جمعَ فتحي ليسير (1953) بين صرامة المؤرّخ وفتنة الكتابة القصصية والروائية وتدوين سير أبطال «حركة الكفاح الوطني» ممن أهملهم التاريخ الرسمي. أحد روّاد «تاريخ الزمن الراهن» (عنوان أحد كتبه) ومنظّريه في العالم العربي، دشّن هذا الاختصاص في تونس عام 2012، فيما يبقى كتابه «دولة الهواة ــ سنتان من حكم الترويكا 2011 ــ 2013» (تونس ــ 2013 ) من أهم المراجع التي رصدت تجربة الإسلاميين في حكم تونس. انطلاقاً من انتمائه إلى جيل من المؤرّخين ممن تلقّوا تعليماً متعدّد اللغات في المدرسة التونسية وصولاً إلى الجامعة، أسهم ليسير في إثراء المكتبة العربية في مجال الترجمة مثل ترجمة كتاب المستشرق الفرنسي أندريه لوي «بدو الأمس، بدو اليوم في الجنوب التونسي»، وكتاب أرنولد توينبي «نظرية التحدي والاستجابة في نظريات المعرفة التاريخية وفلسفات التاريخ في العالم الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين»، إلى جانب عشرات الدراسات والمقالات في مجلات محكمة في تونس وخارجها باللغتين العربية والفرنسية. هذا الإنتاج العلمي الغزير، لم يمنع ليسير من الكتابة السردية، إذ أصدر مجموعة قصصية بعنوان «أضمامة نساء تونس» ورواية «الملانخولي» التي رصد فيها حالة الانهيار العام الذي تعيشه البلاد تحت حكم الإسلاميين. في هذا الحوار، نرصد معه تحولات التاريخ المعاصر وحالة الترجمة في العالم العربي والتجربة التونسية في التعاطي مع الإسلام السياسي
السؤال الذي يفرض نفسه ونحن نحاور أستاذاً متخصّصاً في تاريخ الزمن الراهن هو: كيف يمكن أن نقرأ جائحة كوفيد-19 قراءةً آنية تستوعب ارتدادات هذا الحدث الجلل على العالم؟ وهل يمكن القول إنه باستطاعة الجائحات الكبرى مثل هذه، أن تخلق أزمنة جديدة في التاريخ؟
ــــ كنت أنتظر منك أن تطرح عليّ مثل هذا السؤال. إذا استعنا بعبارة المؤرّخ بيار نورا، فيمكن القول بأنّ كوفيد-19 هو حدث من النوع المسمّى بـ «الحدث المسخ» L’événement monstre. إذ لم يحدث في التاريخ قط أن عاشت البشرية موجةً من الهلع الجماعي مثلما حدث في مطلع سنة 2020. في ربيع السنة المنصرمة، توقف النشاط البشري حدّ الشّلل بسبب فيروس كورونا المستجد، وشهدنا أكبر عملية حجر صحيّ في التاريخ، أربعة مليارات إنسان التزموا منازلهم. يمكن الاسترسال في ذكر الأمثلة، فالنتائج المترتبة على الصدمة التي تسببت فيها هذه الجائحة غير مسبوقة على الصعيد العالمي. لكن الأكيد أنه مع إلحاقها ضرراً شديداً بالاقتصادات والبشر، فإنّ تأثيرها سيتجلّى في الأعوام المقبلة على المناحي الحياتية الإنسانية كالاقتصاد والعلاقات الدولية، وسياسات الدول الخارجية والداخلية في ميادين التنمية، وبالأخص مجالات الصحة العامة، وبرامج البحث العلمي، والبيئة طبعاً. أما أنا، فأود التركيز على فرادة هذا الحدث الهائل من منظور المؤرّخ. لقد