يعيد كورت ديبوف فكرة العولمة إلى إمبراطورية سومر التي ربطت المدن القديمة لبلاد ما بين الرافدين في كيان كونفدرالي، على غرار النسخة الراهنة من الاتحاد الأوروبي. فقد كانت الكتابة المسمارية التي اخترعها السومريون، اللغة التي استُخدمت لآلاف السنين باعتبارها «وسيلة التواصل العالمية». وتالياً، فإن العولمة قديمة قدمَ الحضارة نفسها، كما أنها تمثّل المجرى الحقيقي للتاريخ، عدا اهتزازات عطّلت مسار هذا الاتجاه المعولم بدءاً بسقوط الإمبراطورية الرومانية وفصلها عن طُرق الحرير، وغزو المغول لقلب العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر، ثم الحربين العالميتين الأولى والثانية.

هذه الاضطرابات وما تلاها أصابت العولمة في الصميم لمصلحة «القَبْلَنَة»، وتعني تمجيد الماضي للوصول إلى القبيلة. في كتابه «القبْلَنَة: هل الحرب على الأبواب؟» (2019) الذي انتقل أخيراً إلى العربية (مركز دراسات ثقافات المتوسط، ترجمة عماد الأحمد)، يتتبع الباحث البلجيكي ارتدادات الانتفاضات التي شملت معظم خرائط العالم العربي في مطلع العشرية الثانية من الألفية الثالثة، مروراً بخرائط أخرى وجدت في القبيلة المتخيّلة: الأمة والدين والإيديولوجيا ملاذاً لها في عالم فوضوي، يتلاشى فيه اليقين. لكنّ هذه القبائل تنطوي على رؤية حادة بالأبيض والأسود للعالم الذي تتغذى وتتنامى فيه القبلنة وهي المعاكس الموضوعي للعولمة. يتوقّف الباحث أولاً عند أزمة الهُوية في صدماتها المتلاحقة، ذلك أن عجلة القبلنة تعمل على تأجيج العنف وصولاً إلى الحرب. ولكن كيف نحمي القبيلة؟ سؤال آخر يجيب عنه كورت ديبوف، وهو يتأمل الجدران العازلة والأسلاك الشائكة التي تنمو بين حدود الدول لحماية خصوصية القبيلة بالتوازي مع الخطاب القَبَلي والأحزاب القبلية في جميع أنحاء العالم، إذ تحيل هذه الخطابات إلى الأمس مع وعود بجعل بلادهم أو أديانهم عظيمة مجدّداً، بتنقية ثقافة القبيلة من خصومها في الخارج والداخل معاً باستنفار مصطلحات مثل «الحملة الصليبية»، و«محور الشر». وفي المقابل تشكّلت تنظيمات «جهادية» جديدة مثل «القاعدة» في العراق بوصفها نسخة مبكّرة للدولة الإسلامية في العراق والشام: «إذا سافرت حول العالم اليوم، سترى بوضوح ذلك الاتجاه المتزايد نحو القبلنة، ونحو سياسات أكثر استقطاباً، وأكثر شعبوية وأكثر شخصانية، مما كانت عليه منذ الحرب العالمية الثانية» يقول. هكذا يروّج قادة استبداديون جدد، كاستجابة للتجارب المؤلمة، لفكرة العظَمة في إشارة إلى الماضي المجيد الأسطوري، بتطهير بلدانهم من «الخونة»، واعتبار نُقّادهم الخارجيين بمثابة أعداء. الأعداء هنا، أولئك الذين ينتسبون إلى هُوية أخرى مضادة، إذ يحلّ الإسلام اليوم، محلّ الشيوعية في الأمس بوصفه خطراً متخيّلاً على أوروبا المسيحية، فجحافل الفتح الإسلامي منذ قرون، وفقاً لتصوّرات الأحزاب اليمينية المتطرفة، ستعود وتقهر وتدمّر الحضارة الأوروبية اليوم تحت لافتة «الإسلاموفوبيا». صراع الهُويات القبلية لا يتوقّف عند حدود الأفكار، إنما يتعداه إلى الرموز، وفي مقدمها العَلم كهُوية مقدّسة. يحضر هنا العَلم الشيوعي الأحمر وعليه مطرقة ومنجل باللون الأصفر، والعلم النازي الأحمر، وعليه الصليب الأسود المعقوف داخل دائرة بيضاء «رُفع العلم الشيوعي في الغرف التي تعجّ بدخان سجائر أولئك الأشخاص الذين آمنوا بأفكار كارل ماركس في جميع أنحاء العالم، فيما لا يزال العلم النازي حتى اليوم رمزاً للتفوّق العنصري للعِرق الأبيض. أما العَلم الأكثر تطرّفاً، فهو العَلم الأسود للدولة الإسلامية، إذ ينشر هذا العلم الخوف والذعر في جميع أنحاء العالم» يقول.
