى للوجود. إن صورة الرجل المتمثلة بصورة الأب الغائب، قد تلتصق بعقدة الكترا التي تصيب النساء الباحثات عن حضن دافئ، مرادفٍ للعشق الأبوي الكامن في اللاوعي. فهل البحث عن ساعة والدها، هو البحث المُقنع عن آخر يشبهه؟ هي التي تعتبر أن الفراغ «ذلك الذي يغفو في بطن الكون/ يُنشد عزلته/ ضجيج متحاربين وجثث/ أيّ مُحادثة ولّدت هذا العالم القذر؟».
تظهر دارين حرّة وشفافة، تعبّر عن غربتها في المكان والزمان، عن وحدتها حتى داخل نفسها وانعكاس كل هذا الخراب في مرآتها المُصابة بالصدأ: «أليس هذا ما تُريدونه: أيّها الرجال التُّعساء؟/ المكان يجعلني أرتجف/ موتي أنا باردٌ اليوم/ وحياتي الوحيدة اقتسمها أنذال». دارين التي تُشكك في جدوى الحياة، تَطلب أن تُعدم تحت الشجرة الأخيرة من مدينتها، بعد أن تترك روحها وجسدها للمطر والشعر، الموسيقى والكتب، ومعزوفات اللّيل كي تكتمل خطواتها فوق الماء.
من خلال القصائد الطويلة، التي تأخذنا إلى غير موضوع أو المُكثفة المكتفية بما قلَّ ودلّ.
في تعريفها للخسارة تقول الشاعرة: «صباحاً/ سأُحاول أن أُحبّ أمي من جديد/ أن أُقصّر المسافة بيني وبين جثة أبي/ يمرّ ضباب بيني وبينهم/ ما العالم مُقارنة بهذه الخسارة».
فعلاً يا دارين… ما العالم مُقارنة بهكذا خسارة؟