شكّل كوفيد-19 ما يسمى بالفرنسية un événement/Avènement أي حدث/حِدْثان. أي أنه ــ بالنسبة إلى جمهور المؤرّخين ـــ علامة تدشينيّة وافتتاحية على خط التاريخ الطويل. لقد سمح هذا الزائر الجديد للبشرية بالولوج الفعلي إلى القرن العشرين، بإحداثه أزمة في عصر «الأنثروبوسين» Anthropocène (من اليونانية تعني «إنسان حديث العهد») الذي تلا عصر الهولوسين (بدأ منذ 10000 سنة). وتبسيطاً للأشياء، أقول إنّ عصر الأنثروبوسين الذي نعيشه اليوم هو العصر الذي تحوّل فيه البشر، بفعل أنشطتهم التي ترتّبت عليها تغيّرات إحيائية – جيوفيزيائية، إلى «قوة جيولوجيّة» تؤثر على الكوكب. أما البداية الفعلية لهذا العصر، فتعود إلى انطلاقة الثورة الصناعية، خصوصاً فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ــ 1945) عندما بدأت تتصاعد الممارسات الضارّة بالبيئة. لقد ترتّب على دخول كوكب الأرض مرحلة الأنثروبوسين، خصوصاً لحظتها الثانية بعد عام 1945، ظهور أوبئة جديدة وأمراض ناشئة إلى جانب الأمراض القديمة، تنقّلت من بلدان مختلفة. ومن بين هذه الأمراض يمكن أن نذكر، على سبيل الذكر لا الحصر، الإنفلونزا الآسيوية (1957) وإنفلونزا هونغ كونغ (1968) وإنفلونزا «إتش وان/ آيت وان» (1976) و«إنفلونزا الطيور» (1997) و«فيروس سارس» (2002) و«فيروس إيبولا» (2014) و«فيروس ميرس» (2019). كلّ الدراسات المتخصّصة تُجمع على أنه لا يمكن فصل نشوء هذه الأوبئة الطارئة عما يحدث من اختلالات في التغيّرات المناخية، والتوازنات البيئية، والتراجع في التنوّع البيولوجي. ولا حاجة إلى القول بأنّ كل هذه التحولات مردها إلى ممارسات الإنسان الدالة فقط على عدم احترامه للعالم الطبيعي. لذلك، أصبحنا نرى أخيراً انتشاراً للأمراض المعدية تنتقل من الحيوان إلى الانسان، ما يسمى «الزونوزات» zoonoses، على نطاق واسع مثل «فيروس سارس» (انتقل إلى الإنسان من قطط الزباد) و«مرض ميرس» (انتقل إلى الإنسان من الإبل). أما كوفيد – 19، فإن الفرضية الأكثر قبولاً أنه انتقل من الخفافيش أو من حيوان المنغول إلى الإنسان. تمثل هذه الجائحة أول إنذار لأزمة في «الأنثروبوسين» من حيث الأضرار والشمولية. لكن الأصيل هنا هو أن «الأنثروبوسين» أدخل البشرية إلى نظام تاريخاني جديد، ألّف بين التاريخ البشري وتاريخ كوكب الأرض، ما يؤشر إلى نهاية التمييز القديم بين التاريخ البشري والتاريخ الطبيعي. معنى هذا أننا أصبحنا معشر البشر أمام زمنيّتين Deux temporalités متعلقتين: تقاس الأولى بالسنوات والقرون، والثانية بملايين أو بمليارات السنين. هذا ما يحيلنا إلى تيار التاريخ الكبير Big History الذي لمع فيه المؤرّخ الإنغلو- أميركي دافيد كريستيان (1946). تتمثل فكرة هذا التاريخ في مقاربة تاريخ الكون أرضاً وسكاناً في حركة واحدة منذ الانفجار العظيم أو الـ Big Bang.
