«مردكوش هو الجرس ينادي الهاوية ليخدما القدّاس/ عطرها وناطورها/ ولا يستاء الكاهن من نبيذ الجلبة/ وحين المساء يكتئب/ مثل والدته الكآبة/ تنكسر قجّته علينا ونلمّ حصادنا/ رغيف الصاج الملتهب واللبنة الخاسرة/ ويضيع بعض الشمس من الإصبع الرطبة في جرن المآقي/ وبعض الكنز من كيس البهلوان/ وفلس الأرملة دموع تنتحب/ وحذاء الغلطة/ على المفترق الناعم الحصى/ ومن الحياة إشارة/ أنّها وزنّارها أسودان/ لتعلّم السّاقية الحافية/ لتعتذر السفينة من البحر والقبطان/ وترجع إلى حماتها اليابسة/ وعليها كسوف الهوى من الحراب من الدوخة/ والزؤان النوتي والمجذاف من بشائر القمحة»: إنها لغة شوقي أبي شقرا (١٩٣٥) الشعرية التي لا تشبه إلا نفسها، نعثر عليها في مجموعته الجديدة «عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى» (دار نلسن ــ 2021)، محتفظة بنضارة ريفيّتها الفجّة وسورياليّتها البعيدة عن التكلّف والطاقة التي تشبه الخيمياء التي وسمت مجموعات «حدّاد وبويجي الشعر» كما يطيب لأبي شقرا أن يسمّي نفسه منذ «أكياس الفقراء» (1959) مروراً بـ «خطوات الملك» و«ماء إلى حصان العائلة» و«سنجاب يقع من أعلى البرج» و«ثياب سهرة الواحة والعشبة» وغيرها: كأن الكتابة مع شوقي أبي شقرا تعود إلى طرح أحد أسئلتها البديهية: أين يُدهش الشعر أكثر؟ وأي مسافة يبتعد بها الشعر عن الواقع؟ وأين يعثر الشاعر على كلماته؟ لعلّه حين يتعلّق بالأشياء التي تُدفع إلى الخلف من القضايا «الكبيرة»، وتوقّعات الجمهور والمدارس النقدية، إلى الثّيمات المطمورة التي يحمل الشاعر فوقها نايه السحري كأنّ لها أصواتاً وموجات تخرج من فوّهة الناي ويسمعها وحده، إلى السناجب التي تقع من الأبراج العالية و«المساء الذي تنكسر قجّته علينا مثل والدته الكآبة»... لغة شعرية تخرج عن أي سياق ثقافي وتستند إلى مخيّلة هائلة قادرة على تسييل التاريخ بمآسيه وسرديّاته الكبرى إلى رسوم متحرّكة شعرية مشاغِبة، وعلاقة مع الكون تغيِّر بشكل جذري التفكير في الأشياء «المحترمة» بشكل تقليدي في القصائد الملحمية مثل «السجود» و«الحمامة» و«الشعوب القديمة» و«أنوف الغزاة»: «أنا والغروب نشردُ نفرّ من السجود/ عقاباً على مدرسة الشاطئ/ ولا شكّ في المعصرة وقريتي تمتلئ من السحابة/ والمنام يلحق الحمامة الخفيّة والطارئة/ والكرة تلبط الصفارة والمباراة للشعوب القديمة/ ويلمع البرق حين الهدف/ وجنون الشبكة/ ولا تشحذي يا شحاذة/ لا تحطّي المنديل على بنك الكآبة/ لئلا يأخذه ويأخذك الهواء/ ويكسر الفلّة وأنوف الغزاة/ بل الرصيف ضيِّق القميص والميجانا/ بل وحده والدمعة كرة». تتساوى «الفلّة» شعرياً ومنديل الشحاذة و«اللّبنة الخاسرة» وغيرها من «سقط المتاع» الشعري مع المفردات المثقلة بمحمولاتها الرمزية عند غيره من الشعراء، وتطرح الطفولية السّحرية وضربات الكولاج نفسها ندّاً للقصيدة البنيوية، إذ لا يمكن في شعر شوقي أبي شقرا توقّع الجملة أو المفردة أو حتى الفكرة القادمة: ليس القارئ بحاجة إلى أقنعة أسطورية أو طوطمية أو حمولة من التراث أو إحالة إلى مدرسة غربية من الرمزية والسوريالية والدادائية ليستشرف هذا الشعر، أو يشعر بمسّ كهربائه. ما عليه إلا أن يستسلم لقدرة الناي على مخاطبة حواسه شعرياً: الشاعر الذي كان من الحلقة المؤسّسة لمجلّة «شعر» في خمسينيّات القرن الماضي وعمل في جريدة «النهار» كمسؤول لصفحتها الثقافية لثلاثة عقود ونيّف، لا تنقصه موهبة قدح أي حجرين في مخيّلته الملتهبة، ليصنع ناراً وينصب مسرح الغبطة فوق الكلمات ويعزف سمفونية رعويّة: «ربما شفة والتواء/ هكذا نحن نمثّل مسرح الغبطة/ وربّما الولد الهائم/ والقندلفت السكّير من حرير النعمة/ وزجاجة النبيذ والتّقوى/ ونختم التظاهرة بالشمعة/ وبأنّنا اللّيل والتفاحة/ وحوالى السلسبيل/ نجلس والطرائف بأيدينا/ على مهابة الطنافس على فخذ الريشات/وحوالى الزمان يتفلسف/ ويشدّ ويعقف الذؤابة/ ويختم الطربوش كل خطابة/ وسروالي لا حديث عن الوفاة/ نسيته في عاصفة المهرجان/ وهكذا وسادتي حروفك يا هيهات/ وأيضاً يا أبجدية المطبعة وحطام الزقاق/ ويا أي هزيمة لا انتحار على مقصلة العتمة»؛ قوة هذا الشعر بطفوليته التي يعرّف نفسه بها: أن ينسى صاحبه سرواله في المهرجان.