يحلّ الإسلام محلّ الشيوعية بوصفه خطراً متخيّلاً على أوروبا المسيحيّة


خارج هذين القوسين، يبرز العَلم الأكثر شعبية، وهو علم فلسطين كونه يرمز إلى نضال العرب ضد الاحتلال الإسرائيلي. في باب آخر، يضع كورت ديبوف ثلاثة سيناريوات محتملة لمستقبل العولمة: إما استمرارها، أو ارتداد العالم نحو الإقليمية أو تنتهي تماماً في السنوات العشر المقبلة كمحصّلة للاضطراب، والاختلال الذي يشهده العالم اليوم، ليس اقتصادياً وحسب، إنما لأسباب نفسية استدرجتها الصدمات الكبرى التي أغرقت البشر في أزمة هُوية أدت إلى رغبة جماعية في العودة إلى القبيلة التي يعرفونها جيداً. إلا أن هذا المشهد الداكن شهد بعض التفاؤل في فترة ما، خصوصاً في الشرق الأوسط، بسقوط أنظمة، وتغيير دساتير، وانتفاضات، قبل أن تختلف الأجواء ويتحوّل الأمل إلى يأس في مختلف أنحاء العالم، فقد صُدمت أوروبا بانتكاسات ومخاطر تتعلّق بدعوات إلى تفكّك الاتحاد الأوروبي، وفقدان الثقة بالنظام الرأسمالي (حركة احتلوا وول ستريت)، وتحوّلت آفاق السلام إلى صراعات جديدة في منطقة شرق آسيا، وتدهور العلاقة بين الصين واليابان. هكذا ضاعت البوصلة بعودة القوميات الاستبدادية، والتطرّف الديني بعد موجة من انتشار الديمقراطية في تسعينيات القرن المنصرم، لتختفي الماركسية تقريباً بعد 160 سنة من البيان الشيوعي: «لن تجد بالكاد شخصاً يعتقد بضرورة الصراع الطبقي أو ديكتاتورية البروليتاريا» يقول. هكذا يمثّل خيار العودة إلى القبيلة نوعاً من الدفء والهُوية الواضحة بدلاً من العيش في العالم المربك والمشوّش خارج دائرة القبيلة، ووفق ما يقول فرويد: «يشعر الناس بنوع من القوة اللانهائية عندما يصبحون جزءاً من الحشود». وإذا بنظرة دونالد ترامب اليمينية المتطرفة تلتقي مع تفكير سيد قطب وحسن البنّا لجهة القبْلَنَة، وتالياً يمكن لكل إيديولوجية قبلية، سواء أكانت قومية أم دينية، أن تنزلق إلى العنف. وبما أن القبلنة مُعدية، فإن هذا العنف يمكن أن يؤدي إلى الحرب، ذلك أن تزايد القبائل يعني تراجع العولمة. لكن كيف يمكننا تجنّب الحرب القادمة؟ يجيب: «يمكن للجميع محاربة رُهاب الإسلام أو مناهضة فكرة أننا نواجه اليوم صراع الحضارات. يمكن للجميع محاولة الخروج بأفكار جديدة للمستقبل». ويضيف: «يحتاج العالم إلى العودة إلى سكّة العولمة، لأن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق السلام والازدهار». ويختتم بأن أيّ شكل من أشكال التعصّب، كما يرى كارل بوبر، سوف يؤدي إلى مجتمع مغلق وقَبَلي، ولهذا السبب ينبغي ألّا نتسامح مع التعصّب.