«الصعلكة الشريفة» كانت حركة مقاومة شعبية، شكّل عناصرها ما يُعرف بـ«جيش الظلال»


اهتممت في كتابك «الصعلكة الشريفة» بالمقصيين والمنسيين في التاريخ الرسمي، ما سرّ اهتمامك بهؤلاء؟
اهتممت في كتابي «من الصعلكة الشريفة إلى البطولة الوطنية ـــ دراسة في سير بعض المستبعدين من تاريخ تونس المعاصر» (تونس 1999) بطائفة من المغيّبين أو المستبعدين من تاريخ تونس المعاصر، وتحديداً خلال معركة التحرير الوطني. والحقيقة أنّ نيتي في هذا الخصوص لم تكن كتابة تاريخ مضاد يواجه التاريخ الرسمي السائد. لكن أردت أن أسدّ فراغاً ما. فافتقار المدوّنة التاريخية المعاصرة (بالأخص استوغرافيا الحركة الوطنية التونسيّة) إلى دراسات علمية عن قادة الحركة المسلّحة خلال حقب المقاومة الثلاث: «زمن القبيلة» و«زمن الأفراد» و«زمن العمل المؤطر» (1881-1954)، هو الذي حرّضني على إنجاز هذه الدراسة، خصوصاً أن هؤلاء القادة حفروا أسماءهم في الذاكرة والوجدان الشعبيين، فلم يعد من الممكن إغفالهم. لذلك كنت أحاول في الكتاب أن أجد تصنيفاً لحركات من رفعوا ألوية العصيان في وجه الاحتلال الفرنسي. فالتاريخ الرسمي تعامى عنهم، والمؤرخون أسقطوهم من حسابهم كما لو أن حركاتهم المقاومة لا تشكّل مكوّناً أساسياً من مكوّنات تاريخ تونس المعاصر. كانت الإشكالية التي طرحتها في الكتاب: هل يجوز اعتبار هؤلاء الرجال أو بعضهم أبطالاً وطنيين؟ لم تكن مهمّتي سهلة، فقد اصطدمت بصعوبتين أساسيتين. تجلّت الأولى في شُحّ المادة المصدرية بالنسبة إلى هذا الصنف من المقاومين. هذا مردّه إلى أنّ الصورة التي نملكها عنهم قد رُسمت بأقلام أعدائهم من رجال السلطة الفرنسية. أما الصعوبة الثانية، فترجع إلى المسحة شبه التقديسية التي أضفتها السردية الشعبية على أولئك الرجال، بحيث إنّ عدداً منهم وُضع في مقام العصمة والتنزيه. فكان تناول حيوات بعضهم في إطار تحليلي وناقد أشبه بالمخاطرة أحياناً. في خاتمة بحثي، خلصتُ إلى جملة من النتائج منها أنّ «الصعلكة الشريفة» كانت حركة مقاومة شعبية ذات دور مجهول وفضل مغمور شكّل عناصرها ما يُعرف بـ«جيش الظلال». ثم إنّها كانت ظاهرة ريفية تقابلها ظاهرة الفتوّة في المدن والحواضر، وقد قامت في جوهرها على النشاط الفردي والبطولة الفرديّة خلافاً لـ«حركة الفلاقة» (تعود جذور مصطلح «الفلّاقة» إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، ضمّت حملة السلاح ممن قاوموا الاحتلال الفرنسي في تونس). من النتائج الأخرى لذلك أنّ «الصعلكة الشريفة» مثّلت – بمعنى من المعاني – أحد أشكال الاحتجاج الاجتماعي من دون أن يكون قادتها قد أعلنوا في تحرّكاتهم عن «برامج اجتماعية» معيّنة، ما يجعلها رائدة على خط «البطولة الوطنية». علماً أنّ البعد السياسي فيها كان هُلامياً في الأعمّ الأغلب. أما آخر هذه النتائج فمؤدّاها إلى كون هذه الحركة «محافظة» من حيث إطارها الفكري وتصوّراتها وبدائلها الاجتماعية أيضاً.

