« لا أظنّ موضوعاً أُسيء فهمه وتقديره كالإسلام، ولا سيّما في الجانب التنظيمي منه. لذلك، أراني مدفوعاً إلى الحديث عن مفاهيمه، خصوصاً الدّاخلة في صميم مشاكلنا وليس بينها، كالفقر، مشكلة هي أحقّ بالتقديم. نعم.. إذا عُني الإسلام وعُنيت المذاهب الاجتماعية بالتّحدث عن الفقر كما لو كان المشكلة الأولى، فذلك لأنّه الداء الصّميمي الذي يهدّد البشرية جمعاء في بقائها، وليس وراءه داءٌ يفعل فعله السريع في إذابة صور المدنيات وإصابة روح الجماعة إصابةً مباشرة. ويتسنّى لنا أن نفهم خطورته أكثر فأكثر، إذا نحن درسناه كمرض عضوي يصيب المجتمع الذي هو كائن عضوي أيضاً». بهذه الكلمات، صدّر عبد الله العلايلي (20 نوفمبر 1914ــــ 3 ديسمبر 1996) كتابه المرجعي «أين الخطأ» (1978) الذي يضع فيه الإصبع على الجرح في محنة الحضارة الإسلامية والانفصام بين منطلقاتها الروحية وواقعها الاقتصادي الاجتماعي. بهذا العمل، توّج «الشيخ الأحمر» سلسلة من المؤلفات التي تستوقف أي مهتمّ بحضارة العرب ولغتهم وتراثهم وثقافتهم نستذكر منها «مقدمة لدرس لغة العرب» (1938)، و«أشعة من حياة الحسين» (1939)، و«تاريخ الحسين» (1940)، و«إني أتّهم» (1940)، و«مثلهنّ الأعلى» (1947) و«أيام الحسين» (1948) و«معجم العلايلي» (1954) و«المرجع» (1963). علماً أن «دار الجديد». أعادت إصدار أعماله.جمع العلايلي في شخصه توليفةً فريدةً من الميّزات الثقافية والفكرية أمكنها التوفيق بين القدسي والدنيوي بتعبير مؤرّخ الأديان والفيلسوف مرسيا إلياد. اجتمعت في الشيخ المتنوّر الجبة وعباءة رجل الدين. تحاوران الآخر بمعرفة مجبولة بالاحترام والموضوعية، واجتهاد في الدين يمازجه نظر في الدنيا وتخليص للزمن من شوائبه الخرافية نحو شكله الإنساني الأكثر عقلانية ورحابة. رزانة المفكّر الحرّ مرتبطة بقلب المؤمن الكبير في محبة وعطش معرفي يقترب من التصوف، وخصوصية بيروتية مترفعة عن المذهبيات الضيقة والأدبيات الخلاصية ومندمجة في العروبة ومكوّنها الأعمق والأعذب وهو اللغة. فقد محضها جهداً قلّ نظيره في عقلنة لسانها، وترشيد المعرفة بها نطقاً وكتابة وحياةً، هو العاشق لها حتى انقطاع النفَس، الحريص على مصالحتها مع الحداثة والزمن: « يهمّني بادئ بدء أن أقول مع «شوقي»: وما العربية إلا وطن».
ولد عبد الله العلايلي في بيروت عام 1914 عشية الحرب العالمية الأولى، وتلقّى أول أصول التعليم في «مدرسة الحرج» التي أسّستها «جمعية المقاصد الإسلامية» عام 1917، قبل أن يغادر إلى القاهرة في العاشرة من عمره ليتابع دروسه الأزهرية، ويكون شاهداً على سنوات الغليان المصرية تحت الانتداب الإنكليزي. هناك، غرف من معين نخبة من العلماء أمثال الجيزاوي، وشاكر الدجوي، وسيد بن علي المرصفي. نخبة لمّا تنتهي من اقتفاء أثر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في ما يتعلق بالمواضيع الشائكة كالإصلاح الديني والمدنية والمصالحة بين الإسلام والحداثة، وقد طبعت سنون الدراسة الـ12 شخصيّة العلايلي التاريخية والثقافية والاجتماعية، إذ كانت الفترة ما بين تخرّجه من الأزهر وعودته إلى لبنان في العقد الرابع من القرن الماضي هي الأغزر في نتاجه الفكري. لكنّ الإهمال طال قسماً من نتاج الشيخ الأديب، إذ ضاعت مدوّناته في مصر التي جمعها في مخطوط أسماه «أعوام في مصر»، وكذلك مسودة كتاب آخر في تصوير الواقع المصري حينذاك بعنوان «أدباء وحشّاشون». كما أنه نظّم شعر الغزل والتصوّف في شبابه في قصيدة «رحلة إلى الخلد» في أكثر من 1500 بيت ضاع معظمها.
خاض العلايلي غمار السياسة، فتقدّم عام 1952 لموقع دار الإفتاء، لينال 45 صوتاً مقابل 52 صوتاً للشيخ محمد علايا الذي صار مفتياً للجمهورية. شارك في تأسيس عصبة العمل القومي، وفي 17 آذار (مارس) 1949 أسهم في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، إلى جانب كمال جنبلاط واطّلع على أفكار «حركة أنصار السلم» ذات الأصول الماركسية، وطالع مذهب داروين وأفكار ماركس وأنجلز وغوستاف لوبون، بخاصة «روح الاشتراكية»، فاتّهم بالشيوعية ولقِّب بـ «الشيخ الأحمر» رغم أن بقاءه في الحزب الاشتراكي لم يطل أكثر من سنة ونصف السنة لصعوبة حصر روح العلايلي في أُطُر حزبية ضيقة. روحه الوثّابة القلقة كانت تنفّر من كل دوغمائية ولو ارتدت لباس «المقدس»، وهو ما يجعل فكره راهناً اليوم بقوة بعد ربع قرن على رحيله. أمام مخاطر الوقوع في «شريعة» تندفع إليها بعض الدول والمجتمعات بدون فهم ماهيّتها وعوامل تطوّرها ومصادر استمدادها وانزياحها عن الوسطية والاعتدال نحو الأصولية والتطرف، لم يتردّد في وصفها بقفزة في الفراغ: «لولا ما أجد من اندفاع جارف يكاد يجاوز حدّ الشطط، بين معاشر ومعاشر في دول إسلامية شتّى، من التحول الجامح إلى ما يسمّى الشريعة وجعلها قاعدة للحكم... لكن رويدكم يا هؤلاء، فأنتم تبنون الأهرام على رؤوسها لا على القاعدة: وبذلك يكون هويها عظيماً والتميّل بل الانكفاء خطيراً، حين يُعزى -ما سنجد أنفسنا فيه من وضع مأساوي لا محالة- إلى الأخذ بالشريعة وهنا تحقّ الجريمة أو ما هو أسوأ منها».