كاد وقع خطواتها على الرصيف الإسمنتي المتكسّر في بعض المواضع أن ينوّمها، أن يبعثها إلى ذلك المكان البعيد من هنا. أرسلت ببصرها نحو الستارة الثقيلة الزغبية المسدلة فوق العمارات ذوات الإبر العظيمة التي تخترق السماء البيضاء وأخذتها رائحة شجر الغابة النديّ بمطر جامد وتعفّن حبّات الفاكهة الغريبة الساقطة على الأرض. حاولت أن تتذكّر إن كانت أمها قد قدمت لزيارتها فعلاً البارحة أم إنها تخيّلت ذلك وكانت أطراف أصابعها تداعب زرين نحّاسين في جيب معطفها كانت قد تركتهما أمها لها في حال أضاعت أحد أزرار المعطف أو كسرته سهواً.أثارت، في تفحّصها القلق لمحيطها، رقعة بنية انتباهها. اقتربت من جذع إحدى الشجرات لتستدلّ عليها. كانت جثّة بنية برّاقة لسنجاب صغير بذنب طويل رائع وعينين منفتحتين على أوسعهما، أحد مخلبيه مثن كأنه يتضرع إلى شيء ما. وقفت مطولاً أمام السنجاب. كان نظيفاً جداً ولم تر أثر خدشة أو نقطة دم على جسمه، وكانت عيناه المفتوحتان برّاقتين نضرتين. تساءلت إن كان السنجاب يتظاهر بالموت فقط حتى لا يسرق إحدى ثمراته أو يؤذيه عابر طريق. فمشت قليلاً مبتعدةً عنه ثم لبثت مكانها جامدة تنتظر أن يثب السنجاب إلى الحركة مسرعاً. انتظرت مطوّلاً ولم يتحرّك السنجاب.
سارة لوكاس ـــ «امرأة وحمامة» (2011)

نزعت عنها معطفها الثقيل وأنامته على الكنبة الجلدية الضيقة بجانبها. بعثت رائحة الخشب القديم والجو المعتم، إلا من بعض اللمبات الخافتة في السقف الخشبي العالي، خمولاً شتوياً أشعرها بالنعاس. كان الرجل يجلس أمامها يحتسي شوربته مصدراً صوتاً مزعجاً بالنفخ عليها. «وعملك؟» سألها بألمانيته الرصينة. ردت عليه باقتضاب ملول. أجالت عينيها في معالم المكان وكان انعكاسها في المرآة الضخمة على يمينها يقلّد كل حركة طفيفة تصدر عنها كأنما في استهزاء. قاطع تفحّصها المسهب أحد أشباح الشهداء واستأذنها بالجلوس معهما لبرهة قصيرة. لم يعجب الرجل ذلك التطفل، لكنه لم يعلّق وأكمل احتساء طبقه. «طبعاً، اجلس أرجوك» دعته مبتسمة.
سألها الشبح، بصوته الشجن الممتد نحو الأفق، إن كانت تستطيع مساعدته في التقديم إلى تأشيرة إقامة في ألمانيا. «المعاملات الورقية كلّها باللغة الألمانية» أعلمها بأدب، «وأنا لا أعرف غير العربيّة... أنت خمّنت ذلك بالتأكيد. لا أريد تعطيلك، أنا سمعت فقط من أحدهم أنه بإمكانك المساعدة. وأنا أعرف أنهم هنا لا يحبّون إعطاء تأشيرات إقامة للأشباح العربية، ولكنني مضطر...». أطرق رأسه نحو الأرض وسادت فترة صمت لمحت، خلالها، رقعاً سوداء تتساقط عن الشبح ذي الصوت الشجن على الأرض. تظاهرت بعدم ملاحظتها وكانت قدم الشهيد اليمنى تدفع بروي الرقع إلى تحت الكرسي تحرجاً. وعدته بالمساعدة أقصى جهدها ومن ثم مزقت قصاصة ورقة من كتاب كانت تحمله كتبت عليها عنواناً وسلّمتها برفق للشبح. رد عليها بابتسامة منكسرة وأعلمها أنه يجب عليه الرحيل - مما ترك غصة في حلقها. ربتت على كتفه البارد في سلامه عليها مودّعاً. التفت للألماني الذي كان قد أنهى حساءه ويجلس صامتاً متابعاً إيّاهما. هزّ الشهيد رأسه مودعاً ورحل.
- «هل كان لزاماً أن تفعل ذلك؟» سألته منرفزة بألمانية مكسرة
ـ «أفعل ماذا؟»
ـ «أن تعامله بهذا البرود؟»
ـ «لم أعامله ببرود ـ أنا لم أتحدث معه أصلاً... لا أفهم لماذا يأتونك دائماً هكذا ويقاطعون اجتماعنا»
ـ «كنت منشغلاً بحسائك وأنا لم يطل حديثي معه»
ـ «نعم، لكنهم يفعلون ذلك دائماً. أكان هذا شبحاً فلسطينياً أيضاً أم عراقياً أم...؟»
ـ «وهل تكترث؟»
لم يرد عليها. بعد فترة صمت طلب أن يهدأ كلاهما وألا يعكرا صفو الليلة. قدم نادلاً كهلاً يحمل كعكة بيضاء صغيرة عليها شمعة واحدة نحوهما. لمحت تحت ضوء الشمعة الوحيدة الخافت التجعدات التي غزت يديه المرهقتين ولحقت ببصرها وجهه الذي كانت ملامحه تبان وتنضوي تحت الظلام الناعم والشمعة الصغيرة تنتفض فوق الكعكة. كانت عيناه المائيتان بسبب الكهل تكادا أن تكونا من غير لون، وكانت تعتلي عينه اليمنى ندبة كبيرة زهرية اللون لم تندمل أبداً. حطّ الرجل المتعب الكعكة على الطاولة بينهما متنهداً ورحل ببطء نحو المطبخ.
زادت محاولات الشمعة البائسة بالترويح عنها من نعاسها. ظلّت تراقب الشمعة بفضول بارد حتى قاطعها زوجها سائلاً إياها بغيظ «ما بك الآن؟ أهكذا تحتفلين بعيد زواجنا؟»
ـ «ما قصدك؟»
ـ «قصدي هذا الصمت. ما بك؟».
ــ «رأيت، أثناء المشي اليوم سنجاباً ميتاً بين الشجر».
أبعد زوجها السكينة التي كان على وشك تقطيع الكعكة بها إلى جنب. «أنا لا أفهمك حقاً. لماذا تفتحين سيرة كهذه ونحن على وشك تناول الحلوى؟».
أحزنها منظر زوجها الذي تغضّن وجهه كورقة في مهب الريح. اقتربت منه مصدرةً في حركتها صوت انزلاق حاداً من على السطح الجلدي للكرسي. أخذت بالسكينة وقطعت أربع قطع صغيرة لهما من الكعكة التي اندملت فوقها الشمعة تاركةً آثار اسوداد في المنتصف. وضعت قطعتَي كعك في صحنَيهما. ودفعت شوكة نحاسية برفق نحوه. انشقت شفتاها عن ابتسامة كسولة وباشر اثناهما بالأكل. بعد برهة قالت له «لقد ضحكت عليك...لم يكن السنجاب الذي رأيته ميتاً حقاً، كان فقط يتظاهر بالموت». ابتسم الرجل لزوجته التي كانت تأكل الكعكة بروي، ويدها اليسرى راقدة بجنبها، مثنية كأنها تتضرع إلى شيء ما.
* فلسطين