منذ ما يُعرف بالثورة، أثيرت في تونس دعوات إلى إعادة كتابة التاريخ رافقها تشكيك في الاستقلال وفي الحركة الوطنية ومصداقية المؤرّخين التونسيين. كيف ترى كل ما أُثير ويُثار؟ وما هو موقفك كمؤرّخ ؟
ـــ ليست هذه الدعوات بالأمر الجديد. فقد سبق أن رُفعت مثلها بعد الإطاحة بالرئيس الحبيب بورقيبة (1903-2000) عام 1987. ثم عادت إلى الظهور بقوّة خلال الأشهر الأولى من الثورة، خصوصاً خلال عامَي 2011 – 2012 في مناخ كان يمُوج بالانفعالات والدعايات وتصفية الحسابات السياسية. والحق أن تعبير «إعادة كتابة التاريخ» غالباً ما يثير سخرية المؤرّخين المحترفين لسبب بسيط هو أنّ إعادة كتابته تقع في صميم الكتابة التاريخية، وعلى رأس هموم كلّ مؤرّخ جدير بهذه الصفة. فالمؤرّخون لا يفعلون سوى ذلك، وهو في صلب عملهم الذي يكون إما عبر الاستعانة بآخر ما تنكشف عنه أوراش البحث التاريخي في العالم من مناهج وأدوات، أو في ضوء كشوفات مصدرية أي وثائقية جديدة أو أعمال حفريات أو غيرها. لا بد من القول بأنّ أغلب من يرفعون هذه الدعاوى هم على جهل بالاستوغرافيا (Historiography) التونسية المعاصرة والراهنة، وإلاّ لما طلبوا من المؤرّخين إعادة كتابة التاريخ. الحق أن تاريخ الحركة الوطنية التونسية ومراحل بناء الدولة الوطنية، كانا محلّ رهانات سياسية وثقافية عند قطاع عريض من الطبقة السياسية والطيف الثقافي التونسي. ولا بد من التمييز هنا بين «السردية التاريخية الوطنية» (le récit national) و«الرواية الوطنية» (le roman national). فالأولى تستدعي المعرفة التاريخية العقلانية التي يمكن التحقّق مما يأتي فيها من بيانات. وعادة ما تكون هذه السردية في الكتب المدرسية، لذلك جاء الحديث من هنا عن «تأميم التاريخ». أما «الرواية الوطنية»، فتعكس حنيناً شعبوياً جارفاً تجاه البطولات والأمجاد القومية. وغالباً ما تتمثل وظيفتها في تغذية نسغ مُتخيّلٍ تاريخي لكل المواطنين، ما يشكل الأساس المشترك للمجموعة الوطنية. لم يسبق لتونس أن عرفت «حرب سرديات» لأنّ الذين طعنوا في بعض فصول السردية الرسميّة، اقتصروا على الحقبة المعاصرة منها، متّهمين الرئيس بورقيبة الذي لم يكتب التاريخ، بتزوير المعطيات التاريخية. فصياغة رواية وطنية في محاضراته حول تاريخ الحركة الوطنية لم تشفع له. وممّا يُؤكّد هذا الرأي أنّ السردية الرسمية لتاريخ الحركة الوطنية وبناء الدولة الوطنية، ظلّت على حالها تقريباً منذ ثمانينيات القرن العشرين، مع إعادة الاعتبار لبعض الشخصيات الوطنية مثل صالح بن يوسف، وبعض الشرائح الاجتماعية مثل مقاومة الأرياف والبوادي للاستعمار. وهنا لا بد من القول بأنّه لم تصدر خلال السنوات الستين الماضية توجيهات أو أوامر بكتابة التاريخ أو بتدريسه في الجامعة التونسية أو بالتركيز على مثل هذه الشخصية أو حتى على فترة دون أخرى. الخلاصة هي أن دعوات إعادة كتابة التاريخ كانت تحرّكها بواعث سياسية ليس إلا، لأنّ البعض من الإسلاميين والقوميين العرب كانت لهم جردة حساب مع بورقيبة وبناة دولة الاستقلال عموماً. فات هؤلاء ــــ ومن نحا نحوهم ـــ أنّ التاريخ لا يُكتب وفق منطق «الطلبيّة». ولو أن السياق يسمح، لكنتُ توسّعت أكثر في الموضوع بالحديث عن «إيتيقا» (فلسفة الأخلاق) المؤرّخ وخصوصيّة مهنته وإكراهات الكتابة التاريخية في البلاد العربية.

«الرواية الوطنية» تعكس حنيناً شعبوياً جارفاً تجاه البطولات والأمجاد القومية


مارست الترجمة وأصدرت عدداً من الترجمات. كيف تنظر إلى واقع الترجمة في العالم العربي؟
ـــ لقد أصبح للحديث اليوم عن صناعة الترجمة وسوقها مكانة خاصة. لسنا بحاجة إلى التذكير بالجهود الكبيرة التي بذلها العرب في هذا المضمار، إذ كان لحركة الترجمة تاريخ مهمّ في الحضارة العربية بدءاً بتجربة الدولة العباسية الفريدة في نوعها، مروراً بتجربة محمد علي باشا الرائدة في مصر وفي عصر النهضة، وصولاً إلى الزمن الراهن الذي سجّل جُهُوداً محمودة في هذا المجال. لكن الترجمة في الوقت الراهن تعاني حالة من التّعثر ومشاكل وجملة من التحدّيات التي يتعيّن عليها تذليلها كي تؤديَ الدور المنوط بها في زمن بلغت فيه المنافسة في هذا المجال شأناً عظيماً. بالرغم ممّا قدّمته مراكز الترجمة في البلاد العربية اليوم ومساعي الجامعة العربية في إعادة الاعتبار للترجمة والجهود الحثيثة لعدد من الدول العربية في مجال الترجمة مثل لبنان ومصر وسوريا والكويت والمغرب وتونس، إلا أنّ مركز العرب ضمن الترتيب العالمي للمُنجز الترجميّ يظلّ متأخراً جداً. صحيح أن اللغة العربية تحتل المرتبة السادسة عالمياً، لكن الإحصائيات تشير إلى تواضُع حجم ما يُترجم في البلاد العربية مقارنة مع سائر دول العالم. على سبيل المثال، عدد الكتب المترجَمة إلى العربية خلال ثلاثين سنة أي ما بين عام 1970 وعام 2000 تحديداً، لم يتجاوز 6880 كتاباً في حين يُترجمُ في اليابان سنوياً أكثر من 30 مليون صفحة. الجيد أن الوعي يتزايد تجاه هذا التأخر المخجل في مجال الترجمة وضرورة تفاديه، ناهيك بأن إنتاج المعارف والعلوم شهد طفرةً لافتةً في شتّى المجالات خلال السنوات الأخيرة في العالم. أمر يتطلب من العرب مواكبة التدفق المعرفي ومواكبة جديد علم الترجمة وسط الثورة المعلوماتية التي تجوب العالم.

أنت تكتب القصة والرواية في موازاة إنتاجك للكتب والمقالات في حقل تخصّصك. صدرت لك مجموعة قصصية وروائي. كيف تعيش هذه المراوحة بين السردية المرجعية (التاريخ) والسردية التخييلية (القصة والرواية)؟
لوقت طويل وحتى حدود الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، كان التاريخ يُعتبر جنساً أدبياً، لكن مساعي المدرسة الوضعانية الألمانية حوّلته عبر استراتيجيات استوغرافية إلى علم له قواعده وشروطه، على رأسها التحليل النقدي للمصادر والأصول، مع تقيّد بلغة علمية لا مجال فيها للأسلوب المنمّق. لكن لا شك في أنّ وشائجُ قُربى ونسب ربطت التاريخ والرواية. يكفي للتأكد من هذا أن نعود إلى أعمال هيرودوت وشيشرون وفولتير وميشليه وفوكو. أما بعد مرور قرن على هذا التحوّل في الكتابة التاريخية الذي كرّسته مدارس تاريخية كبرى على رأسها مدرسة الحوليات العتيدة، فقد عاد الحديث عن كون التاريخ لا يعدو أن يكون سوى جنس أدبي، خاصة مع المؤرّخ الشهير هايدن وايت. والحق أن هذا التوجّه قد تعزّز مع تيار ما بعد الحداثة. جرى هذا يداً بيد مع ظاهرة «وسواس» الكتابة الأدبية، خصوصاً الكتابة الروائية التي راودت عدداً من المؤرخين المعروفين. هناك من ظلّت رغبته الدفينة تلك حبيسة صدره بحيث لم يترجمها إلى الواقع، وهناك من حوّلها إلى حقيقة. يحضرني هنا مثال المؤرّخ العربي الكبير عبدالله العروي الذي كتب أربع أو خمس روايات.
ينبغي أن ينظر إلى التاريخ في تقدير إيبستمولوجي على أنه شكل أدبي ينتج المعرفة بواسطة بنيته الجمالية والسردية. في النهاية، هو ــ أي التاريخ ـــ يعود إلى إبداع المؤرّخ وقدرته على فرض صورة سردية عن الماضي. والحق أنّ هناك ثلاثة أسباب تجعل المؤرّخ يعتبر التاريخ مادةً أدبية. أول هذه الأسباب ارتباط المؤرّخ بالوثيقة وما تتضمنه من نقائص. أما السبب الثاني فهو الحاجة إلى إقناع القارئ، ما يتطلب جهداً تفسيرياً. أما السبب الثالث، فيمثل ارتباط التاريخ بالسرد. سبق للمؤرّخ هايدن وايت أن وضّح كيف يشكّل السّرد الحلقة الرئيسية في كل العملية الاستوغرافية لأنه «في الوقت عينه أسلوب يتم بواسطته التأويل التاريخي، وخطاب تُفهم من خلاله القضايا التاريخية». وإجابة عن سؤالك، أقول باختصار شديد إنّني أحاول جهد طاقتي أن أوائم بين البحث التاريخي والإبداع الأدبي، أن أجدلهما في ضفيرة واحدة. إنني في سعي دائم للكتابة بطريقة أكثر حريّة وطرافةً وعُمقاً تأملياً، حتى أبرهن في النهاية أنه في مقدور الباحث أن يكون دقيقاً في كلامه واستنتاجاته وجذاباً في أسلوبه وعرضه في آن معاً. وأنا في هذا الصدد، لا أخفي إعجابي بالآراء الجريئة للمؤرخ والروائي الفرنسي من أصل بولندي إيان جابلونكه التي ضمّنها كتابه «التاريخ أدب معاصر». كتاب دعا فيه إلى المواءمة بين العلوم الاجتماعية والإبداع الأدبي. ويبقى الإنتاج الإبداعي بالنّسبة إليّ فضاء حريّة لا حدود له، إذ لا قيود تكبّلني – في ما أرى – خلافاً للسرديّة المرجعيّة التي تظل حبيسة نطاقات منهجية وإيبستيمولوجية صارمة.

خصّصت كتابك «دولة الهواة» للحديث عن الفشل العميق لصعود الحركات الإسلامية في تونس. برأيك، لماذا يفشل الإسلاميون في الحكم؟
ـــ دعني أقول باختزال شديد وببساطة، مع أنه موضوع يتشعّب ويطول، إن الإسلاميين فشلوا في امتحان الحكم في كل الدول التي أشرفوا على مقدّراتها لأنّهم ليسوا أهلاً لحكم الدولة الحديثة. وهذا على أي حال ما حصل في تونس خلال الحقبة 2011 -2021. أنا أعتبر تجربة حكم الإسلاميين في تونس حالة نموذجية فعلاً في هذا الصدد أي أنّها ــ كما يقول الفرنسيون ـــ تستحق الدراسة العميقة والتدبّر والتأمل. غياب البرنامج، واستسهال السلطة، والتفرّد بالحكم وابتلاع أجهزة الدولة أو ما يُعرف بالتمكين، مع غياب ثقافة الدولة، والجهل الكبير بطبيعة المجتمع التونسي وبتاريخه وبثوابته... كل هذا كان سبباً لغياب الكفاءة وانعدام الجدارة، ما أدّى إلى نتائج دراماتيكية وإلى دفع البلد تجاه اختناقه الأكثر حرجاً في تاريخه الألفي. ومن تمام الحق القول بأنّ بعض القياديين من «حزب النهضة» التونسي أمثال حمادي الجبالي وعبد الفتاح مورو ولطفي زيتون قد أقرّوا بالفشل الذريع لحزبهم في حكم تونس، ما يحمد ذلك لهم.